هذه الشبهة أن دلت على شيء؛ فإنما تدل على عقولِ الرافضة المنكوسة، وذلك من عدة أوجهٍ:
أولًا: تخريج الرواية:
روى أبو عوانة قال: «حدثنا الحسن بن عفان، ثنا أبو أسامة، ثنا مالك بن مغول عن طلحة بن مصرف اليامي قال: سألت عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي قلت: هل أوصى رسول الله r؟ قال: لا، قلت: فكيف أمر المسلمين بالوصية؟ قال: أوصى بكتاب الله، قال: قال هزيل: أبو بكر كان يتأمَّر على وصي رسول الله r، لَوَدَّ أبو بكر أنه وجد عهدًا من رسول الله r فخزم كلاهما بخزام»([1]).
وعند الدارمي: «حدثنا محمد بن يوسف، عن مالك بن مغول، عن طلحة بن مصرف اليامي قال: سألت عبد الله بن أبي أوفى ثَمَّ: أوصى رسول الله r؟ قال: لا، قلت: فكيف كتب على الناس الوصية أو أمروا بالوصية؟ فقال: أوصى بكتاب الله، وقال هزيل بن شرحبيل: أبو بكر كان يتأمَّر على وصي رسول الله r، وَدَّ أبو بكر أنه وجد من رسول r عهدًا فخزم كلاهما بخزامة ذلك»([2]).
في مسند البزار: «أخبرناه الوليد بن عمرو قال: أخبرنا يعقوب قال: أخبرنا مالك بن مغول، عن طلحة بن مصرف، عن ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال: سألته: هل أوصى النبي؟ قال: لا، قال: قلت: كيف كتب على الناس الوصية وأمروا بها ولم يوص؟ قال: أوصى بكتاب الله، وقال هزيل بن شرحبيل: كان أبو بكر يتأمَّر على وصيِّ رسول الله، ود أبو بكر لَوْ وجد من رسول الله في ذلك عهدًا فخزم كلاهما بخزامة»([3]).
وفي مسند الإمام أحمد: «حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا وكيع، ثنا مالك بن مغول، عن طلحة بن مصرف قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى ثَمَّ: أوصى النبيُّ r بشيء؟ قال: لا، قلت: فكيف أمر المسلمين بالوصية؟ قال: أوصى بكتاب الله عز وجل، قال مالك بن مغول: قال طلحة: وقال الهذيل بن شرحبيل: أبو بكر رضي الله عنه كان يتأمَّر على وصي رسول الله r، وَدَّ أبو بكر رضي الله عنه أنه وجد مع رسول الله r عهدًا فخزم كلاهما بخزام»([4]).
وفي مسند الحميدي قال: «ثنا سفيان قال: ثنا مالك بن مغول، عن طلحة بن مصرف قال: سألت عبد الله بن أبي أوفى ثَمَّ: هل أوصى رسول الله r؟ فقال: لم يترك رسول الله r شيئًا يوصي فيه، قلت: وكيف أمر الناس بالوصية ولم يوص؟ قال: أوصى بكتاب الله، قال طلحة: قال الهزيل بن شرحبيل: أبو بكر يتقدم على وصيِّ رسول الله r، ود أبو بكر أنه وجد من رسول الله عهدًا فخزم به كلاهما»([5]).
وعند ابن ماجه: «حدثنا علي بن محمد، ثنا وكيع، عن مالك بن مغول، عن طلحة بن مصرف قال ثَمَّ، قلت لعبد الله بن أبي أوفى: أوصى رسول الله r بشيء؟ قال: لا، قلتُ: فكيف أمر المسلمين بالوصية؟ قال: أوصى بكتاب الله، قال مالك: وقال طلحة بن مصرف: قال الهزيل بن شرحبيل: أبو بكر كان يتأَمَّرُ على وصيِ رسول الله r، وَدَّ أبو بكر أنه وجد من رسول الله r عهدًا فخزم كلاهما بخزام»([6]).
فالأثر مذكور في كتب أو أبواب فيمن لم يوصّ (من الوصية) وغيره من العناوين الدالَّة على ذلك، فكيف يُسْتَدَلُ به على الوصاية؟!
ثانيًا: الكلام لهزيل بن شرحبيل، وليس نصًّا عن النبي r، وهزيل تابعي ثقه والأثر يصح، لكن السؤال: ماذا قَصَدَ هزيل؟
من تأَمَّلَ في المصادر السابقة وجد أنها تتكلم في الوصية، ويدل على ذلك اسم الباب أو الكتاب الذي ذُكِرَ فيه الأثر (باب من لم يوص – كتاب الوصايا).
ثالثًا: المرادُ من كلامِ هزيلٍ بن شرحبيل أنه استفهام إنكاري، ويؤيد ذلك رواية ابن سعد في الطبقات قال: «أخبرنا وكيع بن الجراح وشعيب بن حرب، عن مالك بن مغول، عن طلحة بن مصرف قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى: آوصى النبي r المسلمين بالوصية؟ قال: أوصى بكتاب الله، قال مالك: وقال طلحة: قال هزيل بن شرحبيل: أَأَبُو بكر كان يتأمَّر على وصي رسول الله r؟ وَدَّ أبو بكر أنه وجد من رسول الله r عهدًا فخزم كلاهما بخزامة»([7]).
وفي رواية أخرى: «وقال هزيل: أكان أبو بكر يتأمَّر على وصي رسول الله؟! لَوَدَّ أبو بكر أنه وجد من رسول الله r عقدًا فخزم كلاهما بخزامة»([8]).
فالرواية الأولى فيها «أأبو بكر... إلخ»، أما الثانية ففيها: «أكان...»، فهزيلٌ يستنكر أن تكونَ هناك وصيةٌ لأحد، ولا ينقاد لها أبو بكر رضي الله عنه.
رابعًا: قوله: «فخزم كلاهما بخزام» في كتب اللغة: قال في النهاية: معناه: لو كان على معهودًا عليه بالخلافةِ لكان في أبي بكر من الطاعة والانقياد إليه ما يكون في الجمل الذليل المنقاد بخزامته، وهي بمعجمتين، حبل في أنف البعير»([9]).
وفي مختار الصحاح: «خَزَم البعير بالخِزّامةِ، وهي حلقة من شعر تُجعل في وترةِ أنفه، يُشد فيها الزمامُ، ويقالُ لكل مثقوب: مَخْزُومٌ، والطيرُ كلها مخزومة؛ لأن وترات أنوفها مثقوبة، والخُزَامَى خيري البر»([10]).
وفي لسان العرب: «خَزَمَ الشيءَ يَخْزِمُهُ خَزْمًا: شَكَّهُ، والـخِزامةُ: بُرَةٌ، حَلَقَةٌ تُجعَلُ فـي أَحدِ جانِبَـيْ مَنْـخِرَي البعيِر، وقـيل: هي حَلقةٌ من شَعَرٍ تـجعل فـي وَتَرَةِ أَنفه يُشَدُّ بها الزِّمامُ»([11]).
فالكلمةُ معناها واضحٌ، وهي تفيد الانقيادَ، أي: يخزم أنفَه فينقاد كما ينقاد الجمل، وفي ذلك بيان أن الأمر (الخلافة والإمامة) لم يوجد فيها وصية أبدًا، ولو وُجِدَ لخزم أبو بكر رضي الله عنه أنفه فيها، أي لزم نفسه فيها، فينقاد لمن وصى له الرسول r.
وكذلك ولو دققنا النظر في كلمة وَدَّ (فتح الواو، وتشديد الدال مع فتحها) لوجدنا أن أبا بكر كان كارهًا للمسألة، ولم يتمنَّها أبدًا، ويدل على ذلك أيضًا أنه لم يطلبها (الخلافة).
وبهذا يتضح معنى كلام هزيل، وهو مدح للصديق رضي الله عنه وليس ذما، لكنها الأهواء المريضة، والنفوس المعوجة.
([1]) مسند أبي عوانة (3/475).
([2]) سنن الدارمي (2/496).
([3]) مسند البزار (8/297 - 298).
([5]) مسند الحميدي (2/315)..
([6]) سنن ابن ماجه (2/900)..
([7]) طبقات ابن سعد (2/260).
([8]) المصدر السابق (3/183).
([9]) شرح سنن ابن ماجه، السيوطي (ص193).
([10]) مختار الصحاح (1/73).
([11]) لسان العرب (12/174).