لم يطعن أحد قط في إسلام معاوية ا إلا متأخرو الشيعة، وقد اتفق جميع من انتسب للإسلام في زمان الصحابة والتابعين على إسلام معاوية ا.
يقول الذهبي: «وَكَانَ النَّاسُ فِي الصَّدْرِ الأَوَّلِ بَعْدَ وَقْعَةِ صِفِّينَ عَلَى أَقسَامٍ: أَهْلُ سُنَّةٍ، وَهُم أُولُو العِلْمِ، وَهُم مُحِبُّونَ لِلصَّحَابَةِ، كَافُّونَ عَنِ الخَوضِ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُم، كسَعْدٍ وَابْنِ عُمَرَ وَمُحَمَّدِ بنِ سَلَمَةَ، وَأُمَمٍ.
ثُمَّ شِيعَةٌ: يَتَوَالَوْنَ، وَيَنَالُونَ مِمَّنْ حَارَبُوا عَلِيًّا، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُم مُسْلِمُونَ بُغَاةٌ ظَلَمَةٌ.
ثُمَّ نَوَاصِبُ: وَهُمُ الَّذِينَ حَارَبُوا عَلِيًّا يَوْمَ صِفِّينَ، وَيُقِرُّونَ بِإِسْلَامِ عَلِيٍّ وَسَابِقِيه، وَيَقُولُونَ: خَذَلَ الخَلِيفَةَ عُثْمَانَ.
فَمَا عَلِمتُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ شِيعِيًّا كَفَّرَ مُعَاوِيَةَ وَحِزْبَهُ، وَلَا نَاصِبِيًّا كَفَّرَ عَلِيًّا وَحِزْبَهُ، بَلْ دَخَلُوا فِي سَبٍّ وَبُغْضٍ، ثُمَّ صَارَ اليَوْمَ شِيعَةُ زَمَانِنَا يُكَفِّرُونَ الصَّحَابَةَ، وَيَبْرَؤُونَ مِنْهُم جَهلًا وَعُدوَانًا»([1]).
وبه وقع الإجماع على إسلامه ا ولم يطعن أحد قط من أصحاب رسول الله ق في إسلامه.
وأما الاختلاف في وقت إسلامه ا فذلك على ثلاثة أقوال:
يقول ابن كثير: «وَإِنَّمَا أَسْلَمَ مُعَاوِيَةُ يَوْمَ الْفَتْحِ»([3])، ويقول النووي: «وَإِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَامَ الْفَتْحِ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَقِيلَ: إِنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ سَنَةَ سَبْعٍ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ»([4]).
وبعض أهل العلم نقل إسلامه عام القضية، فقال الحافظ معلقًا على كلام النووي: «وَالَّذِي رَجَّحَهُ مِنْ كَوْنِ مُعَاوِيَةَ إِنَّمَا أَسْلَمَ يَوْمَ الْفَتْحِ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ السَّنَدُ، لَكِنْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ كَانَ أَسْلَمَ خُفْيَةً وَكَانَ يَكْتُمُ إِسْلَامَهُ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِظْهَارِهِ إِلَّا يَوْم الْفَتْح»([5]).
روى ابن أبي خيثمة قال: حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بنُ عَبْدِ الله قال: مُعَاوِيَة بْنُ أَبِي سُفْيَان كَانَ يَقُولُ: «أَسْلَمتُ عَامَ الْقَضِيَّةِ، لقيتُ النَّبِيَّ ق فوضعتُ إِسْلامي عِنْدَهُ فقَبِلَ مِنِّي، وَعَامُ الْقَضِيَّةِ سَنَةَ سِتٍّ»([6]).
روى ابن سعد في الطبقات عن عُمر بن عبد الله العَنْسِيّ قال: قال معاوية ابن أبي سفيان: «لَمَّا كَانَ عَامُ الْحُدَيْبِيَةِ َصَدَّتْ قُرَيْشٌ رَسُولَ اللَّهِ ق عَنِ الْبَيْتِ وَدَافَعُوهُ بِالرَّاحِ وَكَتَبُوا بَيْنَهُمُ الْقَضِيَّةَ، وَقَعَ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِي، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِأُمِّي هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ فَقَالَتْ: إِيَّاكَ أَنْ تُخَالِفَ أَبَاكَ، أَوْ أَنْ تَقْطَعَ أَمْرًا دُونَهُ فَيَقْطَعَ عَنْكَ الْقُوتَ، فَكَانَ أَبِي يَوْمَئِذٍ غَائِبًا فِي سُوقِ حُبَاشَةَ، قَالَ: فَأَسْلَمْتُ وَأَخْفَيْتُ إِسْلَامِي، فَوَاللَّهِ لَقَدْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ق مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ َإِنِّي مُصَدِّقٌ بِهِ، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ أَكْتُمُهُ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ق مَكَّةَ عَامَ عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ وَأَنَا مُسْلِمٌ مُصَدِّقٌ بِهِ، وَعَلِمَ أَبُو سُفْيَانَ بِإِسْلَامِي فَقَالَ لِي يَوْمًا: لَكِنْ أَخُوكَ خَيْرٌ مِنْكَ، فَهُوَ عَلَى دِينِي، قُلْتُ: لَمْ آلُ نَفْسِي خَيْرًا. وَقَالَ: فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ق مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ فَأَظْهَرْتُ إِسْلَامِي، وَلَقِيتُهُ فَرَحَّبَ بِي وَكَتَبْتُ لَهُ»([7]).
والحاصل أن معاوية وبالاتفاق أظهر إسلامه عام الفتح، وقد كان عمره وقت إسلامه ثمانية عشر عامًا([8]).
ولأن الشيعة يقدمون كلام علمائهم -عمليًّا- على كلام أئمتهم الذي يخضع دائمًا للرد بدعوى التصحيح والتضعيف، أو بدعوى التقية أو غير ذلك، فإننا نقدم كلام علمائهم على كلام معصوميهم.
فيقول شيخهم المفيد: «لا خلاف بين الأمة أن أبا سفيان أسلم قبل الفتح بأيام، وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله الأمان لمن دخل داره تكرمةً له وتمييزًا عمن سواه، وأسلم معاوية قبله في عام القضية، وكذلك كان إسلام يزيد بن أبي سفيان، وقد كان لهؤلاء الثلاثة من الجهاد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله ما لم يكن لأبي بكر وعمر وعثمان؛ لأن أبا سفيان أبلى يوم حُنين بلاءً حسنًا، وقاتل يوم الطائف قتالًا لم يُسمع بمثله في ذلك اليوم لغيره، وفيه ذهبت عينه، وكانت راية رسول الله صلى الله عليه وآله مع ابنه يزيد بن أبي سفيان، وهو يقدم بها بين يدي المهاجرين والأنصار. وقد كان أيضًا لأبي سفيان بعد النبي صلى الله عليه وآله مقامات معروفة في الجهاد، وهو صاحب يوم اليرموك، وفيه ذهبت عينه الأخرى، وجاءت الأخبار أن الأصوات خفيت فلم يُسمع إلا صوت أبي سفيان وهو يقول: يا نصر الله اقترب. والراية مع ابنه يزيد، وقد كان له بالشام وقائع مشهورات. ولمعاوية من الفتوح بالبحر وبلاد الروم والمغرب والشام في أيام عمر وعثمان وأيام إمارته وفي أيام أمير المؤمنين S وبعده ما لم يكن لعمر»([9]).
ويقول شيخهم المفيد: «أكثر فتوح الشام وبلاد المغرب والبحرين والروم وخراسان كانت على يد معاوية بن أبي سفيان وأمرائه كعمرو بن العاص وبسر بن أرطاة ومعاوية بن حديج وغير من ذكرناه، ومن بعدهم على أيدي بني أمية وأمرائهم بلا اختلاف»([10]).
وهذه النصوص الشيعية فيها جواب على دعوى إسلام معاوية ووالده كُرهًا؛ إذ إن المُكره لا يقدم على خدمة الإسلام بكل ما أوتي من قوة، حتى أنه ليفتح البلدان الكثيرة، ويقاتل قتالًا لم يُسمع بمثله كما يقول المفيد.
وبه يبطل قول من قال منهم إن إسلام أبي سفيان والأمويين إنما كان ظاهريًّا فقط، بل كانوا في غاية الإيمان، ولا يقال: إن من لم يثبت في حُنين فهو دليل على كفره أو نفاقه، وإلا لزم دخول عمار وسلمان والمقداد في ذلك الحكم، ولذلك فقد تناقضوا، فيحكمون بالإيمان على من لم تنزل عليه السكينة في يوم حنين.
وأما عن أقوال أئمتهم في إسلام معاوية وإيمانه فأكثر من أن تُحصر، ومن ذلك:
- روى صدوقهم عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله قال: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله اثني عشر ألفًا، ثمانية آلاف من المدينة، وألفان من مكة، وألفان من الطلقاء، ولم ير فيهم قدري ولا مرجئ ولا حروري ولا معتزلي ولا أصحاب رأي، كانوا يبكون الليل والنهار ويقولون: اقبض أرواحنا من قبل أن نأكل خبز الخمير»([11]).
فهذا المدحُ العظيم للطلقاء لا يمكن أن يصدق أبدًا على منافقين لم يسلموا إلا كرهًا كما يزعمون، ومعلوم أن فتح مكة كان عدد المسلمين فيه عشرة آلاف، ثم انضم ألفان من الطلقاء فصاروا في حنينٍ اثني عشر ألفًا.
قال كبير مفسريهم علي بن إبراهيم القمي في تفسيره (1/286): «وخرج في اثني عشر ألف رجل، فهؤلاء ومنهم معاوية ا الذين مدحهم المعصوم ولم يستثن منهم أحدًا أبدًا، لا معاوية ولا غيره».
- شهادة علي بالإيمان لمعاوية وجيشه كما ورد في نهج البلاغة: «ومن كتاب له S كتبه إلى أهل الأمصار يقص فيه ما جرى بينه وبين أهل صفين: وكان بدء أمرنا أنا التقينا والقوم من أهل الشام، والظاهر أن ربنا واحد ونبينا واحد، ودعوتنا في الإسلام واحدة، ولا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله، ولا يستزيدوننا، الأمر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان ونحن منه براء»([12]).
وروى جَعْفَر عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ عَلِيًّا S كَانَ يَقُولُ لِأَهْلِ حَرْبِهِ: إِنَّا لَمْ نُقَاتِلْهُمْ عَلَى التَّكْفِيرِ لَهُمْ، وَلَمْ نُقَاتِلْهُمْ عَلَى التَّكْفِيرِ لَنَا، وَلَكِنَّا رَأَيْنَا أَنَّا عَلَى حَقٍّ، وَرَأَوْا أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ»([13]).
فالشيعة ينسبون الكفر الواقعي لمعاوية وجيشه، بينما أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب ينفي عنهم ذلك تمامًا، فأي الفريقين أحق بالصدق والتصديق؟!
إذا كان معاوية غير مسلم كما تزعمون، فلماذا لم يشترط عليه الحسن أن يدخل في الإسلام أولًا؟ وكيف يطلب من منافق أن يعمل بالكتاب والسنة مباشرة؟! فقد جاء في شروط الصلح الذي كان بين الحسن ومعاوية في كتب الشيعة، وكتب إليه هذه الوثيقة التالية:
«بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم، هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ الحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِ وِلَايَةَ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى:
1- أَنْ يَعْمَلَ فِيهِمْ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وآله وَسِيرَةِ الخُلَفَاءِ الصَّالِحِينَ»([14]).
فلو كان الحسن يعلم ما يزعمه الشيعة في معاوية من الكفر، لاشترط عليه الدخول في الإسلام ابتداءً قبل أن يشترط عليه أن العمل في الخلافة بالكتاب والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين؛ وذلك أنهم يقررون أنه «لا يجوز أن يكون سريرة ولاة الأمر بخلاف علانيتهم، كما لم يجز أن تكون سريرة النبي الذي أصل ولاة الأمر وهم فرعه بخلاف علانيته»([15]).
وبه يثبت أن الحسن يعلم أن سريرة معاوية الإسلام، بل الإيمان الكامل اللازم لولاية أمر المسلمين.
بل ونصَّت كتب الشيعة على أن الحسين قد ترحَّم على معاوية ا كما في مقتل الحسين لأبي مخنف وفيه: «فأقرأه الوليد الكتاب، ونعى له معاوية، ودعاه إلى البيعة، فقال حسين: إنا لله وإنا إليه راجعون، ورحم الله معاوية، وعظم لك الأجر»([16]).
فهل يُقال: إن المعصوم قد ترحَّم المعصوم على منافق؟
هذا غير ممكن؛ وذلك أن الشيعة تزعم أن ترحم العالم على شخص دليل على وثاقته وعلو مكانته وجلالة قدره، فيقول شيخهم عبد الرسول الغفار: «وقد عرفت أن ذكر كبار الثقات من الأصحاب مشايخهم بالترضي والترحم عليهم دليل على علو مكانتهم وجلالة قدرهم»([17]).
فنقول كما قال الخوئي: «وقد ترحم الصادق (ع) على جميع زوَّار الحسين (ع)، وفيهم الفاسق والكذاب وشارب الخمر، فهل ترى أن ترحم الصدوق وترضيه أعظم شأنًا من ترحم الصادق S»([18]).
✍ قلنا: نعم يا خوئي! هذا الحسين ا يترحَّم على معاوية بخصوصه، وبالرغم من هذا تحكمون عليه بالنفاق! فإذا ترحم صدوقكم على شخص ما كان ذلك غاية في الوثاقة والعدالة!!
([1]) سير أعلام النبلاء (5/374) ط الرسالة.
([2]) المعارف (ص349)، أنساب الأشراف (5/13)، الاستيعاب (3/1416)، أسد الغابة (5/201)، تهذيب الأسماء واللغات (2/101)، البداية والنهاية (11/396)، تاريخ الخلفاء (ص148).
([3]) البداية والنهاية (16/28) ت التركي.
([4]) شرح النووي على مسلم (8/205).
([5]) فتح الباري، ابن حجر (3/565).
([6]) التاريخ الكبير - السفر الثاني، ابن أبي خيثمة (1/544) ط الفاروق.
([7]) الطبقات الكبير (6/16) ط الخانجي.
([8]) المجتبى من المجتنى، ابن الجوزي (ص61).
([9]) الإفصاح، المفيد (ص١٥٤).
([10]) الإفصاح، المفيد (ص130).
([11]) الخصال، الصدوق (ص٦٣٩)، وصحح إسناده النوري الطبرسي في خاتمة المستدرك (١/310)، وقال حيدر حب الله: «وهو صحيح السند على المشهور. منطق النقد السندي (بحوث في قواعد الرجال والجرح والتعديل)، حيدر حب الله (2/٧٨).
([12]) نهج البلاغة، الشريف الرضي (1/114).
([13]) قرب الإسناد، أبو العباس الحميري (1/93) ط الحديثة.
([14]) الإمام الحسن (ع) قدوة وأسوة، محمد تقي المدرسي (ص٤١)، الخصائص الفاطمية، محمد باقر الكجوري (٢/578)، بحار الأنوار، المجلسي (٤٤/67)، منتهى الآمال في تواريخ النبي والآل (ع)، عباس القمي (١/٤٣٤)، جواهر التاريخ (سيرة الإمام الحسن ع)، علي الكوراني العاملي (٣/58).
([15]) علل الشرائع، الصدوق (1/214).
([16]) مقتل الحسين (ع)، أبو مخنف الأزدي (ص١٩)، مسند الإمام الحسين (ع)، عزيز الله عطاردي (١/257)، موسوعة الإمام الحسين (ع) (١/244)، مكتب طباعة الكتب المساعدة التعليمية.
([17]) الكليني والكافي، عبد الرسول الغفار (ص١٩٩).
([18]) كتاب الصلاة، الخوئي (٤/235).