إن الْمُسْتَنْبَط من قول تبويب البخاري بابًا بعنوان «ذكر معاوية» بأنه دلالة على أنه لم يجد فيه فضيلة فهذا غير مسلم، فإن البخاري قد صنع هذا مع غير معاوية مع ثبوت فضلهم وفضائلهم.
- فهذا عبد الله بن عباس حبر الأمة عندما ترجم له البخاري قال: «باب: ذكر ابن عباس ب»([1]).
ثم ساق حديثًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: «ضمني النبي ق إلى صدره وقال: «اللهم علمه الحكمة». حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث وقال: «علمه الكتاب»»([2]).
فإن لم تكن تلك فضيلة لابن عباس فما الفضائل إذًا؟
- وهذا لحذيفة بن اليمان كاتم سر النبي ق، عندما ترجم له البخاري قال: «باب: ذكر حذيفة بن اليمان العبسي ا»([3]).
فهل بذلك تسقط فضائل حذيفة بن اليمان، أو يُقال بعدمها؟!
فهذه التبويبات التي بوبها البخاري لا يُفهم منها هذا المفهوم قط، ففضائل معاوية ا ثابتة، وغاية ما في الأمر احتمالية أن البخاري ربما ما وجد شيئًا من فضائله على شرطه في صحيحه لا غير، مع أن في صحيحه ما يُشار به إلى فضائله، وذلك كما في حديث أم حرام –كما سيأتي-، وزد على كل هذا أن التصريح بفضائل معاوية ا قد رواها البخاري نفسه خارج الصحيح، ومن ذلك:
ما أخرجه عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ أَنَّ عُمَيْرَ بْنَ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيَّ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ أَتَى عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ وَهُوَ نَازِلٌ فِي سَاحِلِ حِمْصَ وَهُوَ فِي بِنَاءٍ لَهُ وَمَعَهُ أُمُّ حَرَامٍ، قَالَ عُمَيْرٌ: فَحَدَّثَتْنَا أُمُّ حَرَامٍ أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ ق يَقُولُ:
«أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا، قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ، اللهِ أَنَا فِيهِمْ؟ قَالَ: أَنْتِ فِيهِمْ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ق: أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ، فَقُلْتُ: أَنَا فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: لَا»([4]).
وقد كان أمير تلك الغزاة معاوية ا، فقد روى البخاري في الأوسط عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَن خَالَته أم حرَام بنت مِلْحَانَ: «خَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا عُبَادَةَ ابْنِ الصَّامِتِ غَازِيَةً أَوَّلَ مَا رَكِبَ الْمُسْلِمُونَ الْبَحْرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا مِنْ غَزَاتِهِمْ قَرُبَ إِلَيْهَا دَابَّةٌ فَصَرَعَتْهَا فَمَاتَتْ»([5]).
أليس في هذا فضيلة عظيمة لمعاوية، وأنه على رأس الموعودين بالمغفرة بنص حديث رسول الله ق؟
وروى البخاري في فضله أيضًا عَن عَبدِ الرَّحْمنِ بنِ أَبي عَميرةَ، عنِ النَّبيِّ ق: «اللهُمَّ عَلِّمْ مُعاوِيَةَ الحِسابَ، وَقِهِ العَذابَ»([6]).
ومنه ما رواه بسنده عن رَبيعَةَ بنِ يَزيدَ، أنه سمع عَبدَ الرَّحْمنِ بنَ أَبي عَميرَةَ المزنيَّ يَقولُ: سَمِعْتُ النَّبيَّ ق يَقولُ في مُعاوِيةَ بنِ أَبي سُفْيانَ: «اللهُمَّ اجْعَلْهُ هادِيًا مَهْديًّا، وَاهْدِه، وَاهْدِ بِه»([7]).
وكان البخاري V يعرف لمعاوية قدره؛ إذ كان لا يذكره إلا ويترضى عنه.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: «وَطَعَنَ مَنْ لَا يَعْلَمُ فِي وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ: أَنَّ وَائِلَ بْنَ حُجْرٍ مِنْ أَبْنَاءِ مُلُوكِ الْيَمَنِ وَقَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ ق فَأَكْرَمَهُ، وَأَقْطَعَ لَهُ أَرْضًا، وَبَعَثَ مَعَهُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ ا»([8]).
بل وكانت مناقبه ا عند سلف الأمة معروفة مشهورة، منها ما رُوي عَنِ ابنِ سيرينَ قوله: «كانَ مُعاوِيةُ يُحدِّثُ عَنِ النَّبيِّ ق قالَ: «لا تَرْكَبوا الخَزَّ، وَلا النُّمُورَ»، قالَ: وَكانَ مُعاوِيةُ لا يُتَّهَمُ في الحَديثِ عَلى رَسولِ اللهِ ق»([9]).
القول المنسوب لإسحاق بن راهويه قد ساقه الذهبي قال: «الأَصَمُّ: حَدَّثَنَا أَبِي، سَمِعْتُ ابْنَ رَاهَوَيْه يَقُولُ: لَا يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ ق فِي فَضْلِ مُعَاوِيَةَ شَيْءٌ»([10]).
ووالد الأصم يعقوب بن يوسف بن معقل أبو الفضل النيسابوري مجهول الحال، ترجمه الخطيب وما زاد على قوله: «قدم بغداد وحدث بها عن إسحاق بن راهويه، روى عنه محمد بن مخلد»([11])، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، وله ذكر في ترجمة ابنه من السير([12])، ولم يذكر فيه الذهبي أيضًا جرحًا ولا تعديلًا، وذكر في الرواة عنه عبد الرحمن بن أبي حاتم، ولم أجده في الجرح والتعديل، ولا في (الثقات) لابن حبان.
وبه يضعف القول المنسوب لإسحاق بن راهويه V.
لو قلنا جدلًا بصحة هذا القول عن إسحاق بن راهويه، فإنه يُجاب عنه بأن الأئمة الكبار النقاد صححوا أحاديثَ في فضائل معاوية، منهم:
- الإمام الذهبي V في «السير»، الذي ذكر أحاديث في فضائل معاوية، ثم قال: «فهذه أحاديث مقاربة»([13]).
- الإمام الحافظ أبو الفداء ابن كثير في «البداية والنهاية» الذي ذكر أحاديث في فضائل معاوية، ثم قال: «واكتفينا بما أوردناه من الأحاديث الصحاح والحسان والمستجادات عما سواه من المصنوعات والمنكرات»([14]).
وقال في تعليقه على قول النَّبِيِّ ص لِمُعَاوِيَةَ: «اللهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا، وَاهْدِ بِهِ» قال: «وقد اعتنى ابن عساكر بهذا الحديث وأطنب فيه وأطيب وأطرب، وأفاد وأحسن الانتقاد، فرحمه الله، كم من موطن قد تبرز فيه على غيره من الحفاظ والنقاد»([15]).
- الإمام الحافظ هبة الله ابن عساكر في تاريخه([16]).
- وابن حجر الهيتمي في «تطهير الجنان»([17]).
القاعدة أن «المثبِت مقدَّم على النافي»؛ إذ إن معه زيادة علم، وقد ثبت في فضائل معاوية الأحاديث الكثيرة، ولذلك قال ابن عساكر: «وأصح ما روي في فضل معاوية حديث أبي حمزة عن ابن عباس أنه كاتب النبي ق، فقد أخرجه مسلم في صحيحه وبعده حديث العرباض: «اللهم علمه الكتاب»، وبعده حديث ابن أبي عميرة: «اللهم اجعله هاديًا مهديًّا»»([18]).
وصحح الألباني حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمِيرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ق أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: «اللهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا، وَاهْدِ بِهِ»([19]).
وصحح كذلك حديث الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ السُّلَمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ق يقول: «اللهم علِّم معاوية الكتاب والحساب، وقِهِ العذاب»([20]).
وقد سبق حديث أول جيش من أمتي، وأنه فضيلة ثابتة لمعاوية، قال الحافظ: «قَالَ الْمُهَلَّبُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْقَبَةٌ لِمُعَاوِيَةَ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَزَا الْبَحْرَ، وَمَنْقَبَةٌ لِوَلَدِهِ يَزِيدَ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَزَا مَدِينَةَ قَيْصَرَ»([21]).
([1]) صحيح البخاري (3/1371) ت البغا.
([2]) صحيح البخاري (3/1371) ت البغا
([3]) صحيح البخاري (3/1390) ت البغا.
([4]) صحيح البخاري (4/42) ط السلطانية.
([5]) التاريخ الأوسط (1/64).
([6]) التاريخ الكبيرـ البخاري (9/96) ت الدباسي والنحال.
([7]) التاريخ الكبير، البخاري (9/96) ت الدباسي والنحال.
([8]) قرة العينين برفع اليدين في الصلاة (ص37).
([9]) التاريخ الكبيرـ البخاري (9/97) ت الدباسي والنحال.
([10]) سير أعلام النبلاء (3/132) ط الرسالة.
وفي الفوائد المجموعة للشوكاني سقطت كلمة (حَدَّثَنَا أَبِي) وهي ثابتة؛ إذ إن الأصم لم يروِ عن إسحاق. الفوائد المجموعة (ص407).
([11]) تاريخ بغداد (14/286).
([12]) سير أعلام النبلاء (15/453).
([13]) سير أعلام النبلاء (3/127).
([14]) البداية والنهاية (8/131) ت شيري.
([15])البداية والنهاية (8/130) ت شيري.
([16]) تاريخ دمشق، ابن عساكر (59/106).
([17]) معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين وكاتب وحي النبي الأمين ق - كشف شبهات ورد مفتريات (ص101).
([18]) تاريخ دمشق، ابن عساكر (59/106).
([19]) مشكاة المصابيح (3/1758).
([20]) تعليق الشيخ الألباني: «صحيح لغيره»، انظر: الصحيحة (ص3227)، والتعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (10/275).
([21]) فتح الباري بشرح البخاري (6/102) ط السلفية.
ومن أراد التوسع في ذلك فليرجع لكتاب: «إسكات الكلاب العاوية بفضائل خال المؤمنين معاوية ا» لأبي معاذ محمود بن إمام بن منصور.