وهذا ثابت في كتب السنة والشيعة على السواء.
فقد قال قوام السنة الأصبهاني: «فَالَّذِي ثَبت عِنْد أهل النَّقْل أَنه أَمَرَ عبيدَ الله بن زِيَاد بِحِفْظ الْكُوفَة، وَكتب إِلَيْهِ أَن يمْنَع من أَرَادَ الِاسْتِيلَاء عَلَى الْكُوفَة، فَلَمَّا قصد الْحُسَيْن بْن عَليّ ا الْكُوفَة استقبلته خيل ابْن زِيَاد ليمنعوه من دُخُول الْكُوفَة، فَلم يتمكنوا من مَنعه إِلَّا بقتْله، هَذَا مَا ثَبت عِنْد أهل النَّقْل مَعَ مَا أظهر من إِنْكَاره عَلَيْهِ وَلَعْنِهِ عبيد الله بن زِيَاد وَقَوله: قد كُنَّا نرضى فِيك بِدُونِ قتل الْحُسَيْن، وإظهاره التحيد والبكاء لقَتله، وَأَنه جعل يضْرب بِيَدِهِ عَلَى فَخذه ويلعن قتلته وصلب قَاتل الْحُسَيْن، فَقَالَ: لقد عجل عَلَيْهِ ابْن زِيَاد قَتله الله، وَلم يثبت ضربه بالقضيب عَلَى أَسْنَانه، إِنَّمَا ثَبت ذَلِكَ من فعل ابْن زِيَاد بالرواية الصَّحِيحَة»([1]).
وقال أيضًا: «رُوِيَ عَن عَليّ بن الْحُسَيْن ا قَالَ: أدخلنا عَلَى يزِيد وَنحن اثْنَا عشر غُلَامًا، فَقَالَ: وَالله مَا علمت بِخُرُوج أَبِي عبد الله -يَعْنِي الْحُسَيْن ا- حِين خرج وَلَا بقتْله حِين قُتل، ثمَّ قَالَ: [ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ] {الحديد:22} الْآيَة، فَقَالَ لَهُ النُّعْمَان بن بشير: اصْنَع بهم مَا كَانَ يصنع بهم رَسُول الله ق لَو رَآهُمْ بِهَذِهِ الصُّورَة، فَبكى بكاءً شَدِيدًا أهلُ الدَّار حَتَّى علت أَصْوَاتهم، ثمَّ قَالَ: فكوا عَنْهُم الغل، وَفك الغل بِيَدِهِ من عنق عَليّ بن الْحُسَيْن، وَأمر بحملهم إِلَى الْحمام وغسلهم، وَأمر بِضَرْب القباب عَلَيْهِم، وَأمرهمْ بالمطبخ وكساهم وَأخرج لَهُم جوائز كَثِيرَة»([2]).
وقد سئل ابن الصلاح عن يزيد فقال: «لم يصح عندنا أنه أمر بقتل الحسين ا، والمحفوظ أن الآمر بقتاله المفضي إلى قتله إنما هو عبيد الله ابن زياد والي العراق إذ ذاك ... والناس في يزيد على ثلاث فرق: فرقة تحبه وتتولاه، وفرقة تسبّه وتلعنه، وفرقة متوسطة في ذلك، لا تتولاه ولا تلعنه وتسلك به سبيل سائر ملوك الإِسلام وخلفائهم غير الراشدين في ذلك وشبهه، وهذه هي التي أصابت الحق، مذهبها هو اللائق لمن يعرف سِيَرَ الماضين ويعلم قواعد الشريعة الظاهرة»([3]).
فقد قال علامتهم أبو مخنف: «ولما أرادوا أن يخرجوا دعا يزيد علي بن الحسين، ثم قال: لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أني صاحبه ما سألني خصلة أبدًا إلا أعطيتها إياه، ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن الله قضى ما رأيت، كاتبني وأنه كل حاجة تكون لك، قال وكساهم وأوصى بهم ذلك الرسول، قال: فخرج بهم وكان يسايرهم بالليل، فيكونون أمامه حيث لا يفوتون طرفه، فإذا نزلوا تنحى عنهم وتفرق هو وأصحابه حولهم كهيئة الحرس لهم، وينزل منهم بحيث إذا أراد إنسان منهم وضوءًا أو قضاء حاجة لم يحتشم، فلم يزل ينازلهم في الطريق هكذا ويسألهم عن حوائجهم ويلطفهم حتى دخلوا المدينة»([4]).
وقال أيضًا: «قال: ثم دعا بالنساء والصبيان فأُجلسوا بين يديه فرأى هيئة قبيحة فقال: قبَّح اللهُ ابنَ مرجانة، لو كانت بينه وبينكم رحم أو قرابة ما فعل هكذا بكم ولا بعث بكم هكذا»([5]).
وكذلك فإن علماء الشيعة في سرد هذه الأحداث إنما يذكرون أن قتل الحسين إنما كان بمشورة ورأي عبيد الله بن زياد وشمر بن ذي الجوشن، يقول الطبرسي:
«ثم رجع عمر إلى مكانه وكتب إلى عبيد الله بن زياد: أما بعد: فإن الله تعالى قد أطفأ النائرة، وجمع الكلمة، وأصلح أمر الأمة، هذا حسين أعطاني عهدًا أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى، أو أن يسير إلى ثغر من الثغور فيكون رجلًا من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، أو أن يأتي أمير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده فيرى فيما بينه وبينه رأيه، وفي هذا لك رضًا وللأمة صلاح».
فلما قرأ عبيد الله الكتاب قال: هذا كتاب ناصح مشفق على قومه، فقام إليه شمر بن ذي الجوشن فقال: أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك وإلى جنبك؟! والله لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك ليكونن أولى بالقوة ولتكونن أولى بالضعف، فلا تعطه هذه المنزلة، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبت فأنت أولى بالعقوبة، وإن عفوت كان ذلك لك.
فقال ابن زياد: نعم ما رأيت، الرأي رأيك، اخرج بهذا الكتاب إلى عمر ابن سعد فليعرض على الحسين»([6]).
ونقطع أيضًا بأن الذي يجب تقريره عند الشيعة أن يزيد لا يعد من قتلة الحسين، لروايتهم أن علي بن الحسين كان يدعو الله أن يريه قاتل الحسين مقتولًا، ولم يكن من هؤلاء يزيد، قال المجلسي: «وكان زين العابدين S يدعو في كل يوم أن يريه الله قاتل أبيه مقتولًا، فلما قتل المختار قتلة الحسين صلوات الله وسلامه عليه، بعث برأس عبيد الله بن زياد ورأس عمر ابن سعد مع رسول من قِبَلِه إلى زين العابدين، وقال لرسوله: إنه يصلي من الليل، وإذا أصبح وصلى صلاة الغداة هجع، ثم يقوم فَيَسْتَاك ويؤتى بغدائه، فإذا أتيت بابه فاسأل عنه، فإذا قيل لك: إن المائدة وضعت بين يديه فاستأذن عليه وضع الرأسين على مائدته، وقل له: المختار يقرأ عليك السلام ويقول لك: يا ابن رسول الله، قد بلغك الله ثأرك، ففعل الرسول ذلك، فلما رأى زين العابدين S الرأسين على مائدته، خرَّ ساجدًا وقال: الحمد لله الذي أجاب دعوتي وبلغني ثأري من قتلة أبي، ودعا للمختار وجزاه خيرًا»([7]).
فإن كان الله تعالى قد استجاب دعاء زين العابدين وبلغ ثأره من قتلة أبيه الحسين، فقد ثبت أن يزيد ليس منهم، وإن كان لم يستجب فقد طعنوا في علم زين العابدين كونه ظن أنه بقتل هؤلاء أن الله قد استجاب له دعاءه كما هو نص الرواية.
ولذلك فقد اعترف الشيعة بعجزهم عن العثور على أي نقلٍ صحيح في ذم الآل من طرق أهل السنة حتى عن يزيد بن معاوية، قال المجلسي: «ثم كان من أمر ابنه يزيد ... مع الحسين S من القتل والسبي والتنكيل، ومع ذلك فلم يُحفظ عنه ذمه بما يوجب إخراجه عن موجب التعظيم، بل قد أظهر الحزن على ذلك، ولم يزل يعظم سيد العابدين S بعده ويوصي به، حتى أنه آمنه من بين أهل المدينة كلهم في وقعة الحرة، وأمر مسلم بن عقبة بإكرامه ورفع محله وأمانه مع أهل بيته ومواليه.
ومثل ذلك كانت حال من بعده من بني مروان أيضًا مع علي بن الحسين S، حتى أنه كان أجل أهل الزمان عندهم، وكذلك كانت حال الباقر S مع بقية بني مروان ومع أبي العباس السفاح، وحال الصادق S مع أبي جعفر المنصور، وحال أبي الحسن موسى S مع الهادي والرشيد»([8]).
وبذلك يبطل أن يكون معاوية أو يزيد قتلوا الحسين ا.
ثبت عن معاوية أنه أوصى ابنه يزيدَ بأهل البيت خيرًا، فلو فرضنا جدلًا أن يزيد هو من أمر بقتل الحسين فإن الوزر إنما يكون عليه لا على أبيه، فقد جاء في الطبقات: «ولما حُضِرَ معاوية، دعا يزيد بن معاوية فأوصاه بما أوصاه به وقال: انظر حسين بن عليّ ابن فاطمة بنت رسول الله ق، فإنه أحب الناس إلى الناس، فصِلْ رَحِمَه، وارفق به يصلح لك أمره، فإن يكُ منه شيء فإني أرجو أن يكفيكه الله بمن قتل أباه وخذل أخاه»([9]).
فإن قيل إن معاوية يتحمل وزر يزيد لأنه هو من ولَّاه، فيكون كل وزر فعله معاوية يتحمله من ولَّاه وهو الحسن بن علي ا، فإنه هو الذي سلطه على رقاب المسلمين وأموالهم وأعراضهم وبه تبطل شبهتهم،
([1]) الحجة في بيان المحجة (2/566).
([2]) الحجة في بيان المحجة (2/567).
([3]) التنوير شرح الجامع الصغير (1/97).
وقال ابن كثير: «وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أَفْعَلْ مَعَهُ مَا فَعَلَهُ ابْنُ مَرْجَانَةَ
-يَعْنِي عُبَيْدَ اللهِ بْنَ زِيَادٍ- وَقَالَ للرسل الذين جاؤوا بِرَأْسِهِ: قَدْ كَانَ يَكْفِيكُمْ مِنَ الطَّاعَةِ دُونَ هَذَا، وَلَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا، وَأَكْرَمَ آلَ بَيْتِ الْحُسَيْنِ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ مَا فُقِدَ لَهُمْ وأضعافه، وردهم إلى المدينة في محامل وأهبة عَظِيمَةٍ، وَقَدْ نَاحَ أَهْلُهُ فِي مَنْزِلِهِ عَلَى الحسين حين كان أهل الحسين عِنْدَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ». البداية والنهاية (8/254) ت شيري.
([4]) مقتل الحسين، أبو مخنف الأزدي (1/215).
([5]) مقتل الحسين المؤلف، أبو مخنف الأزدي (1/213).
([6]) إعلام الورى، الطبرسي (1/454).
([7]) بحار الأنوار (46/53).
([8]) بحار الأنوار (27/344).
([9]) الطبقات الكبير (6/423) ط الخانجي.
وبمثله نقل ابن كثير: «قَالُوا: فَلَمَّا حَضَرَ مُعَاوِيَةُ دَعَا يَزِيدَ فَأَوْصَاهُ بِمَا أَوْصَاهُ بِهِ، وَقَالَ لَهُ: انْظُرْ حُسَيْنَ بْنَ عَلِيِّ ابْنِ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ ق، فَإِنَّهُ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى النَّاسِ، فَصِلْ رَحِمَهُ، وَارْفُقْ بِهِ، يَصْلُحْ لَكَ أَمْرُهُ، فَإِنْ يَكُنْ مِنْهُ شَيْءٌ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يَكْفِيَكَهُ اللهُ بِمَنْ قَتَلَ أَبَاهُ وَخَذَلَ أَخَاهُ». البداية والنهاية (11/501) ط هجر.