زعمهم نهي الصديق رضي الله عنه عن متعة الحج مخالفةً للسنة

الشبهة:

قالت الشيعة: إن النهي عن سنَّة رسول الله صلى الله عليه وآله في متعةِ الحجِّ بدأه أبو بكر في خلافته، واستدلوا على ذلك برواية الإمام أحمد قال: «حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَ عُرْوَةُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: حَتَّى مَتَى تُضِلُّ النَّاسَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ قَالَ: مَا ذَاكَ يَا عُرَيَّةُ؟ قَالَ: تَأْمُرُنَا بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَقَدْ نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدْ فَعَلَهَا رَسُولُ اللهِ r، فَقَالَ عُرْوَةُ: هُمَا كَانَا أَتْبَعَ لِرَسُولِ اللهِ r، وَأَعْلَمَ بِهِ مِنْكَ»([1]).

 

 ([1]) مسند أحمد (4/133) حديث (2277).

الرد علي الشبهة:

أولًا: أن النهي عن متعة الحج إنما اشتهر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يشتهر عن أبي بكر؛ ولذلك قال السندي مُعلِّقًا على استدلال عروة: «وقوله: (وقد نهى أبو بكر وعمر) لم يشتهر نهي أبي بكر رضي الله تعالى عنه أصلًا، ولعل عروة اعتمد في ذلك على مُوافقة عمر لأبي بكر، ثم إن عمر ما نهى عن العمرة في أشهر الحج مطلقًا، وإنما نهى عن المتعة فقط، فكأنه اعتمد على ظهور المقصود، فسامح في الكلام»([1]).

ولذلك اختلف أهل العلم في حج أبي بكر بالناس في خلافته، فمنهم من يقول: إنه حج بالناس، ومنهم من يقول: لم يحج بهم أصلًا.

قال ابن كثير: «وَفِيهَا -أي: سنة ثِنْتَي عشرة- حَجَّ بِالنَّاسِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ مَوْلَى الْحُرَقَةِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَهْمٍ، عَنْ أَبِي مَاجِدَةَ قَالَ: حَجَّ بِنَا أَبُو بَكْرٍ فِي خِلَافَتِهِ سَنَةَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ، فَذَكَرَ حَدِيثًا فِي الْقِصَاصِ مِنْ قَطْعِ الْأُذُنِ، وَأَنَّ عُمَرَ حَكَمَ فِي ذَلِكَ بِأَمْرِ الصِّدِّيقِ.

قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَمْ يَحُجَّ أَبُو بَكْرٍ فِي خِلَافَتِهِ، وَإِنَّهُ بَعَثَ عَلَى الْمَوْسِمِ سَنَةَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، أَوْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ»([2]).

والسبب أنه في فترة خلافته كان مشغولًا بالردة وحروبها، وإرجاع الناس إلى حظيرة الإسلام، ولم يكن متفرغًا للأمور الفقهية، كما قال الشاطبي: «لِضِيقِ زَمَانِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْفُرُوعِ، مَعَ شُغْلِهِ بِأَهْلِ الرِّدَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مما هُوَ أَوْكَدُ»([3])، وهذا مما يرجح كلام السندي.

ثانيًا: إن كلام عروة مع ابن عباس وسكوت ابن عباس دليلٌ على أن نهي أبي بكر وعمر لم يكن على وجه التشريع وتغيير الشرع؛ ولذلك فقد روى الطبراني: «عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، طَالَمَا أَضْلَلْتَ النَّاسَ! قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا عُرَيَّةُ؟ قَالَ: الرَّجُلُ يَخْرُجُ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ بِعُمْرَةٍ، فَإِذَا طَافَ زَعَمْتَ أَنَّهُ قَدْ حَلَّ فَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَنْهَيَانِ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَهُمَا -وَيْحَكَ- آثَرُ عِنْدَكَ أَمْ مَا فِي كِتَابِ اللهِ، وَمَا سَنَّ رَسُولُ اللهِ r فِي أَصْحَابِهِ وَفِي أُمَّتِهِ؟ فَقَالَ عُرْوَةُ: هُمَا كَانَا أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللهِ وَمَا سَنَّ رَسُولُ اللهِ r مِنِّي وَمِنْكَ، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: فَخَصَمَهُ عُرْوَةُ»([4]).

وغَلَبَة ابن الزبير لابن عباس هنا ليس إلا لأن ابن عباس ما فهم إلا أن النهي لم يكن تشريعًا، وإنما كان لمصلحة شرعية، كما سيأتي في ثالثًا.

ثالثًا: من القواعد الفقهية الكبرى المتفق عليها «تَصَرُّفُ الْإِمَامِ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ»([5])، ولذلك قال أهل العلم: إن الحاكم يجوز له أن ينهى عن مباح لدخول في أفضل؛ لتقريب الناس إلى الصلاح.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فقَدْ يَنْهَى السُّلْطَانُ بَعْضَ رَعِيَّتِهِ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ؛ لِتَحْصِيلِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ الْحَلَالُ حَرَامًا»([6]).

إذًا طالما أن النهي لم يخالف به الشرع، بل نهاهم عن مباح لدخول في أفضل دل عليه الشرع، فهذا من السياسة الشرعية للحاكم الواجب اتباعها.

قال ابن القيم: «فَقَالَ شَافِعِيٌّ: لَا سِيَاسَةَ إلَّا مَا وَافَقَ الشَّرْعَ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: السِّيَاسَةُ مَا كَانَ فِعْلًا يَكُونُ مَعَهُ النَّاسُ أَقْرَبَ إلَى الصَّلَاحِ، وَأَبْعَدَ عَنِ الْفَسَادِ، وَإِنْ لَمْ يَضَعْهُ الرَّسُولُ r، وَلَا نَزَلَ بِهِ وَحْيٌ، فَإِنْ أَرَدْت بِقَوْلِك: «إلَّا مَا وَافَقَ الشَّرْعَ» أَيْ لَمْ يُخَالِفْ مَا نَطَقَ بِهِ الشَّرْعُ فَصَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَدْت: لَا سِيَاسَةَ إلَّا مَا نَطَقَ بِهِ الشَّرْعُ فَغَلَطٌ»([7]).

والخلاصة: أن الحاكم إذا ألزم الناس بالفاضل وأمرهم بترك المفضول لمصلحة شرعية معتبرة كان هذا من السياسة الشرعية التي لا يُنكَر بها عليه.

وقد خرَّج ابن القيم نهي عمر عن الحج على ذلك فقال: [فَصْلٌ فِي سِيَاسَة الصَّحَابَة فِي قِيَادَة الْأَمَة مِنْ بَعْده r]

(فَصْلٌ) وَمِنْ ذَلِكَ: اخْتِيَارُهُ لِلنَّاسِ الْإِفْرَادَ بِالْحَجِّ؛ لِيَعْتَمِرُوا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَلَا يَزَالُ الْبَيْتُ الْحَرَامُ مَقْصُودًا، فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْمُتْعَةِ، وَأَنَّهُ أَوْجَبَ الْإِفْرَادَ، وَتَنَازَعَ فِي ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَأَكْثَرَ النَّاسُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ.

فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ قَالَ: «يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنَ السَّمَاء؛ أَقُولُ لَكُمْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ r، وَتَقُولُونَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ؟»، وَكَذَلِكَ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ كَانُوا إذَا احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَبِيهِ يَقُولُ: «إنَّ عُمَرَ لَمْ يُرِدْ مَا تَقُولُونَ»، فَإِذَا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَالَ: «أَفَرَسُولُ اللهِ r أَحَقُّ أَنْ تَتَّبِعُوا أَمْ عُمَرُ؟»([8]).

وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ هَذَا وَأَمْثَالَهُ سِيَاسَةٌ جُزْئِيَّةٌ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ، فَظَنَّهَا مَنْ ظَنَّهَا شَرَائِعَ عَامَّةً لَازِمَةً لِلْأُمَّةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

وَلِكُلٍّ عُذْرٌ وَأَجْرٌ، وَمَنِ اجْتَهَدَ فِي طَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ دَائِرٌ بَيْنَ الْأَجْرِ وَالْأَجْرَيْنِ، وَهَذِهِ السِّيَاسَةُ الَّتِي سَاسُوا بِهَا الْأُمَّةَ وَأَضْعَافُهَا هِيَ تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ»([9]).

يقول الإمام الخادمي: «كُلُّ مُبَاحٍ أَمَرَ بِهِ الْإِمَامُ لِمَصْلَحَةٍ دَاعِيَةٍ لِذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَى الرَّعِيَّةِ إتْيَانُهُ»([10]).

وعليه؛ فنهيه عنها -إن ثبت- هو من باب اختيار الأفضل للأمة، ولم ينه عنها تحريمًا لها، ولذلك فقد علق أبو أحمد محمد عبد الله الأعظمي المعروف بـ «الضياء» على تلك الروايات بقوله: «قلت: إذا صحَّ هذا عُلِمَ باليقين بأن الإفراد والقران والتمتع بالعمرة إلى الحجّ كلّها جائزة، وهو أمر لا خلاف بين الأمَّة، وإنما انحصر الخلاف بينهم في الأفضل منها»([11]).

والدليل على أن النهي عنْ متعة الحج ما كان إلا سياسة: ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما رواه البيهقي «عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «أَنَهَيْتَ عَنِ الْمُتْعَةِ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أَرَدْتُ كَثْرَةَ زِيَارَةِ الْبَيْتِ، قَالَ: فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَنْ أَفْرَدَ الْحَجَّ فَحَسَنٌ، وَمَنْ تَمَتَّعَ فَقَدْ أَخَذَ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ r»([12]).

وقد قرر هذه المسألة أيضًا من الشيعة عالمهم ناصر مكارم الشيرازي لما قال: «إنَّ الأحكام الكليَّة في التشريع تختلف عن الأحكام التنفيذية للحاكم، فالأحكام الكليَّة هي نفس القوانين الثابتة والمستمرة التي تبقى قائمة في كل عصر ومكان إلى يوم القيامة، إلَّا أنَّ الأحكام الصادرة عن الحاكم الشرعي هي التي تصدر بسبب الأمور الضرورية وأمثالها وبشكل مؤقت،  مثل حكم تحريم التنبَاكو الذي صدر في فترة محدَّدة لغرض محاربة الاستعمار الاقتصادي الإنجليزي من قِبَل مرجع كبيرٍ، ثم رفع بعد انتهاء الخطر، ويستفاد من القرائن الواردة في رواية الإمام الجواد عليه السلام وبشكل واضح أنه عليه السلام لما جاء إلى بغداد كان الشيعة يعانون الفاقة والضنك، وقد أقرَّ الإمام تعدد الخمس في تلك السنة لغرض حل هذه المشكلة بشكل خاص، والواقع أنَّه عليه السلام طبَّق أحكام العناوين الثانوية والضرورية على إحدى مصاديقها، بدون أن يمثل ذلك تشريعًا جديدًا.

ويمكن أن يكون حكم الزكاة الوارد في رواية الإمام أمير المؤمنين عليه السلام من هذا النوع أيضًا، ولذا فإنَّ هذا الحكم محدود بذلك الزمان فقط، ولم ينظر إليه الفقهاء كتشريع عام، ولم يصدروا فتاواهم طبقًا لتلك الفتوى»([13]).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وَإِنَّمَا وَجْهُ مَا فَعَلُوهُ أَنَّ عُمَرَ رَأَى النَّاسَ قَدْ أَخَذُوا بِالْمُتْعَةِ، فَلَمْ يَكُونُوا يَزُورُونَ الْكَعْبَةَ إِلَّا مَرَّةً فِي السَّنَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَيَجْعَلُونَ تِلْكَ السَّفْرَةِ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَكَرِهَ أَنْ يَبْقَى الْبَيْتُ مَهْجُورًا عَامَّةَ السَّنَةِ، وَأَحَبَّ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي سَائِرِ شُهُورِ السَّنَةِ لِيَبْقَى الْبَيْتُ مَعْمُورًا مَزُورًا كُلَّ وَقْتٍ بِعُمْرَةٍ يَنْشَأُ لَهَا سَفَرٌ مُفْرَدٌ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ r يَفْعَلُ؛ حَيْثُ اعْتَمَرَ قَبْلَ الْحَجَّةِ ثَلَاثَ عُمَرٍ مُفْرَدَاتٍ. وَعَلِمَ أَنَّ أَتَمَّ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَنْ يَنْشَأَ لَهُمَا سَفَرٌ مِنَ الْوَطَنِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ r، وَلَمْ يَرَ لِتَحْصِيلِ هَذَا الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ لِرَغْبَتِهِ طَرِيقًا إِلَّا أَنْ يَنْهَاهُمْ عَنِ الِاعْتِمَارِ مَعَ الْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا، فَقَدْ يَنْهَى السُّلْطَانُ بَعْضَ رَعِيَّتِهِ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، وَالْمُسْتَحَبَّاتِ لِتَحْصِيلِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ الْحَلَالُ حَرَامًا.

قَالَ يُوسُفُ بْنُ مَاهَكَ: «إِنَّمَا نَهَى عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ مِنْ أَجْلِ أَهْلِ الْبَلَدِ؛ لِيَكُونَ مَوْسِمَيْنِ فِي عَامٍ، فَيُصِيبُ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَنْفَعَتِهِمَا»، وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: «إِنَّمَا كَرِهَ عُمَرُ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ؛ إِرَادَةَ أَلَّا يُعَطَّلَ الْبَيْتُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ». رَوَاهُمَا سَعِيدٌ»([14]).

قلت: فالعلة إذًا هي أن يظل البيت عامرًا بالطائفين والعُمَّار، فأراد أن يخلص أشهر الحج للحج وباقي السنة للعمرة حتى لا يتعطل البيت في غير أشهر الحج، فكان النهي لتكثر زيارة الناس للبيت الحرام ويكثر عماره طوال السنة؛ لتحصل فائدة للحجاج والمعتمرين بإتمام الحج والعمرة، وبحصول الأجر بمشقة السفرتين، وتحصل الفائدة لأهل الحرم، فيدخل عليهم الرفق واليسار تحقيقًا لدعوة إبراهيم عليه السلام: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) [إبراهيم:37].

وعليه؛ فكان نهيُ أبي بكر-إن ثبت عنه- وعمر من أجل تلك المصالح الشرعية التي دل عليها الكتاب والسنة، وكان حملهما للناس على صورة من الصور التي جاء بها الشرع ولم يبتدعا صورة جديدة من صور النسك، وقد قررنا أن ذلك جائز للحاكم فعله بلا خلاف، وليس هو من باب التشريع ولا من باب البدعة، بل هو عين السنة التي دل عليها الكتاب والسنة.

ثالثًا: للرافضة أقول: إذا شنعتم على الصديق رضي الله عنه؛ لندبه الناس إلى أداء نسك من الأنساك وترك آخر سياسةً لا تشريعًا، وذلك لإعمار بيت الله الحرام، وزيادة أجر الناسكين، وليوافق الحال التي أمر بها الشارع في الحج، فماذا تقولون في علي والحسن والحسين والسجاد الذين لم يعرفوا الشيعة مناسك الحج كلها، فكتموا العلم عنهم، وما عرفوا منسكًا واحدًا من مناسك الحج ...!

فعن عيسى بن السري أبي اليسع قال: «قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أخبرني بدعائم الإسلام ... ثم كان محمد بن علي أبا جعفر، وكانت الشيعة قبل أن يكون أبو جعفر وهم لا يعرفون مناسك حجهم وحلالهم وحرامهم، حتى كان أبو جعفر ففتح لهم وبيَّن لهم مناسك حجهم وحلالهم وحرامهم..»([15]).

فالسؤال: لماذا كتم الأئمة علم رسول الله ﷺ عن شيعتهم، بينما الصديق والفاروق رضي الله عنهما يحجان بالناس ويأمرانهم بالحج، ويعرفانهم بسنة النبي r ويرشدانهم للأفضل؟!

رابعًا: جعلت الشيعة عين ما نقموه على الصديق حلالًا لأئمتهم، بل وأعظم منه، فقد أعطوا حق التشريع الكامل ونسخ الكتاب والسنة للإمام عندهم!

فقد جاء في موقع ياسر الحبيب السؤال: «هل الأئمة ينسخون القرآن الكريم؟!

بمراجعة الشيخ: إنما هذا في نسخ ما تضمنته الآيات من أحكام، لا نسخ ألفاظها أو تلاوتها، وذلك عائد في الحقيقة إلى الله تعالى الذي أوكل أمر بيان النسخ أو إنشائه للنبي والأئمة عليهم السلام...، ونحن حينما نقول بأن للأئمة عليهم السلام نسخ حكم الكتاب، فلا نعني بذلك إلا أنهم يخبرون بالنسخ عن رسول الله صلى الله عليه وآله عن الله تبارك وتعالى، وهو مقام الإخبار والبيان والتبليغ، بل حتى وهم في مقام الإنشاء والتشريع الابتدائي»([16]).

ويقول السيستاني في كتابه «اختلاف الحديث» بعدما قرر ثبوت حق التشريع للنبي r يقول: «هناك بعض الروايات التي تدل على أنه كلما فوض للنبي (ص) قد فوض الأئمة ما عدا النبوة، ومن جملة ما فوض له (ص) حق التشريع الدائم، إذًا فحق التشريع الدائم ثابت للأئمة (ع)»([17]).

فإذا كان الأئمة لهم حق التشريع فهم أنبياء بعد النبي r حقيقةً وفعلًا، وعندها يضيع دين محمد r كله، وليس فقط نسك من أنساك الحج.

 

 ([1]) حاشية مسند الإمام أحمد بن حنبل، محمد بن عبد الهادي السندي (2/424).

 ([2]) تاريخ دمشق، ابن عساكر (30/217)، تاريخ الطبري (3/386)، البداية والنهاية (9/537) ت التركي.

 ([3]) الاعتصام، الشاطبي (1/331).

 ([4]) المعجم الأوسط، الطبراني (١١/١)، وينظر: «مجمع الزوائد» (3/234).

 ([5]) الأشباه والنظائر، ابن نجيم (ص١٠٤).

 ([6]) شرح العمدة، ابن تيمية (1/528).

 ([7]) الطرق الحكمية، ابن القيم (ص١٢).

 ([8]) اشتهر أثرٌ لابنِ عباسٍ رضي اللهُ عنهما نصهُ: «يُوشِكُ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْكُمْ حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاءِ؛ أَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ r، وَتَقُولُونَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ؟».

بعد البحثِ في المصادرِ المعتبرةِ تبين أنه لا وجود له بهذا اللفظِ، وقد أوردهُ شيخُ الإسلامِ في «الفتاوى» (20/215)، (26/50 - 281)، والإمامُ ابنُ القيمِ في «إعلامِ الموقعين» (2/238)، و«الزاد» (2/195)، و«الصواعق المرسلة» (3/1063)، والشيخُ محمدُ بنُ عبدِ الوهاب في كتابِ «التوحيد»، باب: «من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أربابًا» بهذا اللفظ من غير ذكر المصدر له، أو حتى إسناده، وهذا اللفظ لم يثبت في أي رواية من روايات الحديث، ومثل هذا اللفظ يحتاج في ثبوته إلى إسناد صحيح، فكيف ولا إسناد له.

قال محقق الطرق الحكمية الطرق الحكمية في السياسة الشرعية (1/46): «لم أجده بهذا اللفظ»، ولكن روى أحمد (1/337)، والضياء في المختارة (10/331) رقم (357)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/377) رقم (379)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/1210) رقم (2381) نحوه ولفظه: «أراهم سيهلكون أقول: قال النبي r ويقولون: نهى أبو بكر وعمر». وحسنه ابن مفلح في الآداب الشرعية (2/70).

 ([9]) الطرق الحكمية (ص١٩).

 ([10]) «بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية في سيرة أحمدية»، محمد الخادمي (1/62).

 ([11]) «الجامع الكامل في الحديث الصحيح الشامل المرتب على أبواب الفقه» (5/145).

 ([12]) السنن الكبرى، البيهقي (5/30).

 ([13]) نفحات القرآن، ناصر مكارم الشيرازي (١٠/83).

 ([14]) شرح العمدة، ابن تيمية - كتاب الحج (1/528).

 ([15]) الكافي (٢/٢٠)، وقال المجلسي في «مرآة العقول» (٧/١٠٨): الحديث السادس: صحيح بسنديه.

 ([16]) https://www.alqatrah.net/

 ([17]) اختلاف الحديث، علي السيستاني (ص٢١).