فإثبات أمثال تلك الاتهامات لا بد له من شروط، ولذلك لم يترك الإسلام أمر اتهام الناس بلا قيود، فجعل للشاهد شروطًا لا نجد تلك الروايات تقوى واحدة منها على الثبوت مع تلك الشروط؛ ولذلك نقول بأن جميع الروايات الواردة بهذا الصدد لا تثبت كما سيأتي بيانه([1]).
أخرجها أبو نعيم وابن عساكر قالا: «حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمْدَانَ، ثنا الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى السُّدِّيُّ، ثنا أَبُو تُمَيْلَةَ يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بُرْدَةَ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ:
«غَزَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيُّ فِي زَمَانِ عُثْمَانَ، وَمُعَاوِيَةُ أَمِيرٌ عَلَى الشَّامِ، فَمَرَّتْ بِهِ رَوَايَا خَمْرٍ تُحْمَلُ لِمُعَاوِيَةَ وَبُرٌّ، فَقَامَ إِلَيْهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِرُمْحِهِ، فَنَقَرَ كُلَّ رَاوِيَةٍ مِنْهَا، فَنَاوَشَهُ غِلْمَانُهُ حَتَّى بَلَغَ مَثْأَنَةَ مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ: دَعُوهُ فَإِنَّهُ شَيْخٌ قَدْ ذَهَبَ عَقْلُهُ، فَقَالَ: كَذَبَ وَاللهِ، مَا ذَهَبَ عَقْلِي، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللهِ ق نَهَانَا أَنْ نُدْخِلَ بُطُونَنَا وَأَسْقِيَتَنَا، وَأَحْلِفُ بِاللهِ لَئِنْ أَنَا بَقِيتُ حَتَّى أَرَى فِي مُعَاوِيَةَ مَا سَمِعْتُ مِنَ رَسُولِ اللهِ ق لَأَبْقُرَنَّ بَطْنَهُ وَلَأَمُوتَنَّ دُونَهُ»([2]).
وهذا الخبر لا يصح؛ إذ فيه إسماعيل بن موسى الفزاري الكوفي ابن بنت السدي، وكان غاليًا في التشيع فاسقًا يشتم السلف، وقد احتمل الناس روايته ورووا عنه([3]).
وفيه بُرَيْدَة بن سُفْيَان بن فَرْوَة الْأَسْلَمِيّ: ضعيف متروك، وأحاديثه بلية([4])، متهم في مذهبه ودينه، ضعفه البخاري([5]).
والخبر معلول كذلك بالانقطاع: فمحمد بن كعب القرظي، لم يدرك زمان عثمان الذي وقعت الواقعة في عهده، فقد مات في سنة سبع عشرة أو تسع عشرة أو عشرين ومائة وهو ابن ثمان وسبعين سنة، وبذلك يكون قد وُلد في سنة تسع وثلاثين أو واحد أو اثنتين وأربعين، أي بعد مقتل عثمان بما لا يقل عن أربع إلى سبع سنوات! فهو في كل الأحوال لم يدرك هذه الواقعة!
قال الذهبي: «وَقَالَ الوَاقِدِيُّ وَخَلِيفَةُ وَالفَلَّاسُ وَجَمَاعَةٌ: مَاتَ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، قَالَ الوَاقِدِيُّ وَجَمَاعَةٌ: وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَقَالَ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ نُمَيْرٍ: سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَقَالَ ابْنُ المَدِينِيِّ وَابْنُ مَعِينٍ وَابْنُ سَعْدٍ: سَنَةَ عِشْرِينَ وَمائَةٍ»([6]).
أخرجها الشاشي في مسنده قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، نا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ، عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ أَبِيهِ:
«أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، مَرَّتْ عَلَيْهِ قِطَارَةٌ وَهُوَ بِالشَّامِ تَحْمِلُ الْخَمْرَ فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟ أَزَيْتٌ؟ قِيلَ: لَا، بَلُ خَمْرٌ تُبَاعُ لِفُلَانٍ، فَأَخَذَ شَفْرَةً مِنَ السُّوقِ فَقَامَ إِلَيْهَا، وَلَمْ يَذَرْ مِنْهَا رَاوِيَةً إِلَّا بَقَرَهَا، وَأَبُو هُرَيْرَةَ إِذْ ذَاكَ بِالشَّامِ، فَأَرْسَلَ فُلَانٌ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: أَلَا تُمْسِكْ عَنَّا أَخَاكَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، إِمَّا بِالْغَدَوَاتِ فَيَغْدُو إِلَى السُّوقِ، فَيُفْسِدُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مَتَاجِرَهُمْ، وَإِمَّا بِالْعَشِيِّ فَيَقْعُدُ بِالْمَسْجِدِ لَيْسَ لَهُ عَمَلٌ إِلَّا شَتْمُ أَعْرَاضِنَا وَعَيْبُنَا، فَأَمْسِكْ عَنَّا أَخَاكَ، فَأَقْبَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَمْشِي حَتَّى دَخَلَ عَلَى عُبَادَةَ فَقَالَ: يَا عُبَادَةُ مَا لَكَ وَلِمُعَاوِيَةَ؟ ذَرْهُ وَمَا حَمَلَ فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: [ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ] {البقرة:134}، قَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ تَكُنْ مَعَنَا إِذْ بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ ص؟ بَايَعْنَاهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَنْ نَقُولَ فِي اللهِ لَا تَأْخُذُنَا فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ نَنْصُرَهُ إِذَا قَدِمَ عَلَيْنَا يَثْرِبَ، فَنَمْنَعَهُ مَا نَمْنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا وَأَزْوَاجَنَا وَأَهْلَنَا وَلَنَا الْجَنَّةُ، وَمَنْ وَفَّى وَفَّى اللهُ لَهُ الْجَنَّةَ بِمَا بَايَعَ عَلَيْهِ رَسُولَ اللهِ ص، وَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَم يُكَلِّمُهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بِشَيْءٍ.
فَكَتَبَ فُلَانٌ إِلَى عُثْمَانَ بِالْمَدِينَةِ: أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قَدْ أَفْسَدَ عَلَيَّ الشَّامَ وَأَهْلَهُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُفَّ عَنَّا عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، وَإِمَّا أَنْ أُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّامِ، فَكَتَبَ عُثْمَانُ إِلَى فُلَانٍ: أَدْخِلْهُ إِلَى دَارِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَبَعَثَ بِهِ فُلَانٌ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ الدَّارَ، وَلَيْسَ فِيهَا إِلَّا رَجُلٌ مِنَ السَّابِقِينَ بِعَيْنِهِ وَمَنَ التَّابِعِينَ الَّذِينَ أَدْرَكُوا الْقَوْمَ مُتَوَافِرِينَ، فَلَمْ يُهِمَّ عُثْمَانُ بِهِ إِلَّا وَهُوَ قَاعِدٌ فِي جَانِبِ الدَّارِ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا لَنَا وَلَكَ يَا عُبَادَةُ؟ فَقَامَ عُبَادَةُ قَائِمًا وَانْتَصَبَ لَهُمْ فِي الدَّارِ فَقَالَ: «إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ص -أَبَا الْقَاسِمِ- يَقُولُ: سَيَلِي أُمُورَكُمْ مِنْ بَعْدِي رِجَالٌ يُعَرِّفُونَكُمْ مَا تُنْكِرُونَ وَيُنْكِرُونَ عَلَيْكُمْ مَا تَعْرِفُونَ، فَلَا طَاعَةَ لِمَنْ عَصَى اللهَ، فَلَا تَضِلُّوا بِرَبِّكُمْ، فَوَالَّذِي نَفْسُ عُبَادَةَ بِيَدِهِ، إِنَّ فُلَانًا لَمِنْ أُولَئِكَ»، فَمَا رَاجَعَهُ عُثْمَانُ بِحَرْفٍ»([7]).
فالرواية لا تفيد أن معاوية كان يتاجر بالخمر! بل اللفظ الذي جاء فيها جاء بالإبهام: «بَلُ خَمْرٌ تُبَاعُ لِفُلَانٍ» فمتى صارت فلان تعني معاوية؟!
بل تتمة الخبر يدل على أن أصحاب هذه الخمور كانوا من أهل الذمة، وأن معاوية كان آنذاك الحاكم على بلاد الشام لا التاجر بالخمور، ودليل ذلك ما جاء في لفظ الرواية من قوله: «فَأَرْسَلَ فُلَانٌ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: أَلَا تُمْسِكْ عَنَّا أَخَاكَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، إِمَّا بِالْغَدَوَاتِ فَيَغْدُو إِلَى السُّوقِ، فَيُفْسِدُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مَتَاجِرَهُمْ، وَإِمَّا بِالْعَشِيِّ فَيَقْعُدُ بِالْمَسْجِدِ لَيْسَ لَهُ عَمَلٌ إِلَّا شَتْمُ أَعْرَاضِنَا وَعَيْبُنَا».
فدل ذلك على أن هذه الخمور كانت لأهل الذمة وتجارتهم وليست لمعاوية، فغاية ما أفادته الرواية أن معاوية كان الحاكم على بلاد الشام، وأنه ما كان يرى بأسًا بتجارتهم بالخمور، وهنا خالفه فيه عبادة ا.
وفوق كل هذا فالرواية لا تصح.
ففيها يحيى بن سليم، وقد اختلف أهل العلم فيه توثيقًا وتجريحًا، فقد كان أحمد بن حنبل لا يرتضي روايته ويتهمه بالتخليط وتركه([8])، وكان ينفرد بالغرائب([9])، وضعفه الدولابي والدارقطني، وارتضاه غيرهم([10]) كيحيى بن معين، وَقَالَ الرَّازِيُّ: لَا يُحْتَج بِهِ، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ»([11]).
وأخرجها الإمام أحمد في مسنده من طريق إسماعيل بن عياش عن ابن خثيم([12])، وإسنادها ضعيف، فرواية إسماعيل بن عياش عن غير أهل بلده ضعيفة، وهذا منها، وننقل هنا قول محققي المسند تعليقًا على هذا الخبر؛ لما فيه من الفائدة:
«إسناده ضعيف؛ إسماعيل بن عياش ضعيف في روايته عن غير أهل بلده، وهذا منها، وإسماعيل بن عبيد بن رفاعة الأنصاري روى عنه اثنان: عبد الله ابن عثمان بن خثيم ومسلم بن خالد الزَّنجي، والثاني منهما ضعيف، وذكر ابن حبان إسماعيل بن عبيد في «ثقاته»، وقد روى إسماعيل هذا الحديث عن أبيه عن عبادة كما سيأتي برقم (22786)، وقد اختُلف في إسناده.
وأخرجه بنحوه مختصرًا البزار في «مسنده» (2731) من طريق يوسف ابن خالد السمتي، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن عبادة. قلنا: يوسف السمتي رمي بالكذب.
وأخرجه مختصرًا الحاكم (3/357) من طريق مسلم بن خالد، عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، عن عبادة. ومسلم بن خالد ضعيف([13]).
وأخرجه مختصرًا الحاكم (3/357) من طريق زهير بن معاوية، عن إسماعيل بن عبيد، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر، عن عبادة. فقلب زهير أو مَن دونه إسناده، وأبو الزبير مدلس وقد عنعنه.
وأخرجه مختصرًا أيضًا الحاكم (3/356) من طريق محمد بن كثير المصيصي، عن عبد الله بن واقد، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر، عن عبادة. ومحمد بن كثير ضعيف.
وأخرجه ابن أبي شيبة في «مسنده» كما في «إتحاف الخيرة» (5789)، وفي «المصنف» (15/233 - 234)، والحاكم (3/357) من طريق شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن الأعشى سعيد بن عبد الرحمن بن مكمل، عن أزهر ابن عبد الله قال: «أقبل عبادة بن الصامت حاجًّا من الشام، فأتى عثمان بن عفان متظلِّمًا فقال: يا عثمان ألا أخبرك شيئًا سمعته من رسول الله ق؟ قال: بلى، قال: فإني سمعت رسول الله ق يقول: «ستكون عليكم أمراء يأمرونكم بما تعرفون، ويعملون ما تنكرون، فليس لأولئك عليكم طاعة»([14])، وسقط سعيد من إسناد الحاكم، فصار: عن عبد الرحمن بن مكمل. وعزاه الهيثمي في «المجمع» (5/227) للطبراني، وقال: فيه الأعشى بن عبد الرحمن ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. قلنا: والأعشى هذا روى له البخاري في «الأدب»، وأبو داود والترمذي، وروى عنه اثنان، وذكره ابن حبان في «الثقات»، وأزهر ابن عبد الله لم يسمع عبادة ...»([15]).
وعليه فجميع الروايات الواردة في ذلك ضعيفة لم تثبت، ومتونها لا تخدم مآرب الرافضة الذين أثاروا تلك الشبهة؛ كما لم تنص رواية واحدة قط على أن هذه الخمور كانت لمعاوية، فضلًا عن أنه كان يتاجر بها! بل كانت لأهل الذمة الذين كانوا يبيعون الخمر ويشترونه لا المسلمين، وهذا جائز في دينهم بلا شك، قال السرخسي: «وَتَصَرُّفُ الْحُرِّ الْكَافِرِ فِي الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ بَاطِلٌ، وَهُوَ فِي جَمِيعِ بِيَاعَاتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ إلَّا فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ»([16]).
وفي الموسوعة الكويتية: «وَالْكَافِرُ يَسَعُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ وَيَبِيعَهَا، وَلَا كَذَلِكَ الْمُسْلِمُ»([17]).
وهذا أيضًا جائز عند الشيعة، فالكافر يجوز له بيع الخمر والتجارة فيه حسب دينه، بل لو أسلم بعد البيع وقبل قبض الثمن، جاز له المطالبة به ويكون حلالًا له.
قال ابن إدريس الحلي: «وأهل الذمَّة سواء كانوا يهودًا أو نصارى أو مجوسًا، إذا باعوا ما لا يجوز للمسلم بيعه، من الخمر والخنزير وغير ذلك ثمَّ أسلم، كان له المطالبة بالثمن، وكان حلالًا له»([18]).
«والمراد بذلك أن يكون البائع الذي هو المدين، ممّن أقرَّته الشريعة على ما يراه من تحليل بيع الخمر وهم أهل الكتاب؛ لأنَّ ذلك حلال عندهم، ويجوز للمسلم قبضُ دَيْنِه منهم إذا كان ثمن خمورهم وخنازيرهم»([19]).
وعليه فلا يُستدرك بالقول: كيف ترك معاوية أهل الذمة يتاجرون في الخمر؟!([20])
&
([1]) قال السرخسي: «فَالتَّزْوِيرُ وَالتَّلْبِيسُ فِي الْخُصُومَاتِ يَكْثُرُ، فَيُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِي الشَّهَادَاتِ صِيَانَةً لِلْحُقُوقِ الْمَعْصُومَةِ، ثُمَّ يُشْتَرَطُ فِيهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الْخَبَرِ مِن الْعَقْلِ وَالضَّبْطِ وَالْعَدَالَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِاعْتِبَارِ عَقْلِ الْمُتَكَلِّمِ، وَالشَّهَادَةُ بَيِّنَةٌ، وَمَعْرِفَةُ عَقْلِ الْمَرْءِ بِاخْتِيَارِهِ فِيمَا يَأْتِي وَيَذَرُ، وَحُسْنُ نَظَرِهِ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ، وَالْمُطْلَقُ مِن الشَّيْءِ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ مِنْهُ إلَّا أَنَّهُ لَا حَدَّ يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي كَمَالِ مَعْرِفَةِ الْعَقْلِ سِوَى مَا جَعَلَهُ الشَّرْعُ حَدًّا وَهُوَ الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ؛ تَيْسِيرًا لِلْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُن الصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ، وَمَعْنَى الضَّبْطِ: حُسْنُ السَّمَاعِ وَالْفَهْمِ وَالْحِفْظِ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ، وَتُعْتَبَرُ صِفَةُ الْكَمَالِ فِيهِ أَيْضًا لِمَا فِي النُّقْصَانِ مِنْ شُبْهَةِ الْعَدَمِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ مَن اشْتَدَّتْ غَفْلَتُهُ، أَوْ مُجَازَفَتُهُ فِيمَا يَقُولُ وَيَسْمَعُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ إذَا كَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا عِنْدَ النَّاسِ، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْعَدَالَةِ فَلِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ، فَالْحُجَّةُ الْخَبَرُ الَّذِي هُوَ صِدْقٌ، وَلَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِ مَنْ هُوَ غَيْرُ مَعْصُومٍ عَن الْكَذِبِ إلَّا الْعَدَالَةَ». المبسوط (16/113)
([2]) معرفة الصحابة، أبو نعيم (4/1828)، تاريخ دمشق، ابن عساكر (34/420).
([3]) الكامل (1/528، 529) (ت153).
([4]) الضعفاء والمتروكون، ابن الجوزي (1/137).
([5]) مختصر الكامل في الضعفاء (ص198).
([6]) سير أعلام النبلاء (5/66) ط الرسالة.
([7]) مسند الشاشي (3/172).
([8]) الضعفاء الكبير، العقيلي (4/406)، قال العقيلي: «يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: وَقَعْتُ عَلَى يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ أَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ، فَتَرَكْتُهُ وَلَمْ أَحْمِلْ عَنْهُ إِلَّا حَدِيثًا، وَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ، فَقَالَ: كَذَا وَكَذَا، لَيْسَ حَدِيثُهُ فِيهِ شَيْءٌ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَحْمَدْهُ، وَقَالَ: قَدْ أَتْقَنَ حَدِيثَ ابْنِ خَيْثَمٍ، كَانَ عِنْدَهُ فِي كِتَابٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، يَقُولُ: أَتَيْتُ يَحْيَى بْنَ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيَّ فَكَتَبْتُ عَنْهُ شَيْئًا، فَرَأَيْتُهُ يَخْلِطُ فِي الْأَحَادِيثِ فَتَرَكْتُهُ».
([9]) الكامل في ضعفاء الرجال، ابن عدي (9/64)، قال ابن عدي: «وليحيى بن سليم عن إسماعيل بن أمية وعبيد الله بن عَمْرو بن خثيم وسائر مشايخه أحاديث صالحة، وانفرادات وغرائب يتفرد بها عنهم، وأحاديثه متقاربة، وَهو صدوق لا بأس به».
✍ قلت: وهذا يعني أن حديثه ليس بمطروح بالكلية، بل هو معتبر في الشواهد والمتابعات.
([10]) تهذيب التهذيب (11/226 - 227)، قال الدولابي: «ليس بالقوي، وقال الدارقطني: سيئ الحفظ، وقال النسائي: ليس به بأس، وهو منكر الحديث عن عُبيد الله بن عمر، وقال البخاري: يروي أحاديث عن عبيد الله يهم فيها».
([11]) الضعفاء والمتروكون، ابن الجوزي (3/196).
([12]) مسند أحمد (37/429) ط الرسالة، ولفظه: «فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَقَالَ عُبَادَةُ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، إِنَّكَ لَمْ تَكُنْ مَعَنَا إِذْ بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ ق، إِنَّا بَايَعْنَاهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَعَلَى أَنْ نَقُولَ فِي اللهِ تبارك وتعالى وَلَا نَخَافَ لَوْمَةَ لَائِمٍ فِيهِ، وَعَلَى أَنْ نَنْصُرَ النَّبِيَّ ق إِذَا قَدِمَ عَلَيْنَا يَثْرِبَ، فَنَمْنَعَهُ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا وَأَزْوَاجَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَلَنَا الْجَنَّةُ، فَهَذِهِ بَيْعَةُ رَسُولِ اللهِ ق الَّتِي بَايَعْنَا عَلَيْهَا، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفَى بِمَا بَايَعَ عَلَيْهِ رَسُولَ اللهِ ق، وَفَّى اللهُ بِمَا بَايَعَ عَلَيْهِ نَبِيَّهُ ق.
فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قَدْ أَفْسَدَ عَلَيَّ الشَّامَ وَأَهْلَهُ، فَإِمَّا تَكُفُّ إِلَيْكَ عُبَادَةَ، وَإِمَّا أُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّامِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَنْ رَحِّلْ عُبَادَةَ حَتَّى تُرْجِعَهُ إِلَى دَارِهِ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَبَعَثَ بِعُبَادَةَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَدَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ فِي الدَّارِ، وَلَيْسَ فِي الدَّارِ غَيْرُ رَجُلٍ مِنَ السَّابِقِينَ أَوْ مِنَ التَّابِعِينَ، قَدْ أَدْرَكَ الْقَوْمَ، فَلَمْ يُفْجَأْ عُثْمَانُ إِلَّا وَهُوَ قَاعِدٌ فِي جَانِبِ الدَّارِ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ، مَا لَنَا وَلَكَ؟ فَقَامَ عُبَادَةُ بَيْنَ ظَهْرَيِ النَّاسِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ أَبَا الْقَاسِمِ مُحَمَّدًا ق يَقُولُ: «إِنَّهُ سَيَلِي أُمُورَكُمْ بَعْدِي رِجَالٌ يُعَرِّفُونَكُمْ مَا تُنْكِرُونَ، وَيُنْكِرُونَ عَلَيْكُمْ مَا تَعْرِفُونَ، فَلَا طَاعَةَ لِمَنْ عَصَى اللهَ، فَلَا تَعْتَلُّوا بِرَبِّكُمْ».
([13]) قال ابن الجوزي: «قَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ: لَيْسَ بِشَيْء، وَقَالَ الرَّازِيّ: لَا يحْتَج بِهِ، وَقَالَ النَّسَائِيّ: ضَعِيف، وَقَالَ أَبُو زرْعَة الرَّازِيّ وَالْبُخَارِيّ: هُوَ مُنكر الحَدِيث، وَقَالَ يحيى: ثِقَة». الضعفاء والمتروكون (3/117).
([14]) تكلم على طرقه الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (3/528).
([15]) مسند أحمد (37/431-431)
([16]) المبسوط، السرخسي (26/38).
([17]) الموسوعة الفقهية الكويتية، مجموعة من المؤلفين (26/46).
([18]) السرائر، ابن إدريس الحلي (2/329).
([19]) السرائر، ابن إدريس الحلي (2/43).
([20]) جاءت بعض الفتاوى التي تبيح للشيعي أخذ المال الذي نتج من تجارة الخمر، وتقديمها للكافر.
ففي صراط النجاة للخوئي: «سؤال 857- إن بعض المهاجرين إلى البلاد الأمريكية؛ حيث إنهم يفقدون الكفاءة العلمية المطلوبة في تلك البلاد، فتكون تجارتهم من طريق بيع الخمور واللحوم المختلفة (الميتة، والخنزير...)، فهل يجوز بيع اللحوم غير المذكاة والخنزير لغير المسلمين، مع العلم أنهم ليسوا من أهل الذمة؟
الخوئي: لا يجوز بيعها مطلقًا، والله العالم.
التبريزي: إذا كان المشتري كافرًا فلا بأس بالتقديم بقصد استنقاذ المال كما مر، وهذا بالإضافة إلى غير المذكاة شرعًا، وأما بالإضافة إلى الميتة، فكون المسلم بائعًا لها من الكفار أو تقديمها لهم ولو بقصد الاستنقاذ، وهن على المسلمين فلا يجوز، والله العالم.
سؤال 858: هل يجوز بيع الخمور لغير المسلمين؟ الخوئي: تلك أيضًا لا يجوز بيعها مطلقًا، والله العالم.
سؤال 859: ما الحكم في الثمن المحصل من المعاملة السابقة؟
الخوئي: يجوز فعلًا تملك تلك الأثمان المأخوذة من غير المسلمين، والله العالم». صراط النجاة، تعليق الميرزا التبريزي (٢/٢٧٢).
فهذا التبريزي يُجَوِّز تقديم الحرام للكافر بغرض أخذ المال منه؛ وذلك أن مال الكافر مباح؛ ولذلك أجاز الخوئي تملك ذلك المال أيضًا، وجاء في فتوى التبريزي حل كل مال يؤخذ من الكفار بأي طريق:
«سؤال 1396: بعض الأشخاص في الدول الغربية يسرقون من الشركات التابعة للدولة الكافرة، ثم يأتون بهذه الأموال ويقولون: نريد أن نخمسها، فما حكم هذه الأموال؟ وكيف يتم الخمس فيها؟ وهل تصبح حلالًا بعد إخراج الخمس منها؟
التبريزي: لا تجوز السرقة المزبورة؛ لما فيه من المهانة على المسلمين، وإذا ارتكب ذلك يجب فيه الخمس كسائر الأموال وتصبح حلالًا، إن شاء الله تعالى». صراط النجاة، جواد التبريزي (1/499).
فما المانع الشرعي إذًا من تجارة الشيعي معهم في الخمر بغرض الاستيلاء على أموالهم؟!
بل إن الشيعة قد رووا في أصح كتبهم روايات عن الصادق أنه كان يتاجر بماله مع رجل يشرب الخمر، وهذا مع تحذير أبيه الباقر من التجارة مع ذلك الرجل!
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ ع: «إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَسْتَبْضِعَ بِضَاعَةً إِلَى الْيَمَنِ، فَأَتَيْتُ أَبَا جَعْفَرٍ ع، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّنِي أُرِيدُ أَنْ أَسْتَبْضِعَ فُلَانًا بِضَاعَةً، فَقَالَ لِي: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ؟! فَقُلْتُ: قَدْ بَلَغَنِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ لِي: صَدِّقْهُمْ، فَإِنَّ اللهَ D يَقُولُ: [ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ] {التوبة:61}، ثُمَّ قَالَ: إِنَّكَ إن اسْتَبْضَعْتَهُ فَهَلَكَتْ أَوْ ضَاعَتْ فَلَيْسَ لَكَ عَلَى اللهِ D أَنْ يَأْجُرَكَ وَلَا يُخْلِفَ عَلَيْكَ، فَاسْتَبْضَعْتُهُ فَضَيَّعَهَا، فَدَعَوْتُ اللهَ D أَنْ يَأْجُرَنِي، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ مَهْ! لَيْسَ لَكَ عَلَى اللهِ أَنْ يَأْجُرَكَ وَلَا يُخْلِفَ عَلَيْكَ، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: وَلِمَ؟ فَقَالَ لِي: إِنَّ اللهَ D يَقُولُ: [ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ] {النساء:5}، فَهَلْ تَعْرِفُ سَفِيهًا أَسْفَهَ مِنْ شَارِبِ الْخَمْرِ؟!». الكافي، الكليني (6/398).
فهذا الصادق يعصي أباه ويتاجر بأمواله مع شارب خمر، وقد مثل ذلك مع الصادق وولده إسماعيل، لكن مع تفاصيل وإضافات معيّنة، وبإسناد صحيح عندهم عن حريز. الكافي، الكليني (5/299).
يقول المجلسي الأول: «وإن أمكن ذلك بناءً على أن الأمر الإرشادي لا يجب، ولا يستحب أن يعمل به، وإنما الغرض فيه منفعة الدنيا، وإن كان لو عمل به أحد لله لكان مثابًا». روضة المتقين (٩/295).
وأقر بوقوع القصة عالمُهم المنتظري فقال: «أقول: احتمال وقوع القصة تارة للإمام الصادق (ع) وتارة لابنه إسماعيل غير بعيد، ولكن عصيان الإمام الصادق لأبيه بعيد جدًّا». مجمع الفوائد، حسين علي منتظري (1/465).
فهذا الإمام المعصوم لا يتورع أن يتاجر بماله مع شارب الخمر!!