زعم النفاق في الإسلام يحتاج إلى تصريح من صاحبه، أو قرائن قوية تدل على ذلك ولا تقبل النقض، ولو جعلنا الأصل اتهام من يدخل في الإسلام بالنفاق لمجرد الظن والتهمة لما سلم من ذلك أحد البتة، فهذا أسامةُ بن زيد حب النبي ق قتل رجلًا أسلم بحجة أنه قال كلمة التوحيد خوفًا على نفسه، فعنَّفه النبي ق([1]).
والأمران كلاهما –التصريح أو القرائن- منتف في حق أمير المؤمنين ذي النورين عثمان بن عفان ا، فلا هو صرح بذلك بنقل صحيح، ولا جاء عنه بكلام صريح، ولا ظهرت منه قرائن ولو ضعيفة -فضلًا عن القوية- دلت على ذلك!
وردت الأدلة على عكس التهمة الرافضية، فدل النقل والقرائن على صحة إسلامه! وحديث إسلامه ا يناقض هذا الادعاء الرافضي.
فقد أخرج ابن عساكر في تاريخه عن عمرو بن عثمان قال: «إني ذات ليلة بفناء الكعبة قاعد في رهط من قريش؛ إذ أُتِينَا فقيل لنا: إن محمدًا قد أنكح عتبة بن أبي لهب من رقية ابنته، وكانت رقية ذات جمال رائع، قال عثمان: فدخلتني الحسرة، لم لا أكون أنا سبقت إلى ذلك؟ قال: فلم ألبث أن انصرفت إلى منزلي، فأصبت خالةً لي قاعدة وأم عثمان أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وأمها البيضاء أم حكيم بنت عبد المطلب، وخالته التي أصابها عند أهله سعدى بنت كريز، قال عثمان: وكانت قد طرقت وتكهنت عند قومها، فلما أتتني قالت:
أَبْشِرْ وَحُيِّيِتَ ثَلَاثًا تَتْرَا
|
\
|
ثُمَّ ثَلَاثًا وَثَلَاثًا أُخْرَى
|
ثُمَّ بِأُخْرَى كَيْ تَتِمَّ عَشْرَا
|
\
|
أَتَاكَ خَيْرٌ وَوُقِيتَ شَرَّا
|
أُنْكِحْتِ وَاللَّهِ حَصَانًا زَهْرَا
|
\
|
وَأَنْتَ بِكْرٌ وَلَقِيتَ بِكْرَا
|
وَافَيْتَهَا بِنْتَ عَظِيمٍ قَدْرَا
|
\
|
ابَنَيْتَ أَمْرًا قَدْ أَشَادَ ذِكْرَ
|
قال عثمان: فعجبت من قولها وقلت: يا خالة، ما تقولين؟ فقالت:
عُثْمَانُ لَكَ الْجَمَالُ وَلَكَ اللِّسَانُ
|
\
|
هَذَا نَبِيٌّ مَعَهُ الْبُرْهَانُ
|
أَرْسَلَهُ بِحَقِّهِ الدَّيَّانُ
|
\
|
وَجَاءَهُ التَّنْزِيلُ وَالْفُرْقَانُ
|
فَاتْبَعْهُ لَا تَغْتَالُكَ الْأَوْثَانُ
|
قال: قلت: يا خالة، إنك لتذكرين شيئًا ما وقع ذكره ببلدنا فأبينيه لي، فقالت:
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
|
\
|
رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
|
جَاءَ بِتَنْزِيلِ اللَّهِ
|
\
|
يَدْعُو بِهِ إِلَى اللَّهِ
|
ثُمَّ قَالَتْ:
مِصْبَاحُهُ مِصْبَاحُ
|
\
|
وَدِينُهُ فَلَاحُ
|
وَأَمْرُهُ نَجَاحُ
|
\
|
وَقَرْنُهُ نَطَاحُ
|
ذَلَّتْ لَهُ الْبِطَاحُ
|
\
|
مَا يَنْفَعُ الصِّيَاحُ
|
لَوْ وَقَعَ الذِّبَاحُ
|
\
|
وَسُلَّتِ الصِّفَاحُ
|
وَمُدَّتِ الرِّمَاحُ
|
قال: ثم انصرفت ووقع كلامها في قلبي، وجعلت أفكر فيه، وكان لي مجلس عند أبي بكر، فأتيته فأصبته في مجلس ليس عنده أحد، فجلست إليه فرآني مفكِّرًا، فسألني عن أمري، وكان رجلًا متأنيًا، فأخبرته بما سمعت من خالتي، فقال: ويحك يا عثمان، إنك لرجل حازم ما يخفى عليك الحق من الباطل، هذه الأوثان التي يعبدها قومنا أليست من حجارة صم لا تسمع ولا تبصر، ولا تضر ولا تنفع؟ قال: قلت: بلى والله إنها كذلك، قال: فقد والله صدقتك خالتك، هذا رسول الله محمد بن عبد الله قد بعثه الله تعالى برسالته إلى خلقه، فهل لك أن تأتيه فتسمع منه؟ قال: قلت: أجل، فوالله ما كان أسرع من أن مر رسول الله ق ومعه علي بن أبي طالب يحمل ثوبًا، فلما رآه أبو بكر قام إليه فسارَّه في أذنه بشيء، فجاء رسول الله ق فقعد ثم أقبل عليَّ فقال: يا عثمان، أجب الله إلى جنته؛ فإني رسول الله إليك وإلى خلقه.
قال: فوالله ما تمالكت حين سمعت قوله أن أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم لم ألبث أن تزوجتُ رقية بنت رسول الله ق، فكان يقال: أحسن زوج رقية وعثمان، قال عمارة بن زيد: وكان يقال: أحسن زوج رآه إنسان * رقية وزوجها عثمان»([2]).
إذًا فعثمان قد تحسَّر لما علم بزواج رقية من عُتبة بن أبي لهب وندم أن فاتته، لكنه لم يُسلم طلبًا لها، فإنها قد تزوجت وانتهى أمرها، ثم لما بشَّرته خالته بالنكاح ونبوة النبي ق وكلَّمه الصديق بضرر الأوثان وصدق النبي ق ذهب إلى النبي ق، فلما سمع الحق منه أسلم، والرواية تصرح بكون عثمان ا أسلم اتباعًا للحق وقناعةً به، فقد جاء في الخبر قول النبي ق: «يا عثمان، أجب الله إلى جنته؛ فإني رسول الله إليك وإلى خلقه» فما كان جواب عثمان إلا أن قال: «فوالله ما تمالكت حين سمعت قوله أن أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له» فهذا صريح في إسلامه طمعًا في الجنة وخوفًا من النار، لا كما زعمت الرافضة.
وقد جاءت الأدلة الصريحة الدالة على إسلامه حبًّا في الحق وبغضًا في الباطل، فأخرج ابن عساكر في تاريخه عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي قال: «لما أسلم عثمان بن عفان أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية فأوثقه رباطًا، وقال: نزعت عن ملة آبائك إلى دين محدث؟! والله لا أحلك أبدًا حتى تدع ما أنت عليه من هذا الدين، فقال عثمان: والله لا أدعه أبدًا ولا أفارقه، فلما رأى الحكم صلابته في دينه تركه»([3]).
فهذا صريح في صحة إسلامه ا، وأنه إنما كان حبًّا للحق ورغبةً فيه لا في غيره، فضلًا عن كونه ا أسلم ولا زالت رقية زوجة لعتبة بن أبي لهب، فكيف يسلم لهدف قد فاته بالأصالة؟! وهو لا يدري الغيب؛ إذ قد يسلم عتبة وتبقى رقية في عصمته أبدًا ولا ينالها عثمان قط! فما أقوال الرافضة إلا درب من الخيالات والأوهام لا أكثر.
ذكرت الشيعة أن تزويج عثمان من رقية إنما كان بعد تجهيزه لجيش العسرة وحفره بئر رومة، وكان سبب نكاحها منه أنها أرادت البيت الذي له في الجنة!
فقد أخرج البحراني في تفسيره عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ S قَالَ: «كَانَ السَّبَبُ فِي تَزْوِيجِ رُقَيَّةَ مِنْ عُثْمَانَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ نَادَى فِي أَصْحَابِهِ: مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ وَحَفَرَ بِئْرَ رُومَةَ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِمَا مِنْ مَالِهِ، ضَمِنْتُ لَهُ عَلَى اللهِ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ.
فَأَنْفَقَ عُثْمَانُ عَلَى الْجَيْشِ وَالْبِئْرِ، فَصَارَ لَهُ الْبَيْتُ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ عُثْمَانُ ابْنُ عَفَّانَ: أَنَا أُنْفِقُ عَلَيْهِمَا مِنْ مَالِي، وَتَضْمَنُ لِي الْبَيْتَ فِي الْجَنَّةِ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: أَنْفِقْ -يَا عُثْمَانُ- عَلَيْهِمَا، وَأَنَا الضَّامِنُ لَكَ عَلَى اللهِ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ.
فَأَنْفَقَ عُثْمَانُ عَلَى الْجَيْشِ وَالْبِئْرِ، فَصَارَ لَهُ الْبَيْتُ فِي ضَمَانِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ؛ فَأُلْقِيَ فِي قَلْبِ عُثْمَانَ أَنْ يَخْطُبَ رُقَيَّةَ، فَخَطَبَهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ، فَقَالَ: إِنَّ رُقَيَّةَ تَقُولُ: لَا تُزَوِّجُكَ نَفْسَهَا إِلَّا بِتَسْلِيمِ الْبَيْتِ الَّذِي ضَمِنْتُهُ لَكَ عِنْدَ اللهِ D فِي الْجَنَّةِ إِلَيْهَا بِصَدَاقِهَا»([4]).
لو فرضنَا جدلًا أن عثمان أسلم نفاقًا وزوَّجَهُ النبي ق ابنته، فكيف يرضى النبي ق بأن تنكح ابنته رجلًا منافقًا غير مَرضيِّ الديانة؟! أليس في هذا اتهام صريح للنبي ق؟!
وقد انتبه بعض علماء الشيعة لمثل هذه المعضلة في قضية تزويج علي ابنته أم كلثوم من عمر تَقِيةً فقال: «ذكر بعض مشاهير أهل الحديث -لا أحبُّ ذكر اسمه- شيئًا أفحش وأشنع مما روي في هذا الخبر، وهو أنَّ نكاح أمِّ كلثوم لم يكن صحيحًا في ظاهر الشرع أيضًا، ولكنَّه وقع للتقيَّة والاضطرار، فإنَّ كثيرًا من المحرّمات تنقلب عند الضرورة أحكامها...، إلى آخر ما قال، وأنا لا أرضى بأن أنسب الزّنا إلى ذرّيَّة رسول الله صلى الله عليه وآله، لا للتقيّة ولا للضرورة، وإن لزم منه كفر جميع المسلمين وإيمان جميع الكفَّار»([5]).
([1]) أخرج الشيخان في صحيحيهما أنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ ب قَالَ: «بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ ق إِلَى الحُرَقَةِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَصَبَّحْنَا القَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَكَفَّ عَنْهُ الأَنْصَارِيُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ق، فَقَالَ لِي: «يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟!» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا، قَالَ: «أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟!» قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ اليَوْمِ». صحيح البخاري (٤/٩)، صحيح مسلم (١/٩٧).
([2]) تاريخ دمشق، ابن عساكر (25/39).
([3]) تاريخ دمشق، ابن عساكر (26/39)، الطبقات الكبرى، ابن سعد (3/52) ط الخانجي.
([4]) البرهان في تفسير القرآن، البحراني (5/663).
([5]) الوافي، الفيض الكاشاني (21/108).