فقضية استلحاق زياد لأبي سفيان من قِبَل معاوية لم يثبت فيها إسناد صحيح، وإنما ساقها المؤرخون سَوْقًا بغير إسنادٍ أو سَوْقَ تجهيلٍ.
فهذا ابن جرير الطبري قال في أحداث سنة أربعة وأربعين: «وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اسْتَلْحَقَ مُعَاوِيَةُ نَسَبَ زِيَادِ بن سُمَيَّةَ بِأَبِيهِ أَبِي سُفْيَانَ فِيمَا قِيلَ»([1]) فساقها الطبري بغير إحالة تُذكر.
وقد ساق ابن الأثير قصة في ذلك لا يصح لها إسناد، وصدرها بقوله: «قيل»، وهي صيغة تمريض تدل على ضعف الخبر، فقال: «قِيلَ: أَرَادَ زِيَادٌ أَنْ يَحُجَّ بَعْدَ أَنِ اسْتَلْحَقَهُ مُعَاوِيَةُ، فَسَمِعَ أَخُوهُ أَبُو بَكْرَةَ، وَكَانَ مُهَاجِرًا لَهُ مِنْ حِينِ خَالَفَهُ فِي الشَّهَادَةِ (بِالزِّنَا) عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ...»([2]).
والذي يظهر أن زيادًا هو الذي ادَّعى ذلك، وهذا هو ما ذهب إليه الدكتور خالد الغيث في رسالته (مرويات خلافة معاوية)؛ حيث قال: «أما اتهام معاوية ا باستلحاق نسب زياد، فإني لم أقف على رواية صحيحة صريحة العبارة تؤكد ذلك، هذا فضلًا عن أن صحبة معاوية ا وعدالته ودينه وفقهه تمنعه من أن يرد قضاء رسول الله ق، لا سيما وأن معاوية أحد رواة حديث: «الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ»([3]).
وجَّه الدكتور خالد الغيث التهمة إلى زياد ابن أبيه بأنه هو الذي ألحق نسبه بنسب أبي سفيان، واستدل برواية أخرجها مسلم في صحيحه من طريق أَبِي عُثْمَانَ النهدي قَالَ: «لَمَّا ادَّعَى زِيَادٌ، لَقِيتُ أَبَا بَكْرَةَ فَقُلْتُ لَهُ: مَا هَذَا الَّذِي صَنَعْتُمْ؟ إِنِّي سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُول: سَمِعَ أُذُنَايَ مِنْ رَسُولِ اللهِ ص وَهُوَ يَقُولُ: مَنِ ادَّعَى أَبًا فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ أَبِيهِ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ، فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ص»([4]).
قال الإمام النووي V مُعلقًا على هذا الخبر: «فَمَعْنَى هَذَا الْكَلَام الْإِنْكَار عَلَى أَبِي بَكْرَة؛ وَذَلِكَ أَنَّ زِيَادًا هَذَا الْمَذْكُورُ هُوَ الْمَعْرُوف بِزِيَادِ بْن أَبِي سُفْيَان، وَيُقَال فِيهِ: زياد ابن أبيه، وَيُقَال: زِيَاد ابْن أُمِّهِ، وَهُوَ أَخُو أَبِي بَكْرَة لِأُمِّهِ، وَكَانَ يُعْرَف بِزِيَادِ بْن عُبَيْد الثَّقَفِيّ، ثُمَّ اِدَّعَاهُ مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَان وَأَلْحَقَهُ بِأَبِيهِ أَبِي سُفْيَان، وَصَارَ مِنْ جُمْلَة أَصْحَابه بَعْد أَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب ا، فَلِهَذَا قَالَ أَبُو عُثْمَان لِأَبِي بَكْرَة: مَا هَذَا الَّذِي صَنَعْتُمْ؟ وَكَانَ أَبُو بَكْرَة ا مِمَّنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَهَجَرَ بِسَبَبِهِ زِيَادًا، وَحَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَهُ أَبَدًا.
وَلَعَلَّ أَبَا عُثْمَان لَمْ يَبْلُغْهُ إِنْكَار أَبِي بَكْرَة حِين قَالَ لَهُ هَذَا الْكَلَام، أَوْ أن يَكُون مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ: مَا هَذَا الَّذِي صَنَعْتُمْ؟ أَيْ مَا هَذَا الَّذِي جَرَى مِنْ أَخِيك؟ مَا أَقْبَحَهُ وَأَعْظَم عُقُوبَته! فَإِنَّ النَّبِيَّ ص حَرَّمَ عَلَى فَاعِلهِ الْجَنَّة»([5]).
وبهذا يكون زيادٌ هو المدعِي؛ ولذلك هجره أخوه أبو بكرة ا وأنكر عليهم أبو عثمان ا، ويزيد هذا الأمر تأكيدًا ما أورده الحافظ أبو نعيم في ترجمة زياد ابن أبيه؛ حيث قال: «زياد ابن سمية ادَّعَى أبا سفيان فنُسب إليه»([6]).
وقال ابن الصلاح: «قَول أبي عُثْمَان -وَهُوَ النَّهْدِيّ- لما ادُّعِيَ زِيَادٌ -هُوَ بِضَم ادّعى على مَا لم يسم فَاعله- وشاهدته بِخَط الْحَافِظ أبي عَامر الْعَبدَرِي ادّعَى بِالْفَتْح على أَن زيادًا هُوَ الْفَاعِل للدعوة»([7])، وبذلك يكون زياد هو المدِّعِي.
الحديث الذي روته أم المؤمنين عائشة ل من قَول النَّبِيِّ ق: «الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ»([8]) لا يدخل في مسألة استلحاق زياد؛ لأن سمية لم تكن فراشًا لأحد حتى يقال: «إن زيادًا للفراش، وأن لأبي سفيان الحجر»، ولذلك كان المشهور أنه زياد ابن أبيه، مما يدل على أن الحارث بن كلدة لم ينسبه لنفسه ولم ينازِع فيه، وقد كان أهل الجاهلية يثبتون الأنساب للعواهر، وجاء الإسلام فلم يغير تلك الأنساب، وعفا عما سلف من أمر الجاهلية، ولا يعاب أبو سفيان على ما فعله في الجاهلية.
يقول الشيخ عثمان الخميس: «زِيَادٌ لَيْسَ ابْنًا لِعُبَيْدٍ الثَّقَفِيِّ، بَلْ كَانَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِزياد ابن أبيه أَوِ ابْنِ سُمَيَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ سُمَيَّةَ بِالزِّنَا (هُوَ وَلَدُ زِنَا، وَلَا يَضُرُّهُ هَذَا شَيْئًا، فَلَيْسَ لَهُ ذَنْبٌ فِيهِ)، كَانَ جَاءَهَا بَعْضُ الرِّجَالِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْهُمْ أَبُو سُفْيَانَ وَالِدُ مُعَاوِيَةَ (وَهَذَا الزِّنَا لَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَقَدْ كَانُوا مُشْرِكِينَ، فَالزِّنَا أَهْوَنُ مِنَ الشِّرْكِ)، وَكَانَ زِيَادٌ وَالِيًا مِنْ وُلَاةِ عَلِيٍّ ا، وَكَانَ رَجُلًا مُفَوَّهًا خَطِيبًا مُتَكَلِّمًا، وَمُعَاويَةُ ا أَخْبَرَهُ وَالِدُهُ أَنَّ زِيَادًا هَذَا ابْنُهُ مِنْ سُمَيَّةَ، ابْنُ زِنَا صَحِيحٌ لَكِنْ مِنْ ظَهْرِهِ، وَلَم يَكُنْ أَحَدٌ ادَّعَى زِيَادًا، وَلَم يَكُن لِسُمَيَّةَ زَوْجٌ، لَوْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ لَقُلْنَا: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، لَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ، هِيَ أَمَةٌ جَامَعَهَا أَبُو سُفْيَانَ فَأَتَتْ مِنْهُ بِزِيَادٍ فَاسْتَلْحَقَهُ مُعَاوِيَةُ، وَقَدْ بَلَغَ مُعَاوِيَةَ إِنْكَارُ ابْنِ عَامِرٍ عَلَيْهِ اسْتِلْحَاقَ زِيَادٍ.
قَالَ مُعَاوِيَةُ: يَا ابْنَ عَامِرٍ، أَنْتَ الْقَائِلُ فِي زِيَادٍ مَا قُلْتَ! أَمَا وَاللهِ لَقَدْ عَلِمَتِ الْعَرَبُ أَنِّي كُنْتُ أَعَزَّهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَم يَزدْ فِيَّ إِلَّا عِزًّا وَإِنّي لَمْ أَتَكَثَّرْ بِزِيَادٍ مِنْ قِلَّةٍ وَلَمْ أَتَعَزَّزْ بِهِ مِنْ ذِلَّةٍ، وَلَكِنْ عَرَفْتُ حَقًّا لَهُ فَوَضعْتُه مَوْضِعَهُ.
وَالَّذِينَ أَنْكَرُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ اسْتِلْحَاقَهُ زِيَادًا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ مِن بَابِ أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لِلْوَارِثِ أَنْ يَسْتَلْحِقَ أَحَدًا؟ أَمْ لَا يَجُوزُ؟
مَسْأَلَةٌ فِقْهِيَّةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَلِذَلِكَ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ إِنَّمَا يُسَمُّونَ زِيَادًا، زِيَادَ ابْنَ أَبِي سُفْيانَ، فَهَذَا الَّذِي عَابُوا فِيه مُعَاوِيَةَ ا وَأَرْضَاهُ، وعليه فلا تثريب على معاوية لو كان قد استلحق زيادًا»([9]).
يقول ابن الأثير: «وَمَنِ اعْتَذَرَ لِمُعَاوِيَةَ قَالَ: إِنَّمَا اسْتَلْحَقَ مُعَاوِيَةُ زِيَادًا؛ لِأَنَّ أَنْكِحَةَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ أَنْوَاعًا، لَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِ جَمِيعِهَا، وَكَانَ مِنْهَا أَنَّ الْجَمَاعَةَ يُجَامِعُونَ الْبَغِيَّ فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَلَدَتْ أَلْحَقَتِ الْوَلَدَ لِمَنْ شَاءَتْ مِنْهُمْ فَيَلْحَقُهُ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ حَرَّمَ هَذَا النِّكَاحَ، إِلَّا أَنَّهُ أَقَرَّ كُلَّ وَلَدٍ كَانَ يُنْسَبُ إِلَى أَبٍ مِنْ أَيِّ نِكَاحٍ كَانَ مِنْ أَنْكِحَتِهِمْ عَلَى نَسَبِهِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهَا، فَتَوَهَّمَ مُعَاوِيَةُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اسْتِلْحَاقٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ»([10]).
لم يُعرف لزيادٍ أبٌ، فإنِ ادَّعاه أحد وكان له بيِّنة فقد ثبت النسب بذلك، وهذا إجماع عند السنة والشيعة، وأما عند أهل السنة فيقول الخطابي: «هذه أحكام وقعت في أول زمان الشريعة، وكان حدوثها بين الجاهلية وبين قيام الإسلام، وفي ظاهر هذا الكلام تعقد وإشكال، وتحرير ذلك وبيانه أن أهل الجاهلية كانت لهم إماء تساعين، وهن البغايا اللواتي ذكرهن الله تعالى في قوله: [ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ] {النور:33}؛ إذ كان ساداتهن يُلِمُّونَ بهن ولا يجتنبوهن، فإذا جاءت الواحدة منهن بولد وكان سيدها يطؤها وقد وطئها غيره بالزنا، فربما ادَّعاه الزاني وادعاه السيد، فحكم ق بالولد لسيدها؛ لأن الأَمَة فراش له كالحُرَّة، ونفاه عن الزاني، فإن ادُّعِي للزاني مدة وبقي على ذلك إلى أن مات السيد ولم يكن ادعاه في حياته ولا أنكره، ثم ادعاه ورثته بعد موته واستلحقوه فإنه يلحق به، ولا يرث أباه ولا يشارك إخوته الذين استلحقوه في ميراثهم من أبيهم إذا كانت القسمة قد مضت قبل أن يستلحقه الورثة، وجعل حكم ذلك حكم ما مضى في الجاهلية فعفا عنه ولم يرد إلى حكم الإسلام، فإن أدرك ميراثًا لم يكن قد قُسم إلى أن ثبت نسبه باستلحاق الورثة إياه كان شريكهم فيه أسوة من يساويه في النسب منهم، فإن مات من إخوته بعد ذلك أحد ولم يخلف من يحجبه عن الميراث ورثه، فإن كان سيد الأمة أنكر الحمل وكان لم يدعه فإنه لا يلحق به»([11]).
والشيعة يقولون إن أحدًا لم يدّعِ زيادًا، وأن الذي ادّعاه هو أبو سفيان أو معاوية، فيصح بناء على ما سبق ذلك الادّعاء، ويُنسب زياد شرعًا لأبي سفيان؛ حيث لا فراش ينازعه في زياد.
وقال شيخهم محمد علي الأنصاري في الموسوعة الفقهية الميسرة: «ادعي الإجماع مستفيضًا على صحة الإقرار بالنسب إجمالًا، وتفصيله كالآتي:
أولًا: الإقرار بالولد: يشترط في صحة الإقرار بالولد -إضافة إلى الشروط العامة في الإقرار- أمور أربعة:
1- أن تكون البنوةُ ممكنةً في حقه، فلو أقر ببنوة صغير ولد في منطقة بعيدة لم يسافر هو إليها ولم تسافر الأم إلى المنطقة التي هو فيها منذ سنين لم يُقبل منه الإقرار.
وكذا لو أقر ببنوة من هو أكبر منه، أو مساو له في السن، أو أصغر منه بما لم تجر العادة بولادة مثله منه، كمن أقر ببنوة من بلغ عشر سنين وهو ابن ثماني عشرة سنة.
2- أن يكون المقر به مجهول النسب، فلو كان نسبه معلومًا لم يقبل إقراره.
3- أن لا ينازعه فيه أحد، فلو ادّعَى شخص آخر بنوته لم يقبل إقراره، بل لا بد من إثبات النسب حينئذ بالبيِّنة أو القرعة.
هذه الشروط الثلاثة مشتركة بين الإقرار بالولد الصغير والولد الكبير، ولا خلاف فيها -كما قيل- وإن اختلف التعبير عنها.
4- أن يصدقه المقر به إذا كان كبيرًا.
ذكر الشيخ الطوسي هذا الشرط في المبسوط وتبعه جميع من تأخر عنه، كما قال صاحب الجواهر»([12]).
وجميع هذه الشروط متحققةٌ في مسألة زياد مع أبي سفيان، فالحارث بن كلدة لم يدّع زيادًا ولا كان إليه منسوبًا، وإنما كان ابن أَمَتِه وُلد على فراشه، أي في داره، وقد كانت سمية من البغايا، ومثلها لا يقال لها إنها فراش لأحد بعينه، فكل من ادّعاه فهو له إلا أن يعارضه من هو أولى به منه، ولم نعلم أحدًا ادّعى زيادًا أو نازع فيه أبا سفيان، فلما أقرّ به أبو سفيان وكان ينسبه لنفسه في حياته، فصح شرعًا من أبي سفيان أو من معاوية -على التسليم جدلًا بأنهم ادَّعَوْه- أن يدعيه أحدهم، فلا تثريب إذًا على أحد نسب زيادًا إلى أبي سفيان.
بمثل هذا المذكور في قصة زياد قد أثبتت الرافضة نسب سيدهم السيستاني، فقد نُقل عن الطباطبائي البروجردي: «وُلد السيستاني في مدينة مشهد شرق إيران؛ حيث يوجد ضريح الإمام علي الرضا، ثامن أئمة الشيعة، في التاسع من شهر ربيع الأول عام 1349 هجري، أي في 4 أغسطس 1930 ميلادي، والده من القرعة هو محمد باقر! ووالدته هي زوجة آية الله رضا المهرباني السرابي، والدته كانت تتمتع كثيرًا تقربًا لله حسب معتقد الطائفة، وقد تزوجت بالعقد المنقطع من محمد الحجة الكوهكمري، وبعد فترة تزوجت آية الله الميرزا محمد مهدي الأصفهاني متعةً أيضًا، وبعد مدة تزوجت من العالم السيد محمد باقر متعة للمرة الثالثة، وبعد هذا الزواج المتكرر خلال شهر واحد حملت والدة السيستاني بالسيستاني، ولم تكن تعلم بمن يلحق السيستاني، فانتقلت والدته إلى الحوزة العلمية الدينية في قُمّ المقدسة، فأفتى لها العلامة آية الله حسين الطباطبائي البروجردي، وقال: بما أن علاقة الأول قد انقطعت فلا يلحق السيستاني به، وحينئذ إن كان عقد الأول والثاني كلاهما في زمان مدة الأول، فالعقدان كلاهما باطل، ويكون الوطء من كليهما شبهة، وعليه فيكون السيستاني مرددًا بينهما، فبالقرعة اختاروا محمد باقر والد للسيستاني»([13]).
ومع التنزل جدلًا بادِّعاء معاوية أو غيره لزياد نقول: إن هذا الحكم قد يخفى على المدعي، ويكون ذلك الوعيد الوارد في الحديث غير منطبق عليه؛ لدخوله شرعًا في دائرة العذر بالجهل.
يقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة V: «فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ لَا يُصِيبُهُ هَذَا الْوَعِيدُ لَوْ أَنَّهُ فَعَلَ التَّحْلِيلَ مُعْتَقِدًا حِلَّهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَلَا يَمْنَعُنَا ذَلِكَ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ التَّحْلِيلَ سَبَبٌ لِهَذَا الْوَعِيدِ وَإِنْ تَخَلَّفَ فِي حَقِّ بَعْضِ الْأَشْخَاصِ لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ، وَكَذَلِكَ اسْتِلْحَاقُ مُعَاوِيَةَ ا زياد ابن أبيه الْمَوْلُودَ عَلَى فِرَاشِ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ؛ لِكَوْنِ أَبِي سُفْيَانَ كَانَ يَقُولُ: إنَّهُ مِنْ نُطْفَتِهِ مَعَ أَنَّهُ ق قَدْ قَالَ: مَن اُدُّعِيَ إلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ، وَقَالَ: مَن اُدُّعِيَ إلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا. (حَدِيثٌ صَحِيحٌ)، وَقَضَى أَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ، وَهُوَ مِن الْأَحْكَامِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مَن انْتَسَبَ إلَى غَيْرِ الْأَبِ الَّذِي هُوَ صَاحِبُ الْفِرَاشِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي كَلَامِ الرَّسُولِ ق، مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَيَّنَ أَحَدٌ دُونَ الصَّحَابَةِ فَضْلًا عَن الصَّحَابَةِ، فَيُقَالُ: إنَّ هَذَا الْوَعِيدَ لَاحِقٌ بِهِ لِإِمْكَانِ أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ قَضَاءُ رَسُولِ اللهِ ق بِأَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْوَلَدَ لِمَنْ أَحْبَلَ أُمَّهُ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ هُوَ الْمُحْبِلُ لِسُمَيَّةَ أُمِّ زِيَادٍ، فَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ قَدْ يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِن النَّاسِ لَا سِيَّمَا قَبْلَ انْتِشَارِ السُّنَّةِ، مَعَ أَنَّ الْعَادَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ هَكَذَا، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِن الْمَوَانِعِ الْمَانِعَةِ هَذَا الْمُقْتَضِي لِلْوَعِيدِ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَهُ مِنْ حَسَنَاتٍ تَمْحُو السَّيِّئَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ»([14]).
وهذا أولى بالعذر من القائل بتحريف القرآن، والذي حكمه عند الشيعة أنه مجتهد مخطئ لا غير ذلك، والمجتهد المخطئ مأجور لا مأزور عندهم.
ورد في حلية الأولياء: «حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: ثنا أَبُو الْعَبَّاسِ الثَّقَفِيُّ، قَالَ: ثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثنا عَطَّافُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ حَرْمَلَةَ، قَالَ: مَا سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، سَبَّ أَحَدًا مِنَ الْأَئِمَّةِ قَطُّ، إِلَّا أَنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَاتَلَ اللهُ فُلَانًا، كَانَ أَوَّلَ مَنْ غَيَّرَ قَضَاءَ رَسُولِ اللهِ ق وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ق: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ»([15]).
والجواب:
أن الرواية ساقطة الإسناد؛ إذ فيها عطاف بن خالد، ضعفه الدارقطني([16])، وقال مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْمُزَنِيُّ: «سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: وَيُكْتَبُ عَنْ مِثْلِ عَطَّافِ بْنِ خَالِدٍ؟ لَقَدْ أَدْرَكْتُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ سَبْعِينَ شَيْخًا كُلُّهُمْ خَيْرٌ مِنْ عَطَّافٍ، مَا كَتَبْتُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يُكْتَبُ الْعِلْمُ عَنْ قَوْمٍ قَدْ جَرَى فِيهِمُ الْعِلْمُ»([17]).
وقال ابن الجوزي: «عطاف بن خَالِد بن عبد الله أَبُو صَفْوَان الْقرشِي المَخْزُومِي الْمدنِي يروي عَن نَافِع، تكلم فِيهِ مَالك وَلم يحمده، قَالَ يحيى: لَيْسَ بِهِ بَأْس، وَقَالَ أَحْمد: ثِقَة، وَقَالَ الرَّازِيّ: لَيْسَ بِذَاكَ، وَقَالَ ابْن حبَان: يروي عَن الثِّقَات مَا لَا يشبه حَدِيثهمْ، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ إِلَّا فِيمَا يُوَافق الثِّقَات»([18]).
وفي إسناده كذلك عبد الرحمن بن حَرْمَلَة، ضعَّفه يحيى بن سعيد وَالْبُخَارِيّ([19]) وقال: «لَا يَصح حَدِيثه»([20]).
فهذان الراويان مطعونٌ في وثاقتهما ومختلف فيهما عند أهل العلم، وبمثلهما لا تقوم حجة، هذا فضلًا عما في الرواية من إبهام؛ إذ لم تُعيِّن من الذي يقصده سعيد بن المسيب ولم تسمِّه، وهذا بنفسه مُسقِطٌ للتشخيص.
وخلاصة الأمر: أنه لم يثبت أن معاوية ادَّعَى زيادًا بإسناد صحيح، ولو ثبتت لما كان عليه مطعن؛ لِمَا ذكرناه.
([1]) تاريخ الطبري (5/214).
([2]) الكامل في التاريخ، ابن الأثير (3/42) تتمة الخبر: «فَلَمَّا سَمِعَ بِحَجِّهِ جَاءَ إِلَى بَيْتِهِ وَأَخَذَ ابْنًا لَهُ وَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ قُلْ لِأَبِيكَ إِنَّنِي سَمِعْتُ أَنَّكَ تُرِيدُ الْحَجَّ وَلَا بُدَّ مِنْ قُدُومِكَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَا شَكَّ أَنْ تَطْلُبَ الِاجْتِمَاعَ بِأُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ زَوْجِ النَّبِيِّ ق، فَإِنْ أَذِنَتْ لَكَ فَأَعْظِمْ بِهِ خِزْيًا مَعَ رَسُولِ اللهِ ق وَإِنْ مَنَعَتْكَ فَأَعْظِمْ بِهِ، فَضِيحَةً فِي الدُّنْيَا وَتَكْذِيبًا لِأَعْدَائِكَ».
([3]) مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري (ص372 - 379).
([5]) شرح النووي على صحيح مسلم (2/52).
([6]) معرفة الصحابة (3/1217).
([7]) صيانة صحيح مسلم، ابن الصلاح (ص٢٣٧).
([8]) صحيح البخاري (3/54)، صحيح مسلم (2/1080).
([9]) حقبة من التاريخ (ص٣٣٠ - ٣٣١)
([10]) الكامل في التاريخ (3/42).
([11]) معالم السنن، الخطابي (3/ 274، 273).
([12]) الموسوعة الفقهية الميسرة، محمد علي الأنصاري (٤/٣٦٩).
([13]) فضل المتعة في شيعة آل البيت، الطباطبائي البروجردي (ص137).
([14]) مجموع الفتاوى، ابن تيمية (20/267).
([15]) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، ط السعادة (2/167).
([16]) الضعفاء والمتروكون، الدارقطني (2/167).
([17]) الضعفاء الكبير، العقيلي (3/425).
([18]) الضعفاء والمتروكون، ابن الجوزي (2/179).
([19]) الضعفاء والمتروكون، ابن الجوزي (2/92).
([20]) الضعفاء الصغير، البخاري (ص70) ت زايد.