أولًا: الدليل على أن أبا بكر وعمر كليهما «صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ»([1]) أنهما أطاعا النبي r، ففي رواية الكافي([2]) التي صححها علماء الشيعة، قال النراقي: «صحيحة أبي البختري عن الصادق عليه السلام قال: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وذلك أنهم لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظًّا وافرًا)»([3]).
فهذا دليل برهما وصدقهما ورشدهما واتباعهما للحق.
والثابت عند السنة والشيعة: أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما عَمِلا في أموال النبي r كما كان يفعل فيها، ومن المعلوم أن فدك كانت خالصةً لرسول الله r كخمس خيبر وحوائط بني النضير، فكان r يأخذ منها نفقة نسائه، وما بقي يجعله في الكراع والسلاح في سبيل الله، فكان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي على ذلك بلا خلاف بين أهل السنة والرافضة.
في رواية البخاري: «فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ: «لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ، إِنَّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ هَذَا المَالِ، يَعْنِي مَالَ اللهِ، لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَزِيدُوا عَلَى المَأْكَلِ»، وَإِنِّي وَاللهِ لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ صَدَقَاتِ النَّبِيِّ r الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا فِي عَهْدِه، وَلَأَعْمَلَنَّ فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ r، فَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ ثُمَّ قَالَ: إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَضِيلَتَكَ، وَذَكَرَ قَرَابَتَهُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ r وَحَقَّهُمْ، فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللهِ r أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي»([4]).
وقد اعترف ميثم البحراني بذلك؛ حيث قال:« إن أبا بكر كان يطبق ما وعد به فاطمة رضوان الله عليها.. حيث ذكروا أن أبا بكر كان يأخذ غلتها (أي: فدك) فيدفع إليهم (أي: أهل البيت) منها ما يكفيهم، ويقسم الباقي، فكان عمر كذلك، ثم كان عثمان كذلك، ثم كان عليٌّ كذلك»([5]).
فهذا اعتراف من الشيعة بأن أبا بكر وعمر عَمِلَا في أموال النبي r كما كان يفعل فيها r، وهذا أصدق دليل على أنه «صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ».
بل وزيادة على ذلك روى ابن شبة عَنْ عُرْوَةَ قوله: «... وَأَعْطَى فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا نَخْلًا يُقَالُ لَهُ: الْأَعْوَافُ، مِمَّا كَانَ لِرَسُولِ اللهِ r»([6]).
فإن قال أحد: إنَّ مَن عَمِلَ عَمَلَ رسول الله r «كَاذِب آثِم غَادِر خَائِن» فقد رجع الطعن إلى رسول الله r لا محالة.
ثانيًا: لما استخدم عمر t نفس ألفاظ العباس t لما وصف عليًّا t دلَّنا ذلك على أنه يقول لعلي والعباس: لو عملت أنا وأبو بكر بخلاف الصواب الذي أمر به رسول الله r لاستحققنا تلك الأوصاف، كما أن العباس لما رآك عملت بخلاف ما يعتقد أنه الصواب وصفك بتلك الأوصاف، وقد كانت صدقة النبي r التي في المدينة، فأعطى عمر إدارتها لعلي والعباس، فاختلفا في مجرد الإدارة.
ففي رواية الصحيحين: «فَأَمَّا صَدَقَتُهُ بِالْمَدِينَةِ فَدَفَعَهَا عُمَرُ إِلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ، وَأَمَّا خَيْبَرُ وَفَدَكٌ فَأَمْسَكَهَا عُمَرُ وَقَالَ: هُمَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللهِ r، كَانَتَا لِحُقُوقِهِ الَّتِي تَعْرُوهُ وَنَوَائِبِهِ، وَأَمْرُهُمَا إِلَى مَنْ وَلِيَ الأَمْرَ..»([7]).
ثالثًا: عقيدة علي في فدك تبرئ أبا بكر وعمر من تلك التهمة؛ لأن عليًّا لم يعتقد وجوب تملك أموال رسول الله r، وإنما كان يريد إدارتها فقط.
وقد صح ضرورةً عند السنة والشيعة أن عليًّا لما تولى الخلافة لم يَرُدَّ فدك إلى ورثتها الشرعيين، ففي أحكام المواريث ذكر علماؤهم أحكام المناسخات، وقرروا وجوب توزيع التركة، حتى ولو مات الوارث الأول([8]).
ومن الأدلة على أن عليًّا t لم يرد فدك: حديث الكافي([9]) الذي قال المجلسي عنه: «الحديث عندي معتبر»([10])، وفيه: «... أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم u فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله صلى الله عليه وآله، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة عليها السلام».
قال المازندراني: «دل على أنه عليه السلام لم يرد فدكًا في خلافته؛ لإفضائه إلى الفساد والتفرقة، فلا ترد ما أورده بعض العامة من أن أخذ فدك لو لم يكن حقًّا لرده عليه السلام في خلافته»([11]).
وفي رواية (علل الشرائع) بسنده عن أبي الحسن قال: «سألته عن أمير المؤمنين: لِمَ لَمْ يسترجع فدكًا لما ولى الناس؟ فقال: لأنَّا أهل بيت لا نأخذ حقوقنا ممن ظلمنا إلا هو، ونحن أولياء المؤمنين، إنما نحكم لهم، ونأخذ حقوقهم ممن ظلمهم، ولا نأخذ لأنفسنا»([12]).
قلت: وهذا عين الحمق؛ لأنه يلزم من ذلك أن فاطمة خالفت الشرع المنسوب إلى أهل البيت لما طالبت بفدك من أبي بكر الذي أخذها ظُلمًا حسب زعم الشيعة.
وقال محسن الأمين: «الصحيح أن عليًّا لم يقم بإدارة فدك، ولم تدفع إليه بعد وفاة النبي (ص)، وخرجت عن يده ويد زوجته الزهراء، ولم تعد إلى ورثة الزهراء إلا في خلافة عمر بن عبد العزيز، وخلافة السفاح، والمهدي، والمأمون»([13]).
وقد عللوا ذلك بعجز عليٍّ t عن تطبيق الشريعة، في كتاب (الأراضي) لمحمد إسحاق الفياض قال: «أمير المؤمنين (ع) لا يقدر على تغيير ما صنعه الخلفاء قبله»([14]).
قلت: والعاجز لا يصلح للإمامة قطعًا.
فثبت من هذا أن عليًّا t عمل في فدك بما عمل فيها الخلفاء الراشدون قبله، ولم يعرف تلك العقيدة المنسوبة إليه من الشيعة، وبه يظهر أن تلك الألفاظ التي صدرت من عمر لم تكن هي عقيدة علي بن أبي طالب t.
رابعًا: مجيء علِي t للتحاكم عند عمر t دليل على أنه لا يعتقد حقائق تلك الأوصاف لا في أبي بكر ولا في عمر، ولو اعتقدها لكان قد جهل دين الشيعة.
جاء في (الكافي)([15]) وقال المجلسي عنه: موثق([16]): «مَن تحاكم إلى الطاغوت فحكم له فإنما يأخذ سُحْتًا، وإن كان حقه ثابتًا؛ لأنه أخذ بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن يكفر به».
فلو كان عمر بتلك الأوصاف لما جاز أن يتحاكم إليه عليٌّ والعباس.
سادسًا: هناك قرائنُ قويةٌ تقرر أن الكلام خرج مخرج الاستفهام الإنكاري، وهذا موجود في لغة العرب بكثرة، وكذلك في القرآن الكريم.
قال النحاس في قوله: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) [الأنبياء:34]، «جيء بالفاء التي في (فَهُمُ) عند الفراء لتدلَّ على الشرط؛ لأنه جواب قولهم: ستموت، ويجوز أن يكون جيءِ بها لأن التقدير فيها: أفهم الخالدون إن متَّ؟ قال الفراء: ويجوز حذف الفاء وإضمارها؛ لأن هُم لا يتبيَّن فيها الإعراب، أو لأن المعنى: أهم الخالدون إن مت؟»([17]).
وقال الطبرسي: «(فهم الخالدون) أي: أفهم يخلدون بعدك -يعنى مشركي مكة حين قالوا: نتربص بمحمد ريب المنون- فقال: لئن مت فإنهم أيضًا يموتون، فأي فائدة لهم في تمني موتك»([18]).
فيكون تقدير كلام عمر t: «أفَرَأَيْتُمَاهُ كَاذِبًا آثِمًا غَادِرًا خَائِنًا؟»، وكذلك قوله: «أفَرَأَيْتُمَانِي كَاذِبًا آثِمًا غَادِرًا خَائِنًا؟» على تقدير الاستفهام الإنكاري.
والدليل على ذلك القرائن الواضحة في الرواية، ومنها:
- مناشدته بالله لعلي والعباس وباقي الصحابة رضي الله عنهم أن النبي r قال: «لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ»، فكلهم صدّقه وقال له: نعم، أي: أنهم أقروا جميعًا بمن فيهم علِي والعباس بذلك، ومن المستحيل أن يتواطأ جميع هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم على الكذب على رسول الله r.
- قول عمر عن نفسه وعن أبي بكر رضي الله عنهما: (لَصَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ)، وتصديق علِي والعباس رضي الله عنهما على ذلك.
قال ابن حجر الهيتمي: « فَحِينَئِذٍ أثْبتَ عمرُ أَنه غير إِرْث ثمَّ دَفعه إِلَيْهِمَا؛ ليعملا فِيهِ بِسنة رَسُول الله r وبسنة أبي بكر فَأَخَذَاهُ على ذَلِك، وَبَيَّن لَهما أَن مَا فعله أَبُو بكر فِيهِ كَانَ فِيهِ صادقًا بارًا راشدًا تَابعًا للحق، فصدَّقَاهُ علَى ذَلِك»([19]).
- قول عمر t: «فَقُلْتُ إِنْ شِئْتُمْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللهِ أَنْ تَعْمَلَا فِيهَا بِالَّذِي كَانَ يَعْمَلُ رَسُولُ اللهِ r فَأَخَذْتُمَاهَا بِذَلِكَ»، فكيف يكون كاذبًا آثمًا غادرًا خائنًا مَن يأخذ عهد الله عليهما أن يعملَا فيها بالذي كان يعمل رسول اللهr ؟!
كل هذه القرائن تدل دلالة واضحة على أن المفهوم من كلام عمر t هو مدح لا قدح، والله تعالى أعلم([20]).
وأما طعن الشيعة في بعضهم؛ فهو مما لا يكاد يعد أو يحصى، ومنه:
1- أن الأصبغ بن نباته، وهو ثقة من خواص أصحاب علِي لدى الشيعة، ومع ذلك هو ملعون هو وأصحابه على لسان رسول الله ﷺ عندهم:
جاء في كتاب (العوالم) للإمام الحسين والكلام موجه للأصبغ: «... فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله يعض على الأنامل وهو يقول: بئس الخلف خلفتني أنت وأصحابك، عليكم لعنة الله ولعنتي»([21]).
فهذا ملعون وثِقة، ولا شك أنكم التمستم له تبريرات.
2- قول الحسن لعبد الله بن علي: لعنك الله من كافر.
وقد عجز المجلسي عن توجيه هذه المسألة فقال: «وأما ما تضمن من قول الحسن عليه السلام لعبد الله بن علي فيشكل توجيهه؛ لأنه كان من السعداء الذين استشهدوا مع الحسين صلوات الله عليه على ما ذكره المفيد وغيره، والقول بأنه عليه السلام علم أنه لو بقي بعد ذلك، ولم يستشهد لكفر بعيد»([22]).
3- اتهام الشيعة محمد ابن الحنفية بالزنا.
ففي (الكافي) بسنده: «...أن امرأة أقرت عند أمير المؤمنين عليه السلام بالزنا أربع مرات، فأمر قنبرًا فنادى بالناس فاجتمعوا، وقام أمير المؤمنين عليه السلام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن إمامكم خارج بهذه المرأة إلى هذا الظهر؛ ليقيم عليها الحد إن شاء الله ... ونادى بأعلى صوته: أيها الناس، إن الله عهد إلى نبيه صلى الله عليه وآله عهدًا عهده محمد صلى الله عليه وآله إليَّ، بأنّه لا يقيم الحد مَن لله عليه حد، فمن كان لله عليه مثل مَا لَهُ عليها فلا يقيم عليها الحد، قال: فانصرف الناس يومئذ كلهم ما خلا أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام، فأقام هؤلاء الثلاثة عليها الحد يومئذ، وما معهم غيرهم، قال: وانصرف يومئذ فيمن انصرف محمد ابن أمير المؤمنين عليه السلام»([23]).
فها هو محمد بن علي بن أبي طالب يقول عنه الشيعة: إنه وقع في فاحشة الزنا، رحمه الله وحاشاه.
([1]) صحيح البخاري (4/97).
- ([2]) الكافي، الكليني (1/33).
([3]) عوائد الأيام، النراقي (ص463)، المكاسب، الأنصاري (3/551)، نهج الفقامة، محسن الحكيم (ص297)، الاجتهاد والتقليد، الخميني (ص32)، البيع، الخميني (2/645)، دراسات في ولاية الفقيه الفقيه، المنتظري (1/467).
([4]) صحيح البخاري (5/20).
- ([5]) شرح النهج، ابن ميثم (5/107).
([6]) تاريخ المدينة، ابن شبة (1/211).
([7]) صحيح البخاري (4/79).
([8]) تحرير الأحكام، الحلي (5/95 - 98)، الينابيع الفقهية، علي أصغر مرواريد (2/138 - 139)، فقه الصادق، محمد صادق الروحاني (24/461).
- ([9]) الكافي، الكيني (8/59).
([10]) مرآة العقول، المجلسي (25/131).
([11]) شرح أصول الكافي، المازندراني (11/398).
([12]) -علل الشرائع، الصدوق (1/155).
- ([13]) أعيان الشيعة، محسن الأمين (11/308).
([14]) الأراضي، محمد إسحاق الفياض (ص278).
- ([15]) الكافي، الكليني (7/412).
([16]) مرآة العقول، المجلسي (24/275).
- ([17]) إعراب القرآن، أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النَّحَّاس (3/50).
- ([18]) تفسير مجمع البيان، الطبرسي (7/84(.
- ([19]) الصواعق المحرقة، أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي (1/9).
- ([20]) الجواهر البغدادية (5/17 - 18.(
([22]) -بحار الأنوار، المجلسي (13/307)، تفسير العياشي، محمد بن مسعود العياشي (2/333)، تفسير نور الثقلين، الحويزي (3/278)، البرهان، هاشم البحراني (2/476).
2- الكافي، الكليني (7/188).