فالخبر الذي أخرجه ابن أبي شيبة([1]) وكذلك عند ابن سعد بنفس الإسناد في طبقاته([2]) واستدل به الرافضي غير صحيح ولا ثابت، ففيه سعيد ابن سويد وهو ضعيف.
قال ابن حجر: «ومن طريق سعيد بن سويد قال: «صلى بنا معاوية الجمعة ضحى»، وسعيد ذكره ابن عدي في الضعفاء»([3]).
وقال البخاري: «سعيد بن سويد، قال إسماعيل بن خليل: أخبرنا علي ابن مسهر، سمع الأعمش عن عمرو بن مرة، عن سعيد رجل منهم: صلى بنا معاوية الجمعة بضحى، ولا يتابع عليه»([4]).
فسويد بن سعيد هذا ذكره ابن عدي في ضعفائه؛ إلا أن ابن حبان قد ذكره في ثقاته على عادته -التي لم يوافِقْه عليها أهل العلم- في توثيق المجاهيل، وفعله لا يُحتج به.
فقد صح عن معاوية ا عند السنة والشيعة أنه لم يقاتل ليكون خليفة، بل كان القتال فقط لتنفيذ حكم الله بالقصاص في قتلة عثمان.
فقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه بسنده عَنْ قَيْسِ بْنِ رُمَّانَةَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ: «مَا قَاتَلْتُ عَلِيًّا إِلَّا فِي أَمْرِ عُثْمَانَ»([5]).
ويقول الحافظ في الفتح: «ذَكَرَ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ الْجُعْفِيُّ أَحَدُ شُيُوخ الْبُخَارِيّ فِي كِتَاب (صِفِّينَ) فِي تَأْلِيفه بِسَنَدٍ جَيِّد عَنْ أَبِي مُسْلِم الْخَوْلَانِيّ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: «أَنْتَ تُنَازِع عَلِيًّا فِي الْخِلَافَة، أَوَ أَنْتَ مِثْله؟»، قَالَ: «لَا، وَإِنِّي لَأَعْلَم أَنَّهُ أَفْضَل مِنِّي وَأَحَقُّ بِالْأَمْرِ، وَلَكِنْ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عُثْمَان قُتِلَ مَظْلُومًا، وَأَنَا اِبْن عَمّه وَوَلِيّه أَطْلُب بِدَمِهِ؟ فَأْتُوا عَلِيًّا فَقُولُوا لَهُ يَدْفَع لَنَا قَتَلَة عُثْمَان، فَأَتَوْهُ فَكَلَّمُوهُ فَقَالَ: «يَدْخُل فِي الْبَيْعَة وَيُحَاكِمهُمْ إِلَيَّ».
فَامْتَنَعَ مُعَاوِيَة فَسَارَ عَلِيٌّ فِي الْجُيُوش مِنَ الْعِرَاق حَتَّى نَزَلَ بِصِفِّينَ، وَسَارَ مُعَاوِيَة حَتَّى نَزَلَ هُنَاكَ وَذَلِكَ فِي ذِي الْحِجَّة سَنَة سِتّ وَثَلَاثِينَ، فَتَرَاسَلُوا فَلَمْ يَتِمَّ لَهُمْ أَمْر، فَوَقَعَ الْقِتَال»([6]).
فلم يكن القتال إذًا على الخلافة قط.
فالنصوص على ذلك كثيرة، ومنها ما جاء في أقدم كتاب شيعي (كتاب سليم بن قيس) أن معاوية قال: «وأنا ابن عم عثمان ووليه والطالب بدمه، فإن كان الأمر كما قلت فأمكِنَّا من قتلة عثمان، وادفعهم إلينا نقتلهم بابن عمنا، ونبايعك ونسلم إليك الأمر»([7]).
وقال علي في نهج البلاغة: «وَكَانَ بَدْءُ أَمْرِنَا أَنَّا الْتَقَيْنَا وَالْقَوْمُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ رَبَّنَا وَاحِدٌ، وَنَبِيَّنَا وَاحِدٌ، وَدَعْوَتَنَا فِي الإسْلَامِ وَاحِدَةٌ، لَا نَسْتَزِيدُهُمْ فِي الإيمَانِ باللهِ وَالتَّصْدِيقِ بِرَسُولِهِ صلى الله عليه وآله، وَلَا يَسْتَزِيدُونَنَا، الأمْرُ وَاحِدٌ، إِلَّا مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ دَمِ عُثْمانَ، وَنَحْنُ مِنْهُ بَرَاءٌ!»([8]).
فلم يكن الخلاف على الخلافة ولا ليتأمر معاوية ا على الناس، وإنما كانت قضيته هي تنفيذ القصاص في قتلة الخليفة، ولم يكن عنده مانع من البيعة لخليفة آخر يعلم أنه أفضل منه، مع إقراره واعترافه بأفضلية وأهلية وأحقية علي بالخلافة منه.
طبقًا لدين الشيعة أولى الناس بالقتال ليتأمّر على الناس هو علي بن أبي طالب، وذلك أنهم يروون عنه أن النبي ق أمره أن يبذل دمه دون دينه، ومن الدين عندهم الإمامة، بل الدين كله عندهم الإمامة، ومقتضاها الحكم السياسي، إلا أن يقولوا بأن الحكم السياسي ليس من دين علي، وعندها يسقط دينهم بالكلية.
يذكر الكليني تبويبًا بعنوان «وَصِيَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ع»، ثم ساق بسنده عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ ع يَقُولُ: «كَانَ فِي وَصِيَّةِ النَّبِيِّ ص لِعَلِيٍّ ع أَنْ قَالَ: يَا عَلِيُّ، أُوصِيكَ فِي نَفْسِكَ بِخِصَالٍ فَاحْفَظْهَا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: اللهُمَّ أَعِنْهُ ... وَالْخَامِسَةُ: بَذْلُكَ مَالَكَ وَدَمَكَ دُونَ دِينِكَ»([9]).
فكان الواجب علَى علِيٍّ ا أن يقاتل الناس ليتأمّر عليهم، لكنه لم يفعل طَوَال مدة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ي، بل إنهم لما عرضوا عليه الإمامة رفض وطلب أن يلتمسوا خليفة غيره، كما جاء في النهج: «ومن كلام له S لَمَّا أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان: دَعُوني وَالْـتَمِسُوا غَيْرِي ... وَإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ، وَلَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وَأَطْوَعُكُمْ لِمنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ، وَأَنَا لَكُمْ وَزِيرًا، خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيرًا!»([10]).
وهذا كفر بالواجب المحتوم عليه عندهم.
ولئن عابوا على معاوية القتال لأجل أن يتأمّر على الناس كما زعموا، فليعيبوا على علِي ا القتال لأجل أن يتأمّر على أهل الشام!
فإن قالوا: هذا حقُّه.
قلنا: إذًا لم يكن حقًّا له قبل القتال.
فإن قالوا: قبل القتال كان ضعيفًا على مقاتلة السابقين.
قلنا: الضعيف عن أخذ حقه أضعف منه في أخذ حقوق الناس فضلًا عن حكمهم، ومثل هذا لا يصلح للإمامة.
ثم إن معاوية لم يحكم الناس بمعركة انتصر فيها، وإنما كان حكمه بتنصيب المعصوم له -عند الشيعة- وهو الحسن بن علي ا لما صالح معاوية وبايعه ومكنه من الحكم في دين الناس وفي دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
بل وترحَّم المعصوم على معاوية عندما سمع بموته ا، فقد جاء عند أبي مِخنف: «فقال حسين كأنه لا يظن ما يظن من موت معاوية: (الصلة خير من القطيعة، أصلح الله ذات بينكما)، فلم يجيباه في هذا بشيء، وجاء حتى جلس، فأقرأه الوليد الكتاب ونعى له معاوية ودعاه إلى البيعة، فقال حسين: إنا لله وإنا إليه راجعون، ورحم الله معاوية، وعظم لك الأجر»([11]).
فهذه عقيدة أهل البيت في معاوية، وأنه عاش على الإسلام وللإسلام ومات عليه ا، فهل تريد الشيعة أن نترك عقيدة أهل البيت لراوية لا تصح؟!
([1]) قال ابن أبي شيبة: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: «صَلَّى بِنَا مُعَاوِيَةُ الْجُمُعَةَ بِالنُّخَيلَةِ فِي الضُّحَى، ثُمَّ خَطَبْنَا فَقَالَ: مَا قَاتَلْتُكُمْ لِتُصَلُّوا وَلاَ لِتَصُومُوا وَلاَ لِتَحُجُّوا وَلاَ لِتُزَكُّوا، وَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّكُمْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ إنَّمَا قَاتَلْتُكُمْ لأَتَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ، فَقَدْ أَعْطَانِي اللهُ ذَلِكَ وَأَنْتُمْ كَارِهُونَ». مصنف ابن أبي شيبة (11/93).
([2]) أخبرنا يَعْلَى بن عُبيد قال: حدّثنا الأعمش عن عَمرو بن مُرّة، عن سعيد بن سُوَيد قال: خَطَبنا معاوية بالنُّخَيْلَة فقال: «يا أهل العراق... » الخبر. الطبقات الكبير (6/19) ط الخانجي.
([3]) فتح الباري، ابن حجر (2/387).
([4]) التاريخ الكبير، البخاري (3/477).
([5]) مصنف ابن أبي شيبة (6/187).
([6]) فتح الباري، ابن حجر (13/86).
([7]) كتاب سليم بن قيس، محمد باقر الأنصاري (1/289).
([8]) نهج البلاغة، الشريف الرضي (1/735) ت الحسون.
([9]) الكافي، الكليني (8/79) ط الإسلامية.
([10]) نهج البلاغة، الشريف الرضي (1/209) ت الحسون.
([11]) مقتل الحسين (ع)، أبو مخنف الأزدي (ص١٩)، مسند الإمام الحسين، عزيز الله عطاردي (ع) (ج١/257)، موسوعة الإمام الحسين (ع) (تاريخ إمام حسين ع) (١/244)، مكتب طباعة الكتب المساعدة التعليمية.