زعمهم شرب معاوية الخمر

الشبهة:

قال عليٌّ الكوراني: «وكان معاويةُ يشرب الخمر ويقدِّمها لضيوفه الصحابة! في مسند أحمد (5/347)، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَى مُعَاوِيَةَ فَأَجْلَسَنَا عَلَى الْفُرُشِ، ثُمَّ أُتِينَا بِالطَّعَامِ فَأَكَلْنَا، ثُمَّ أُتِينَا بِالشَّرَابِ فَشَرِبَ مُعَاوِيَةُ، ثُمَّ نَاوَلَ أَبِي، فَقَالَ: مَا شَرِبْتُهُ مُنْذُ حَرَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ ق، ورواه في تاريخ دمشق (27/127)»([1]). 

 

([1]) جواهر التاريخ، علي الكوراني العاملي (٢/٦٢).

الرد علي الشبهة:

الرواية التي استشهد بها الشيعي من المسند في إسنادها زيد بن الحباب، وبالرغم من صدقه إلا أنه كان كثير الوهم والغلط، قَالَ الإمام أَحْمد: «زيد بن الْحباب كَانَ صَدُوقًا، وَكَانَ يضْبط الْأَلْفَاظ عَن مُعَاوِيَة بن صَالح، وَلَكِن كَانَ كثير الْخَطَأ»([1])، وقال ابن حبان: «وَكَانَ مِمَّن يخطئ»([2])، وقال الذهبي: «لم يكن به بأس، وقد يهم»([3]). 

ودلالة غلطه في هذا الحديث سنبينه عند كلامنا عن اضطرابه في متنه كذلك.

وأيضًا الرواية في إسنادها الحسين بن واقد وهو ضعيف منكر الحديث، قال الإمام أحمد: «مَا أَنْكَرَ حَدِيثَ حُسَيْنِ بن وَاقد!»([4])، وقال مرة: «أحاديثه ما أدري أيش هي»([5])، وهذا ثابت عن أحمد، نَقَلَه عنه أبو جعفر العقيلي وغيره، وقال ابن حبان: «وَرُبمَا أَخطَأ فِي الرِّوَايَات»([6]).

وأما عن اضطراب المتن، فواضح أن المتن فيه حذف؛ إذ كيف يذكر عبد الله بن بريدة أنه ناول بريدة الشراب ثم يقول له: «ما شربته منذ حرمه رسول الله ق»؟! فلا بد أن يكون بريدة قد تكلم بشيء عن هذا الشراب الذي قدمه له معاوية أنه خمر، فرد عليه معاوية أنه لا يشرب الخمر منذ حرمه رسول الله ق، حتى أنه منذ شَبَّ لا يجد لذة إلا في شرب اللبن، ولذلك قال في نفس الرواية: «وَمَا شَيْءٌ كُنْتُ أَجِدُ لَهُ لَذَّةً كَمَا كُنْتُ أَجِدُهُ وَأَنَا شَابٌّ غَيْرُ اللَّبَنِ»، فالكلام من معاوية عن تحريمه لشراب حرمه رسول الله ق لا مناسبة له ولا تعلق له بالكلام الذي قبله ولا بالذي بعده، ولذلك جزمنا بخطأ زيد بن الحباب أو حسين بن واقد في تلك الرواية التي في مسند أحمد.

بل مما يقطع الأمر أن الرواية جاءت في مصنف ابن أبي شيبة خالية من هذا الإشكال وهذا الخطأ، وهاك الرواية:

* «حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي عَلَى مُعَاوِيَةَ، فَأَجْلَسَ أَبِي عَلَى السَّرِيرِ وَأَتَى بِالطَّعَامِ فَأَطْعَمَنَا، وَأَتَى بِشَرَابٍ فَشَرِبَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا شَيْءٌ كُنْتُ أَسْتَلِذُّهُ وَأَنَا شَابٌّ فَآخُذُهُ الْيَوْمَ إِلَّا اللَّبَنَ، فَإِنِّي آخُذُهُ كَمَا كُنْتُ آخُذُهُ قَبْلَ الْيَوْمِ، وَالْحَدِيثُ الْحَسَنُ»([7]). 

وقد نص الإمام أحمد على أن الرواية منكرة؛ لنفس السبب الذي ذكرنا.

قال عبد الله بن أحمد: «سَمِعت أبي يقول: قَالَ وَكِيع: يَقُولُونَ: «إِن سُلَيْمَان أصَحهمَا حَدِيثًا -يَعْنِي بن بُرَيْدَة- قَالَ أبي: عبد الله بن بُرَيْدَة الَّذِي روى عَنهُ حُسَيْن بن وَاقد مَا أنكرها! وَأَبُو الْمُنِيب أَيْضًا، يَقُولُونَ: كَأَنَّهَا -أي زيادة مَا شَرِبْتُهُ مُنْذُ حَرَّمَهُ رَسُولُ اللهِ ق- من قِبَل هَؤُلَاءِ»([8]). 

وقد أعرض الهيثمي عن هذه الزيادة المنكرة مُنبِّهًا على نكارتها فقال: «وَفِي كَلَامِ مُعَاوِيَةَ شَيْءٌ تَرَكْتُهُ»، وكان ترجيحه ما جاء في لفظ رواية اللبن؛ لذلك بوَّب على الرواية بقوله: «بَابُ مَا جَاءَ فِي اللَّبَنِ»([9]). 

فالشراب كان لبنًا، بدلالة ما في ذيل الرواية من إخبار معاوية أن ألذ الشراب عنده اللبن، ثم أين إنكار بريدة وعبد الله بن بريدة عليه؟ 

والإشكال هو أن معاوية لما ناول بريدة الشراب قال: «ما شربته منذ حرمه النبي»، فظن بعضهم أن الضمير هنا يعود على الشراب الذي ناوله لبريدة، وهذا غلط شديد جدًّا؛ لأن الضمير هنا لا يعود على ذلك الشراب، بل هو ضمير في مكان شيء ظاهر، يقول فيه النحويون: «أضمر في مقام الإظهار» أي أنه جاء بالضمير عوضًا عن الاسم الظاهر، والعرب تستعمل هذا كثيرًا إذا أرادت أن تتكلم عن شيء تســتشـنعه وتستقذره وتستحيي من التلفظ به، تأتي بالضمير ولا تأتي بالظاهر، وهذا من جمال لغة العرب، وهذا دليل على فضله ومبالغته في التحرز من الخمر، فالذي يستشنع مجرد النطق باسم الخمر، كيف يشربه؟ 

فمعاوية لما رأى شرابًا على مائدته ذكَّره ذلك بالشراب الذي كانوا عليه في الجاهلية لا يفارق موائدهم، ألا وهو الخمر! وكيف أنهم استبدلوه به اللبن، فالمناسبة قوية للغاية([10]). 

كيف يُعقل أن يشرب معاوية الخمر -عياذًا بالله- ثم يشدد في عقوبتها؟ فقد اختار الثمانين جلدة في عقوبة شارب الخمر، وهذا أحد القولين في المسألة، ففي سنن أبي داود من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَزْهَرِ، أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ ق بِشَارِبٍ وَهُوَ بِحُنَيْنٍ، فَحَثَى فِي وَجْهِهِ التُّرَابَ، ثُمَّ أَمَرَ أَصْحَابَهُ فَضَرَبُوهُ بِنِعَالِهِمْ، وَمَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ، حَتَّى قَالَ لَهُمْ: ارْفَعُوا، فَرَفَعُوا، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ق، ثُمَّ جَلَدَ أَبُو بَكْرٍ فِي الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ، ثُمَّ جَلَدَ عُمَرُ أَرْبَعِينَ صَدْرًا مِنْ إِمَارَتِهِ، ثُمَّ جَلَدَ ثَمَانِينَ فِي آخِرِ خِلَافَتِهِ، ثُمَّ جَلَدَ عُثْمَانُ الْحَدَّيْنِ كِلَيْهِمَا ثَمَانِينَ وَأَرْبَعِينَ، ثُمَّ أَثْبَتَ مُعَاوِيَةُ الْحَدَّ ثَمَانِينَ»([11]). 

كما أن معاوية هو راوي حديث: «إِذَا شَرِبُوا الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُمْ، ثُمَّ إِنْ شَرِبُوا فَاجْلِدُوهُمْ، ثُمَّ إِنْ شَرِبُوا فَاجْلِدُوهُمْ، ثُمَّ إِنْ شَرِبُوا فَاقْتُلُوهُمْ»([12]).

وكثير من الشيعة قالوا بقتل شارب الخمر في الرابعة([13])، وهو عين الحكم الذي نقله معاوية.

من العجب أن تجعل الشيعة شرب الخمر تُهمة قادحة في حق معاوية، مع أن كبار رواة أحاديث الأئمة كانوا يشربون الخمور، ومع ذلك اعتذروا لهم، ولم يروا أن ذلك قدح في عدالتهم أو دينهم.

جاء في اختيار معرفة الرجال قوله: «رووا أن الصادق ترحَّم على شارب الخمر، فعن فضيل الرسان قال: فسمعت نحيبًا من وراء الستر، فقال: من قال هذا الشعر؟ قلت: السيد بن محمد الحميري، فقال: رحمه الله، قلت: إني رأيته يشرب النبيذ، فقال: رحمه الله، قلت: إني رأيته يشرب نبيذ الرستاق، قال: تعني الخمر؟ قلت: نعم، قال: رحمه الله، وما ذلك على الله أن يغفر لمحب علي»([14]).

وقد ثبت أن أبا حمزة الثمالي كان يشرب الخمر، ومع ذلك فهو في غاية الوثاقة عندهم، يقول المامقاني: «وتلخيص المقال أنَّ أبا حمزة الثمالي في غاية الجلالة والوثاقة، وكفى بتوثيق الصدوق V في المشيخة، والنجاشي تارة في ترجمته، وأخرى في ترجمة ابنه علي، والشيخ V في الفهرست، وابن داود، والعلامة في الخلاصة»([15]). 

فكل ألفاظ التفخيم والتعظيم هذه مع قولهم بشربه للخمر، ومع ذلك فقد اعتذروا له بكل أنواع الأعذار، قال المامقاني: «وعلى تقدير الصحَّة، يمكن أن يكون أبو حمزة ما كان يعرف حرمته، يومئ إليه سؤال أصحابه عنه S عن حرمته، كما ورد في كتب الأخبار، ومنه هذا الخبر، أو أنَّه كان يشرب لعلَّة كانت فيه باعتقاد حلّه لأجلها، كما سيجيئ قريب منه في ابن أبي يعفور، أو كان يشرب الحلال منه، فنمّوا إليه S ويكون استغفاره من سوء ظنّه بعامر، ولعلّه هو الظاهر؛ إذ لا دخل لعدم تحريشه في الاستغفار عن شربه؟ فتأمّل، أو كان استغفاره من ارتكابه بجهله، أو بظهور خطأ اجتهاده، أو كان ذلك قبل وثاقته، فيكون حاله في أخباره حال أحمد بن محمد بن أبي نصر، ونظائره من الأجلّة الذين كانوا فاسدي العقيدة ثم رجعوا»([16]). 

والشيعة تقرر أنه لو شُرب الخمر فإن الله غفور رحيم، وأن الإمام سيشفع له، ففي البحار: «قال رجلٌ من المنافقين لأبي الحسن الثاني S: إن من شيعتكم قومًا يشربون الخمر على الطريق، فقال: الحمد لله الذي جعلهم على الطريق فلا يزيغون عنه، واعترضه آخر فقال: إن من شيعتك من يشرب النبيذ، فقال S: قد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله يشربون النبيذ، فقال الرجل: ما أعني ماء العسل وإنما أعني الخمر، قال: فعرق وجهه، ثم قال: الله أكرم من أن يجمع في قلب المؤمن بين رسيس الخمر وحبنا أهل البيت، ثم صبر هنيئة وقال: فإن فعلها المنكوب منهم، فإنه يجد ربًّا رؤوفًا ونبيًّا عطوفًا وإمامًا له على الحوض عروفًا، وسادة له بالشفاعة وقوفًا، وتجد أنت روحك في برهوت ملوفًا»([17]). 

إن ارتكاب المحرمات والمجاهرة بها كانت هي السمة الظاهرة عند الشيعة، فقد روى شيخهم ابن بابويه القمي في العلل رواية طويلة وفيها: «قُلْتُ: يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ، إِنِّي أَجِدُ مِنْ شِيعَتِكُمْ مَنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَيَقْطَعُ الطَّرِيقَ، وَيُخِيفُ السُّبُلَ، وَيَزْنِي، وَيَلُوطُ، وَيَأْكُلُ الرِّبَا، وَيَرْتَكِبُ الْفَوَاحِشَ، وَيَتَهَاوَنُ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ، وَيَقْطَعُ الرَّحِمَ، وَيَأْتِي الْكَبَائِرَ، فَكَيْفَ هَذَا وَلِمَ ذَاكَ؟

فَقَالَ: يَا إِبْرَاهِيمُ، هَلْ يَخْتَلِجُ فِي صَدْرِكَ شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، أُخْرَى أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ! فَقَالَ: وَمَا هُوَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ، وَأَجِدُ مِنْ أَعْدَائِكُمْ وَمُنَاصِبِيكُمْ مَنْ يُكْثِرُ مِنَ الصَّلَاةِ وَمِنَ الصِّيَامِ، وَيُخْرِجُ الزَّكَاةَ، وَيُتَابِعُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَيَحْرِصُ عَلَى الْجِهَادِ، وَعَلَى الْبِرِّ، وَعَلَى صِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَيَقْضِي حُقُوقَ إِخْوَانِهِ وَيُوَاسِيهِمْ مِنْ مَالِهِ، وَيَتَجَنَّبُ شُرْبَ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَاللِّوَاطَ وَسَائِرَ الْفَوَاحِشِ، فَمِمَّ ذَاكَ؟ فَإِذَا عُرِضَتْ هَذِهِ الْأَعْمَالُ كُلُّهَا عَلَى اللهِ تَعَالَى قَالَ: أَنَا عَدْلٌ لَا أَجُورُ، وَمُنْصِفٌ لَا أَظْلِمُ، وَحَكَمٌ لَا أَحِيفُ، وَلَا أَمِيلُ وَلَا أَشْطُطُ، أَلْحِقُوا الْأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ الَّتِي اجْتَرَحَهَا الْمُؤْمِنُ بِسِنْخِ النَّاصِبِ وَطِينَتِهِ، وَأَلْحِقُوا الْأَعْمَالَ الْحَسَنَةَ الَّتِي اكْتَسَبَهَا النَّاصِبُ بِسِنْخِ الْمُؤْمِنِ وَطِينَتِهِ، رُدُّوهَا كُلَّهَا إِلَى أَصْلِهَا»([18]). 

وهذا لا شك إغراء للشيعة بارتكاب كل المحرمات؛ إذ لا شيء عليهم أبدًا!! 

 

([1]) سؤالات أبي داود، الإمام أحمد (ص319).

([2]) الثقات، ابن حبان (8/250).

([3]) الكاشف (1/415).

([4]) العلل ومعرفة الرجال، الإمام أحمد - رواية ابنه عبد الله (1/301).

([5]) إكمال تهذيب الكمال - ط العلمية (2/356).

([6]) الثقات، ابن حبان (6/209).

([7]) مصنف ابن أبي شيبة (6/188) ت الحوت.

([8]) العلل ومعرفة الرجال، الإمام أحمد - رواية ابنه عبد الله (2/22).

([9]) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (5/42).

([10]) فتح المنان في دفع الشبهات عنها المؤمنين الصحابي معاوية بن أبي سفيان، د. محمد سيد شحاته (ص٦١).

([11]) [حكم الألباني]: صحيح، سنن أبي داود (4/166) ت محيي الدين عبد الحميد.

([12]) [حكم الألباني]: حسن صحيح، سنن ابن ماجه (2/859) ت عبد الباقي، مصنف عبد الرزاق (8/542) ط التأصيل الثانية، السنن الكبرى، البيهقي (8/544) ط العلمية.

([13]) مختلف الشيعة، الحلي (٩/١٨٩).

([14]) اختيار معرفة الرجال (2/570).

([15]) تنقيح المقال في علم الرجال، المامقاني (13/277).

([16]) تنقيح المقال في علم الرجال (13/279).

([17]) بحار الأنوار (27/314).

([18]) علل الشرائع، الصدوق (2/606 609).