لم يثبت عن معاوية في ذلك إسناد صحيح، وقد كان أصل تلك البلايا محمد بن عمر الواقدي، قال الطبري: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنِي يَحْيَى بن سعيد بن دينار، عن أبيه قال: قال مُعَاوِيَة: «إني رأيت أن منبر رَسُول الله ص وعصاه لا يتركان بِالْمَدِينَةِ، وهم قتلة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَان وأعداؤه، فلما قدم طلب العصا وَهِيَ عِنْدَ سعدٍ القرظ، فجاءه أَبُو هُرَيْرَةَ وجابر بن عَبْدِ اللهِ فقالا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نذكرك الله D أن تفعل هَذَا، فإن هَذَا لا يصلح، تخرج منبر رسول الله ص من موضع وضعه، وتخرج عصاه إِلَى الشام! فنقل المسجد، فأقصر وزاد فِيهِ ست درجات، فهو اليوم ثماني درجات، واعتذر إِلَى النَّاسِ مما صنع».
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ أَبَانِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ قَالَ: «كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَدْ هَمَّ بِالْمِنْبَرِ، فَقَالَ لَهُ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ: أُذَكِّرُكَ اللهَ D أَنْ تَفْعَلَ هَذَا وَأَنْ تُحَوِّلَهُ! إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَةَ حَرَّكَهُ فَكَسَفَتِ الشمس، وقال رسول الله ص: مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي آثِمًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، فَتَخَرَّجَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُقَطِّعُ الْحُقُوقِ بَيْنَهُمْ بِالْمَدِينَةِ! فَأَقْصَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ ذَلِكَ»([1]).
وهذه الروايات كلها ساقطة بالواقدي، فهو متروك الرواية إجماعًا، قال محقق تاريخ الطبري([2]): «الواقدي متروك، قلنا: هذه روايات ثلاث من طريق الواقدي المتهم بالكذب والوضع من قبل الشافعي والنسائي وأبي حاتم الرازي، وقال الذهبي: استقر الإجماع على وهن الواقدي»([3]).
وهذا فضلًا عن الانقطاع بين الطبري والواقدي؛ فإن الأخير توفي سنة ٢٠٧هـ، والطبري ولد سنة ٢٢٤هـ، فشتان بينهما أن يتداركا، وليس من الغريب أن تصدر أمثال هذه المكذوبات من أمثال الواقدي، فقد جرحه الأئمة وتركوه بحق.
«وسيدنا معاوية كاتب وحي رسول الله ق أجلُّ وأرفع من أن يفكِّر بهذه الصورة، ولكن ماذا نقول لقوم أعمى الحقد على صحابة رسول الله بصائرهم، فاتكؤوا على هذه الروايات الواهية المكذوبة، وروّجوا لها مع صِنْوهم من المستشرقين الحاقدين على التاريخ الإسلامي؟! والمرء يُحشر مع من أحب، نسأل الله الستر والسلامة»([4]).
قال الحافظ ابن حجر: «وَلَمْ يَزَلِ الْمِنْبَرُ عَلَى حَالِهِ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ حَتَّى زَادَهُ مَرْوَانُ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ سِتَّ دَرَجَاتٍ مِنْ أَسْفَلِهِ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا حَكَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ بِإِسْنَادِهِ إِلَى حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: بَعَثَ مُعَاوِيَةُ إِلَى مَرْوَانَ وَهُوَ عَامِلُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ أَنْ يَحْمِلَ إِلَيْهِ الْمِنْبَرَ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُلِعَ فَأَظْلَمَتِ الْمَدِينَةُ، فَخَرَجَ مَرْوَانُ فَخَطَبَ وَقَالَ: إِنَّمَا أَمَرَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ أَرْفَعَهُ، فَدَعَا نَجَّارًا وَكَانَ ثَلَاثَ دَرَجَات فَزَاد فِيهِ الزِّيَادَة الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا الْيَوْمَ، وَرَوَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَالَ: فَكَسَفَتِ الشَّمْسُ حَتَّى رَأَيْنَا النُّجُومَ، وَقَالَ: فَزَادَ فِيهِ سِتَّ دَرَجَاتٍ، وَقَالَ: إِنَّمَا زِدْتُ فِيهِ حِين كثر النَّاس»([5]). ونقل السيوطي قريبًا من كلامه([6]).
الجواب:
كلام الحافظ ابن حجر مردود من وجهين:
الوجه الأول: قول الحافظ ابن حجر V: «وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ مَا حَكَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ بِإِسْنَادِهِ إِلَى حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ» فيه نظر:
فبالرجوع إلى أخبار المدينة للزبير بن بكار، تراه ينقل الرواية عن ابن زبالة ولم يذكر الواسطة التي بينهما، فقال: «وأسند ابن زبالة، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه قال: بعث معاوية ا إلى مروان يأمره أن يحمل إليه منبر النبي ق ...»([7]).
وبذلك الانقطاع بين ابن زبالة والزبير بن بكار يَفْسُد هذا الخبر.
الوجه الثاني: الذي أسند الخبر هو ابن زبالة، وهو كالواقدي من حيث عدم قبول روايته، ليس بثقة، واهي الحديث، وقد كان لصًّا يسرقه.
قال ابن أبي حاتم: «سئل يحيى بن معين عن محمد بن الحسن بن زبالة فقال: ليس بثقة، كان يسرق الحديث، نا عبد الرحمن قال: سألت أبي عن محمد بن الحسن بن زبالة المديني فقال: ما أشبه حديثه بحديث عمر بن أبى بكر المؤملي والواقدي ويعقوب الزهري والعباس بن أبي شملة وعبد العزيز ابن عمران الزهري، وهم ضعفاء مشايخ أهل المدينة.
نا عبد الرحمن قال: سألت أبي عن ابن زبالة فقال: واهي الحديث، ضعيف الحديث، ذاهب الحديث، منكر الحديث عنده مناكير وليس بمتروك الحديث، سئل أبو زرعة عن محمد بن الحسن بن أبي الحسن فقال: هو ابن زبالة وهو واهي الحديث»([8]).
وزد على هذا أن كتابه هذا مفقود، فلا يمكننا بحال أن نقف على الإسناد الذي بينه وبين حميد بن عبد الرحمن بن عوف!
قال عطاء -إمام أهل مكة- في تاريخ مكة للفاكِهي: «مَا جَلَسَ النَّبِيُّ ق عَلَى مِنْبَرٍ حَتَّى مَاتَ -يَعْنِي يَوْمَ الْفِطْرِ- وَإِنَّمَا كَانُوا يَخْطُبُونَ قِيَامًا لَا يَجْلِسُونَ، قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ مِنْبَرٌ إِلَّا مِنْبَرُ النَّبِيِّ ق، حَتَّى جَاءَ مُعَاوِيَةُ أَوْ حَجَّ بِمِنْبَرٍ، فَلَمْ يَزَالُوا يَخْطُبُونَ عَلَى الْمَنَابِرِ بَعْدَهُ، وَقَالَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ: أَوَّلُ مَنْ خَطَبَ عَلَى مِنْبَرٍ بِمَكَّةَ مُعَاوِيَةُ ا، جَاءَ بِمِنْبَرٍ مِنَ الشَّامِ صَغِيرٍ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، وَإِنَّمَا كَانَ الْخُلَفَاءُ وَالْوُلَاةُ فِيهِ يَخْطُبُونَ قِيَامًا عَلَى أَرْجُلِهِمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرَهُ فِي وَجْهِ الْكَعْبَةِ وَفِي الْحِجْرِ»([9]).
وفي تاريخ مكة للأزرقي: «عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَنٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ خَطَبَ بِمَكَّةَ عَلَى مِنْبَرٍ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، قَدِمَ بِهِ مِنَ الشَّامِ سَنَةَ حَجَّ فِي خِلَافَتِهِ، مِنْبَرٍ صَغِيرٍ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، وَكَانَتِ الْخُلَفَاءُ وَالْوُلَاةُ قَبْلَ ذَلِكَ يَخْطُبُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى أَرْجُلِهِمْ قِيَامًا فِي وَجْهِ الْكَعْبَةِ وَفِي الْحِجْرِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمِنْبَرُ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُعَاوِيَةُ»([10]).
وعن قضية كسوف الشمس المزعومة في كلام الواقدي، فإنها -كما أخبر النبي ق- لا تنكسف لحوادث تحدث من البشر.
فعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ ا، عَنِ النَّبِيِّ ق قَالَ: «الشَّمْسُ وَالقَمَرُ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَصَلُّوا»([11]).
وليس نقل المنبر بأعظم من سلب الإمامة من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عندكم، فما بال الشمس لم تنكسف إذ سُلبت منه إمامته، وانكسفت إذ هَمُّوا بنقل المنبر؟!
لو سلَّمنا للرافضة جدلًا بأن معاوية أراد نقل المنبر من المدينة إلى الشام فكانت تلك جريمته، فهو قد همَّ بذلك ولم يفعله أو لم يهيَّأ له الأمر، لكن ما بالكم بمن نقل مركز القيادة والخلافة النبوية كلها من المدينة إلى العراق؟! فلو كان معاوية قد أراد تغيير موضع المنبر، فقد نقل عليٌّ بالفعل موضع الخلافة بأسرها.
إن الأنكَى من كل ما كذبته الشيعة في شأن نقل المنبر، هو ما يقولونه ويقررونه في مسألة نقل القبلة كلها إلى كربلاء! معتمدين في ذلك على خبر أخرجه الكليني في كافيه عن سهل، عن الحسن بن محبوب، عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: «كأني بالقائم (ع) على منبر الكوفة عليه قباء، فيُخرج من وريان قبائه كتابًا مختومًا بخاتم من ذهب، فيفكه فيقرأه على الناس، فيجفلون عنه إجفال الغنم، فلم يبق إلا النقباء، فيتكلم بكلام فلا يلحقون ملجأ حتى يرجعوا إليه، وإني لأعرف الكلام الذي يتكلم به»([12]).
قال السبزواري: «قوله: [الكلام الذي يقوله لهم] عن بعض الوعاظ المطلعين أن هذا الكلام هو قوله (ع): اجعلوا كربلاء قبلة وصلوا إليها»([13]).
ويقول أيضًا: «وعن بعض الوعاظ المطلعين أن هذا الكلام هو قوله (ع): اجعلوا كربلاء قبلة وصلُّوا إليها»، ويقول أيضًا: «سمعت من بعض المشايخ أن كربلاء تجعل قبلة في زمن خروج المهدي»([14]).
وقال علامتهم محمد مهدي: «قال الصـدوق: لعل المراد بالكلام الذي يذكره القائم (ع) لأصحابه هـو جعل كربلاء قبلة للناس»([15]).
هذا الذي مَضَى في مسألة نقل القبلة إضافة إلى نقل الحجر الأسود ليس مجرد تقرير لعلماء الشيعة، بل هو مأخوذ من رواياتهم، فقد رووا عن الأصبغ ابن نباتة قوله: «بينا نحن ذات يوم حول أمير المؤمنين S في مسجد الكوفة؛ إذ قال: يا أهل الكوفة! لقد حباكم الله D بما لم يحب به أحدًا، ففضل مصلاكم، وهو بيت آدم، وبيت نوح، وبيت إدريس، ومصلى إبراهيم الخليل، ومصلى أخي الخضر S، ومصلاي، وإن مسجدكم هذا أحد الأربعة مساجد التي اختارها الله D لأهلها، وكأني به يوم القيامة في ثوبين أبيضين شبيه بالمحرم، يشفع لأهله ولمن صلى فيه، فلا ترد شفاعته، ولا تذهب الأيام حتى ينصب الحجر الأسود فيه، وليأتين عليه زمان يكون مصلى المهدي من ولدي، ومصلى كل مؤمن، ولا يبقى على الأرض مؤمن إلا كان به أو حن قلبه إليه، فلا تهجروه، وتقرَّبوا إلى الله D بالصلاة فيه، وارغبوا إليه في قضاء حوائجكم، فلو يعلم الناس ما فيه من البركة لأتوه من أقطار الأرض ولو حبوًا على الثلج»([16]).
فهل نقل الحجر الأسود إلى الكوفة من الإيمان، ونقل المنبر من الكفر؟
فرغم أن المنبر لو نقل لصُنِع غيره، ووقف الخطيب على غيره، ولا يترتب على نقله إشكال شرعي، بخلاف الحجر الأسود الذي هو من شعائر حج المسلمين، والذي لو نُقل لما صلح أن يأتي المسلمون ببديل له، فلا مقارنة عند المنصف وطالب الحق، لكن الشيعة قد أعماهم الهوى والتقليد الأعمى، نسال الله السلامة والعافية.
([1]) «تاريخ الطبري، تاريخ الرسل والملوك» وصلة تاريخ الطبري (5/239).
([2]) محمد طاهر البرزنجي.
([3]) تهذيب التهذيب (9/367).
([4]) صحيح وضعيف تاريخ الطبري (9/73).
([5]) فتح الباري، ابن حجر (2/399).
([6]) حاشية السيوطي على سنن النسائي (2/59).
([7]) أخبار المدينة، الزبير بن بكار (ص٨٩).
([8]) الجرح والتعديل، ابن أبي حاتم (7/228).
([9]) أخبار مكة، الفاكهي (3/43).
([10]) أخبار مكة، الأزرقي(2/100).
([11]) صحيح البخاري (4/108).
([12]) الكافي، الكليني (8/167)، كمال الدين وتمام النعمة، ابن بابويه القمي (ص272).
([13]) التعليق على بحار الأنوار، السبزواري (1/414).
([14]) التعليق على بحار الأنوار، السبزواري (1/414 - 419).
([15]) بيان الأئمة (3/182).
([16]) الأمالي، الصدوق (1/298).