هذه الرواية أخرجها ابن عساكر في تاريخه بسنده عن أبي منيع الوليد بن داود بن محمد بن عبادة بن الصامت، عن ابن عمه عبادة بن الوليد، ولم يذكر في الإسناد عن الوليد بن عبادة، وقال: «كان عبادة بن الصامت مع معاوية بن أبي سفيان في عسكره، فأذّن يومًا، فقام خطيب يمدح معاوية ويثني عليه، فقام عبادة بتراب في يده فحثاه فِي فيِّ الخطيب، فغصب معاوية، فقال له عبادة مجيبًا له: إنك يا معاوية لم تكن معنا حين بايعنا رسول الله ق بالعقبة على السمع والطاعة في منشطنا ومكسلنا وأثرةٍ علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم بالحق حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم، وقال رسول الله ق: احثوا في أفواه المداحين التراب»([1]).
هذا إسناد تالف، فيه الوليد بن داود، وهو مجهول.
قال محقق سير أعلام النبلاء -أيمن الشبراوي- في تعليقه على هذه الرواية: «ضعيف بهذا التمام؛ فيه الوليد بن داود بن محمد، لم أجد من ترجم له، والحديث لم يرد بهذا التمام في شيء من كتب السنة، لكن ورد نصٌّ على البيعة عن عبادة بن الصامت، قَالَ: «بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ ق على السمع والطاعة في المنشط والمكره»([2])»([3]).
وقال محقق طبعة الرسالة: «ورجاله ثقات، خلا الوليد بن داود بن محمد؛ فإنني لم أعرفه»([4]).
لو سلمنا جدلًا بصحة الرواية فليس فيها مطعن في معاوية ا، بل هي مدح له ا من وجوه:
الوجه الأول: أنه مَلِكٌ قَبِلَ النصيحة من رعيته، ولم يتكبر على أمر الله ولا أمر رسوله ق؛ إذ لما سمع الحديث من عبادة سكت وانصاع لكلام رسول الله ق، ولم يرد في الخبر شيء بخلاف ذلك.
الوجه الثاني: فيه نفي لكل تهمة اتهمته بها الشيعة في باب مخالفة السنة أو البدعة، فمعاوية لم يكن يعلم الحكم؛ إذ لم يحضر الواقعة كما جاء في متن الخبر، فلما علم بإخبار عبادة له سكت وانصاع، فدل ذلك على اتباعه وتعظيمه للسنة.
الوجه الثالث: فيه مدح للصحابة جميعًا ومنهم معاوية؛ إذ إنهم لا يسكتون على منكر أبدًا، ومعاوية لا يرضى بحثْوِ التراب على خطيبٍ يتكلم بحقٍّ، ولذلك أنكر المنكر، لكن لما علم بحديث رسول الله ق سكت.
إذا لم يكن في المدح مبالغة ومجاوزة للحد جاز عند تحقق المصلحة، يقول علامة الشيعة يوسف البحراني: «من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وآله كان ينشد بين يديه البيت والأبيات من الشعر في المسجد ولم ينكر ذلك، وألحق به المحقق الشيخ علي قدس سره مدح النبي ومراثي الحسين صلوات الله عليهم، قال في (المدارك): ولا بأس بذلك كله؛ لصحيحة علي بن يقطين: أنه سأل أبا الحسن S عن إنشاد الشعر في الطواف، فقال ما كان من الشعر لا بأس به فلا بأس به، وقال في (البحار) بعد نقل ما ذكره الشهيد والشيخ علي: أقول ما ذكراه لا يخلو من قوة، ويؤيده استشهاد أمير المؤمنين S بالأشعار في الخطب، وكانت غالبًا في المسجد، وما نقل من إنشاد المداحين كحسان وغيره أشعارهم عندهم Q؛ ولأن مدحهم Q عبادة عظيمة، والمسجد محلها، فيخص المنع بالشعر الباطل»([5]).
وعليه فالمدح بالشعر أو بغيره إذا كان للمصلحة فلا يدخل في النهي الوارد في الحديث، وتحقيق تلك المصلحة قد يختلف فيها أهل العلم، فقد يرى بعضهم أنها متحققة، ويرى الآخر عدمها، فإذا رأى عبادة عدم تحققها ورأى معاوية تحققها فلا ينقض الاجتهاد باجتهاد مثله.
كان يجوز لمعاوية أن يعارض عبادة بحجة أنه قد طبَّق الحديث على ظاهره، والحديث له تأويل صحيح في اللغة، قال الزمخشري: «وفي حثو التراب معنيان: أحدهما: التغليظ في الرد عليه، وثانيهما: أن يقال له: بفِيك التراب»([6]).
يقول البغوي في شرحه لرواية شبيهة: «وَقدِ اسْتعْملِ الْمِقْدَادُ الحَدِيثَ على ظَاهره فِي تنَاول عين التُّرَاب وحثيه فِي وَجه المادح، وَقد يتَأَوَّل أَيْضًا على وَجه آخر، وَهُوَ أَن يكون مَعْنَاهُ: الخيبة والحرمان، أَي: من تعرض لكم بالثناء والمدح، فَلَا تعطوه واحرموه، كنَّى بِالتُّرَابِ عَن الحرمان، كَقَوْلِهِم: مَا فِي يَده غير التُّرَاب، وَكَقَوْلِه ق: إِذا جَاءَك يطْلب ثمن الْكَلْب، فاملأ كَفه تُرَابًا»([7]).
وكما في قوله ق: «الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ»([8])، قال أبو عبيد البكري: «لم يُرِدْ S أن يدفع إلى العاهر حجرًا، وإنما يريد أنه لا شيء له إلا ما يهينه ولا ينفعه، فقيل له إذا طلب الولد: الحجر لك. قال: وعلى هذا يتأول قوله ق: «إذا رأيتم المدَّاحين فاحثوا في وجوههم التراب»، معناه: أن يقال للمادح بالباطل: بفيك التراب، وعلى معنى التغليظ عليهم»([9]).
وبه يثبت أن معاوية حتى لو كان على علم بالحديث، فإنه يجوز له أن يعترض على تطبيق عبادة لظاهر النص دون مفهومه.
وقد يقول رافضي: نحن نفهم الحديث كفهم عبادة بن الصامت في أن نحثوا التراب في وجوه مادحي معاوية([10])، فنقول: إن هذا باطل من وجوه:
الوجه الأول: أن الحديث عام، فلو أسقطتموه على معاوية فيجب إسقاطه على كل مادح لكل أحد عندكم، وعند الرجوع لكتب التراجم فإننا لا نجد عالِمًا شيعيًّا ترجم لعالم شيعي آخر إلا وأطراه ومدحه بما لا تكاد الأرض تتحمله من كذب وغلو، وبناء عليه يرجع هذا الفهم إلى أن تملأ أفواهكم وأنوفكم بالتراب.
الثاني: إن هذا قد يقال في حياة معاوية ا، أما بعد وفاته فقد أُمِنت الفتنة من المدح، يقول محمد تقي المدرسي في معرض بيان الحكمة في حكم حثو التراب في وجوه المداحين ما نصه: «بل إنَّ الدين أوصانا أن نحثوا في وجوه المدّاحين التراب؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِينَ؛ لأنَّ إعجاب الإنسانِ بذاتِهِ من أهَمِّ وسائِلِ الشيطَانِ وَأَسالِيبِه»([11]).
فهذه هي الحكمة من منع المدح في وجه الحي، فإذا مات انتفت العلة من المنع، وجاز القول بما يستحق المرء من مدح، وبه تسقط حجتهم.
([1]) تاريخ دمشق، ابن عساكر (26/196).
([2]) صحيح البخاري (1/5).
([3]) سير أعلام النبلاء (3/343) ط الحديث.
([4]) سير أعلام النبلاء (2/7) ط الرسالة.
([5]) الحدائق الناضرة، البحراني (٧/289).
([6]) ربيع الأبرار ونصوص الأخيار (5/97).
([7]) شرح السنة، البغوي (13/151).
([8]) صحيح البخاري (3/54)، صحيح مسلم (2/1080).
([9]) فصل المقال في شرح كتاب الأمثال (ص17).
([10]) ذكر مثل هذا الشيعي علي خان المدني الشيرازي، في كتابه «الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة» (ص٢٤١)؛ حيث قال: «ومن طرائفه أن هذا يقتضي أن من مدح عثمان فكذا ينبغي أن يُحثى التراب في وجهه اقتداء بالمقداد، الذي أجمع المسلمون على صلاحه!».
([11]) الحكم الإسلامي في مدرسة الإمام علي (ع)، محمد تقي المدرسي (ص٢٥٩).