فهمت الشيعة دعاء النبي ق على أنه طعن لسببين:
الأول: داخلة السوء والحقد على أصحاب النبي ق وعلى دين الإسلام.
الثاني: بُعدهم عن معرفة لغة العرب وعاداتهم في الكلام، وجوابًا وبيانًا منَّا لطالب الحق نقول:
إن ليس كل دعاء عند العرب يكون على ظاهره وحقيقته، وإنما يبين ذلك إما سياق الكلام، فقد يكون لفظ الدعاء مما جرت به عادة العرب بذكره دون قصد معناه.
قال النووي في قول أم المؤمنين عائشة ل لأم سليم: «تَرِبَتْ يَمِينُكِ»([1]) ما نصه: «وَأَمَّا قَوْلُهَا: «تَرِبَتْ يَمِينُكِ» فَفِيهِ خِلَافٌ كَثِيرٌ مُنْتَشِرٌ جِدًّا لِلسَّلَفِ والخلف من الطوائف كلها، والأصح الْأَقْوَى الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ فِي مَعْنَاهُ أَنَّهَا كلمة أصلها: افتقرت، ولكن العرب اعتادت استعماله غَيْرَ قَاصِدَةٍ حَقِيقَةَ مَعْنَاهَا الْأَصْلِيِّ، فَيَذْكُرُونَ تَرِبَتْ يَدَاكَ، وَقَاتَلَهُ اللهُ مَا أَشْجَعَهُ، وَلَا أُمَّ لَهُ، وَلَا أَبَ لَكَ، وَثَكِلَتْهُ أُمُّهُ، وَوَيْلُ أمه، وما أشبه هذا من ألفاظهم، يقولونها عند إنكار الشَّيْء أو الزجر عنه، أَوِ الذَّمِّ عَلَيْهِ، أَوِ اسْتِعْظَامِهِ، أَوِ الْحَثِّ عَلَيْهِ، أَوِ الْإِعْجَابِ بِهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ ق لِعَائِشَةَ: «بَلْ أَنْتِ فَتَرِبَتْ يَمِينُكِ»، فَمَعْنَاهُ: أَنْتِ أَحَقُّ أَنْ يُقَالَ لَكِ هَذَا، فَإِنَّهَا فَعَلَتْ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنَ السُّؤَالِ عَنْ دِينِهَا، فَلَمْ تَسْتَحِقَّ الْإِنْكَارَ وَاسْتَحْقَقْتِ أَنْتِ الْإِنْكَارَ؛ لِإِنْكَارِكِ مَا لا إنكار فيه»([2]).
وعليه فليس كل دعاء يجري على اللسان يكون مقصودًا من قائله، ومثلما قال النووي في كلام أم المؤمنين عائشة قال في كلام النبي لمعاوية: «وَأَمَّا دُعَاؤُهُ عَلَى مُعَاوِيَةَ أَنْ لَا يَشْبَعَ حِينَ تَأَخَّرَ، فَفِيهِ الْجَوَابَانِ السَّابِقَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَرَى عَلَى اللِّسَانِ بِلَا قَصْدٍ([3])، وَالثَّانِي: أَنَّهُ عُقُوبَةٌ لَهُ لِتَأَخُّرِهِ، وَقَدْ فَهِمَ مُسْلِمٌ V مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِ، فَلِهَذَا أَدْخَلَهُ فِي هَذَا الباب، وجعله غيره من مناقب معاوية لأنه فِي الْحَقِيقَةِ يَصِيرُ دُعَاءً لَهُ»([4]).
ووجه صيرورة هذا الدعاء في حقيقته دعاء له وأنه من مناقبه أن الرواية لم يأت فيها أي تصريح ولا حتى تلميح أن ابن عباس قد أخبر معاوية بأمر النبي ق له فرفض بحجة الأكل.
فدل ذلك على عدم علم معاوية بأمره الله ق، فلا يُقال إنه خالف واستحق الدعاء عليه، فدخل معاوية بذلك جزمًا في حديث رسول الله ق: «اللهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَبَبْتُهُ، أَوْ لَعَنْتُهُ، أَوْ جَلَدْتُهُ، فَاجْعَلْهَا لَهُ زَكَاةً وَرَحْمَةً»([5]).
وهذا ما ذكره النووي مقرًّا به، فقال: «وَقَدْ فَهِمَ مُسْلِمٌ V مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِ، فَلِهَذَا أَدْخَلَهُ فِي هَذَا الباب، وجعله غيره من مناقب معاوية؛ لأنه فِي الْحَقِيقَةِ يَصِيرُ دُعَاءً لَهُ»([6]).
فقد جاء ذلك في كتبهم عين هذه المعاني التي ذكرها أهل السنة في توجيه هذه الألفاظ التي ظاهرها الذم ولا يُراد بها الذم، وإنما قد يُراد بها المدح.
يقول الكاشاني: ««تربت يداك» أي لا أصبت خيرًا، يقال: ترب الرجل أي افتقر، أي: لصق بالتراب، وأترب إذا استغنى. قال ابن الأثير: وهذه الكلمة جارية على ألسنة العرب لا يريدون بها الدعاء على المخاطب، ولا وقوع الأمر بها كما يقولون: قاتله الله، وقيل معناها: لله درك، قال: وكثيرًا ترد للعرب ألفاظ ظاهرها الذم، وإنما يريدون بها المدح، كقولهم: لا أب لك، ولا أم لك»([7]).
ويقول المجلسي: «وهذه الكلمة جارية على ألسنة العرب لا يريدون بها الدعاء على المخاطب، ولا وقوع الأمر به»([8]).
فهذا اعتراف من الشيعة بأن المعصوم قد يدعو على أحد، ولا يقصد ظاهر اللفظ.
ولو قلنا بقبول هذا الدعاء على ظاهره وأنه أُريد به حقيقة اللفظ فإن ذلك لا يضر معاوية في دينه شيء؛ إذ إن غايته أن تطول مدة أكله.
ولئن قالوا إنها صفة ذم أن يكون الرجل أكولًا فجوابه: أن الرجل إذا غُلِب على صفة لا يستطيع الانفكاك منها فتكون بذلك جبلّة فيه، وبه يرتفع عنه الذم الشرعي؛ لأن الله تعالى قال: [ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ] {البقرة:286}، وإذا ارتفع الذم الشرعي لم يجز لأحد أن يعيب في الشخص صفة لا يعيبه بها الشرع.
جاء في كتب الشيعة أن النبي ق قال لعلي: «إنك لأكول» كما في كتاب الأخلاق لعبد الله شبر قال: «وروي أنه (ص) كان يأكل رطبًا مع ابن عمه وأخيه أمير المؤمنين، وكان يأكل ويضع النوى أمامه، فلما فرغَا كان النوى كلُّه مجتمعًا عند علي S، فقال له: يا علي، إنك لأكول، فقال له: يا رسول الله، الأكول من يأكل الرطب ونواه»([9]).
فهذا اتهام من النبي ق لعلي أنه أكول، ولا يقال إن هذا كان في باب المزاح، فإن النبي ق لا يقول إلا حقًّا، وانظر لجواب علي على النبي ق وهو يردها عليه ويتهمه بأنه هو الأكول! وقد برَّروا ذلك بأن كل بني آدم أكول!
فيقول محمد باقر الحكيم: «وقال له: «يا علي، إنك لأكول»، لاحِظوا الدقة في التعبير، فإنه لا يقول له: أنت أكلت هذا التمر مثلًا، وإنّما قال له: لأكول. فالإنسان على كل حال أكول؛ لأنّه يأكل ويشرب كما يأكل الآخرون ويشربون، نعم لا بد أن يكون الحديث بالمزاح بهذه الطريقة، كأنّه يوهم بأنّه أكل جميع هذا التمر، وكان جواب الإمام علي S جميلًا ودقيقًا جدًّا أيضًا؛ إذ يقول له: يا رسول الله، الأكول من يأكل التمر ونواه، يعني: أنا أكلت التمر، ولكن تركت النوى، أما أنت فكأنك أكلت التمر ونواه؛ إذ لا يشاهد الناظر النوى أمامك»([10])، فسبحان من أذل الشيعة بشبهاتهم!
ومع ذلك فلم نجد روايةً صحيحةً عن معاوية أنه كان كثير الأكل جدًّا، ولو كان المراد على ظاهره كما أرادت الشيعة فلا بد من وقوعه على الحقيقة، ولا بد كذلك من اشتهار ذلك بين الناس، ومع ذلك فلم نقف على خبر واحد قد أفاد ذلك!
وإن كان هناك تصريح من بعض المؤرخين كابن كثير في قوله: «وَقَدِ انْتَفَعَ مُعَاوِيَةُ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ. أَمَّا فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ لَمَّا صَارَ فِي الشَّامِ أَمِيرًا، كَانَ يَأْكُلُ فِي الْيَوْمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، يُجَاءُ بِقَصْعَةٍ فِيهَا لَحْمٌ كَثِيرٌ وَبَصَلٌ فَيَأْكُلُ مِنْهَا، وَيَأْكُلُ فِي الْيَوْمِ سَبْعَ أَكَلَاتٍ بِلَحْمٍ، وَمِنَ الْحَلْوَى وَالْفَاكِهَةِ شَيْئًا كَثِيرًا، وَيَقُولُ: وَاللهِ مَا أَشْبَعُ، وَإِنَّمَا أَعْيَى. وَهَذِهِ نِعْمَةٌ وَمَعِدَةٌ يَرْغَبُ فِيهَا كُلُّ الْمُلُوكِ.
وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَقَدِ أَتْبَعَ مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ هُوَ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا، مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ ق قَالَ: «اللهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّمَا عَبْدٍ سَبَبْتُهُ أَوْ جَلَدْتُهُ أَوْ دَعَوْتُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ أَهْلًا، فَاجْعَلْ ذَلِكَ كَفَّارَةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا عِنْدَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». فَرَكَّبَ مُسْلِمٌ مِنَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَهَذَا الْحَدِيثِ فَضِيلَةً لِمُعَاوِيَةَ، وَلَمْ يُورِدْ لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ»([11]).
وتصريح ابن كثير بكثرة الأكل لم نجد رواية صحيحة تؤيده، وإذا كان الصواب أن الدعاء لم يكن على حقيقته، فلا ينسجم هذا التأويل مع كثرة الأكل -وإن كان لا ذم فيه- وقد جاء أن النبي قد دعا ببعض الأدعية على بعض من لا يستحق -وإن كان نادرًا- ولم يستجب لتلك الدعوات اتفاقًا.
جاء في الفتاوى الحديثية لابن حجر الهيثمي: «وَسُئِلَ -نفع الله بِعُلُومِهِ- عَن الْجمع بَين قَوْله ق: (اللهُمَّ إِنِّي أتَّخِذُ عنْدك عهدًا لَا تُخْلِفْنِيهِ، فَإِنَّمَا أَنا بَشَر، فأيُّ الْمُؤمنِينَ آذيتُه أَو سَببْتُه أَو لعنْتُهُ أَو جَلَدْتُه، فاجعلها لَهُ صَلَاة وَزَكَاة وقُربة تقربه بهَا إِلَيْك يَوْم الْقِيَامَة).
وَصَحَّ أَنه ق دفع إِلَى حَفْصَة رجلًا وَقَالَ: احْتَفِظِي بِهِ، فغفلتْ عَنهُ وَمضى، فَقَالَ لَهَا ق: قطع الله يدك، ففزعتْ، فَقَالَ: إِنِّي سَأَلت رَبِّي تبَارك وَتَعَالَى: أَيّمَا إِنْسَان من أمتِي دَعَوْت الله عَلَيْهِ أَن يَجْعَلهَا لَهُ مغْفرَة)، وَبَين قَوْله: (اللهُمَّ مَنْ وليَ من أَمر أمتِي شَيْئا فشَقَّ عَلَيْهِم فاشْقُق اللهُمَّ عَلَيْهِ).
فَإِنَّهُ بِالنّظرِ للحديثين الْأَوَّلين، دُعَاء لَهُ لَا عَلَيْهِ، فينافي المُرَاد؟
فَأجَاب بقوله: لَا مُنَافَاة؛ لِأَن الْأَوَّلين فِي الدُّعَاء بِغَيْر سَبَب، والأخير دُعَاء بِسَبَب. وَأَيْضًا فالأولان فِي دُعَاء على معِين، والأخير على مُبْهم، وَقد صرح ابْن القَاضِي وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ بِأَن مِنْ خَصَائِصه ق أَنه يجوز لَهُ الدُّعَاء على من شَاءَ بِغَيْر سَبَب، وَيكون فِيهِ من الْفَوَائِد مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي الْحَدِيثين الْأَوَّلين»([12]).
وقد أقر الشيعة بأنه ليس كل دعاء للنبي ق يستجاب، يقول محمد جواد مغنية: «والذي نراه أن حقيقة الدعاء ما هي إلا طلب ورجاء، سواء أكان من نبي أم غير نبي، وقد تستدعي حكمته تعالى الاستجابة فيستجيب، أو الرفض فيرفض، وليس معنى عدم الاستجابة أن الداعي لا وزن له عند الله كي يضر ذلك بمقام النبوة وعصمة الأنبياء، على فرض عدم الاستجابة لدعائهم، كلَّا، فإن رفض السؤال بمجرده لا ينبئ عن غضب المسؤول على السائل، بل قد يدل على حبه له، وحرصه على مصلحته، فلقد طلب نوح (ع) من الله نجاة ولده من الغرق، فأجابه المولى بقوله: [ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ] {هود:46}، وبكلام آخر أن دعاء النبي لا يعبِّر إلا عن حبه ورغبته، وليس من شك أن الأنبياء يحبون ويرغبون في إيمان الناس جميعًا وهدايتهم إلى الحق، ومع ذلك قال الله لسيد المرسلين الأعظم: [ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ] {القصص:56}، ولو تحقق كل ما يرغب فيه الأنبياء لما وجد على ظهرها كافر ولا مجرم، ولما قاسى رسل الله من الكفار والفجار ما قاسوه، وبالخصوص سيدهم وخاتمهم الذي قال: ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت»([13]).
والحمد لله على سلامة قلوب أهل السنة لأصحاب النبي ق.
([1]) صحيح مسلم (1/250) ت عبد الباقي.
([2]) شرح النووي على مسلم (3/221).
([3]) أي بلا قصد لحقيقة المعنى، ولكنه مما جرت به الألسن ولا يُراد به ظاهره.
([4]) شرح النووي على مسلم (16/156).
وكذلك قال القرطبي: «(وقوله: لا أشبع الله بطنه) يحتمل أن يكون من نوع: لا كبر سنك». المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (6/588).
وبمثله أجاب ابن حجر الهيثمي، فقال: «فحينما أن هذا الدعاء جرى على لسانه ق من غير قصد، كما قال لأصحابه: «تربت يمينك» ولبعض أمهات المؤمنين: «عقرى حلقى» ونحو ذلك من الألفاظ التي كانت تجري على ألسنتهم بطريق العادة من غير أن يقصدوا معانيها». مختصر تطهير الجنان واللسان عن الخوض والتفوه بثلبِ معاوية بن أبي سفيان ا، ابن حجر الهيثمي (ص٩١).
([5]) صحيح مسلم (4/2007) ت عبد الباقي.
([6]) شرح النووي على مسلم (16/156).
([7]) الوافي، الفيض الكاشاني (٢١/45).
([8]) مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، المجلسي (٢٠/23).
([9]) الأخلاق، السيد عبد الله شبر (ص١٥٠)، لآلي الأخبار، محمد نبي بن أحمد التويسركاني (١/77)، الكشكول، المحقق البحراني (١/8)، كشف الأسرار في شرح الاستبصار، نعمة الله الجزائري (١/165)، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب الله الهاشمي الخوئي (٦/94).
([10]) الإخوة الإيمانية من منظور الثقلين، محمد باقر الحكيم (ص٩٩، ١٠٠).
([11]) البداية والنهاية (11/402) ت التركي.
([12]) الفتاوى الحديثية، ابن حجر الهيتمي (ص١١٨).
([13]) التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية (٤/451).