زعمهم نقض معاوية شروطه مع الحسن بن علي

الشبهة:

ادَّعت الشيعة أن معاوية بعد انتهاء الصلح صعِد على المنبر وأعلن نقضه للشروط، قال الإربلي: «وكتب إليه معاوية في الهدنة والصلح وبعث بكتب أصحابه إليه، فأجابه إلى ذلك بعد أن شرط عليه شروطًا كثيرة، منها أن يترك سب أمير المؤمنين S والقنوت عليه في الصلوات، وأن يؤمن شيعته ولا يتعرض لأحد منهم بسوء، ويوصل إلى كل ذي حق حقه، فأجابه معاوية إلى ذلك كله وعاهده على الوفاء به، فلما تمت الهدنة قال في خطبته: إني منّيت الحسن وأعطيته أشياءَ جعلتها تحت قدمي، لا أفي بشيء منها له»([1]).

وقال محسن الأمين: «وفي رواية أبي الفرج أنه قال: إن كل شيء أعطيته الحسن بن علي تحت قدميّ هاتين، لا أفي به، قال أبو الفرج قال شريك: في حديثه هذا هو التهتك»([2]).

 

([1]) كشف الغمة، ابن أبي الفتح الإربلي (2/138).

([2]) أعيان الشيعة، محسن الأمين (1/565).

الرد علي الشبهة:

جميع الروايات الواردة في ذلك لا تصح:

فأما رواية أبي إسحاق السبيعي التي ذكرها محسن الأمين فناقلها هو أبو الفرج الأصبهاني في مقاتله([1])، وهو أموي شيعي!([2]) مهتوك الستر مردود الرواية.

وروايته موضوعة، كلها رافضة غلاة كذابون، منهم الحسن بن الحسين العرني الكوفي، قال أبو حاتم: «لم يكن بصدوق عندهم، وكان من رؤساء الشيعة»([3]).

ومنهم عمرو بن ثابت بن أبي المقدام الكوفي «ضعيف، رمي بالرفض»([4])، وقال العجلي: «شديد التشيع غال فيه، واهي الحديث»([5])، وقال أبو حاتم: «ضعيف الحديث يكتب حديثه، كان رَدِيءَ الرأي شديد التشيع»([6]).

وأما باقي الروايات فهي في كتب الرافضة، ولا تلزمنا فهم أكذب الخلق.

وأشهر تلك الروايات ما ذكره ابن شهراشوب في مناقب آل أبي طالب أن معاوية قال في خطبته: «إني والله ما أقاتلكم لتصلُّوا ولا تصوموا ولا تحجُّوا ولا تزكُّوا، إنكم لتفعلون ذلك، ولكني قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون، وإني منّيت الحسن وأعطيته أشياء، وجميعها تحت قدمي ولا أفي بشيء منها»([7])، وهذه الرواية بلا إسناد ساقطة عند السنة والشيعة على السواء.

والرواية الأخرى عند المفيد في إرشاده قال: «فلمَّا استتمّتِ الهُدنةُ على ذلكَ، سارَ معاويةُ حتّى نزلَ بالنُّخَيْلةِ، وكانَ ذلكَ يومَ جمعةٍ فصلى بالنّاسِ ضحى النّهارِ، فخطَبَهُم وقالَ في خطبتهِ: إِنِّي واللهِ ما قاتلتُكم لتُصلُّوا ولا لتصوموا ولا لتحجُّوا ولا لتزكُّوا، إِنّكم لتفعلونَ ذلكَ، ولكنِّي قاتلتُكم لأتأمّرَ عليكم، وقد أعطاني اللهُ ذلكَ وأنتم له كارِهونَ، ألَا وإنِّي كنتُ منَّيتُ الحسنَ وأعطيتُه أشياءَ، وجَمِيعُها تحتَ قَدَمَيَّ، لا أفي بشيءٍ منها له»([8]).

وهذه أيضًا كأختها بلا إسناد! وكل من نقل تلك الرواية إنما نقلها عن المفيد، والمفيد إنما نقلها بدوره عن كتاب أبي الفرج الأصبهاني! فقد جاء في هامش كتاب «الإمام الحسن S في مواجهة الانشقاق الأموي» تعليقًا على هذه الرواية:

«روى الكثير من الباحثين الشيعة منهم الخوئي في (منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة) (١٩/١٤٣)، وكذلك الشيخ الكوراني في (جواهر التاريخ) عن الشيخ المفيد في (الإرشاد) (٢/١٤) بغير سند.

قال: (فلما استتمت الهدنة سار معاوية حتى نزل بالنخيلة، وكان ذلك يوم جمعة فصلى بالناس ضحى النهار، فخطبهم وقال في خطبته: إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، إنكم لتفعلون ذلك، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون، ألا وإني كنت منيت الحسن وأعطيته أشياء، وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء منها له).

وهي رواية أبي الفرج في مقاتله، وقد رواها من كتاب أبي الفرج مباشرة كثير من الباحثين الشيعة المعاصرين كالعلامة التُّسْتَري في (قاموس الرجال ٤/١٠٩)، والعلامة السيد علي الشهرستاني في (وضوء النبي صلى الله عليه وآله 1/٢٠٩)، والعلامة العسكري في (أحاديث المؤمنين عائشة ١/٣٢٢)، والعلامة الشيخ راضي آل ياسين ص١٢ في (صلح الحسن S) وغيرهم كثير، وكذلك من الباحثين القدامى من غير الشيعة كابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة ١٦/١٥)، ومن الشيعة القاضي النعمان في (شرح الأخبار ٢/٥٣٣)»([9]).

وعليه فجميع ما يستدلون به في ذلك مكذوب ولا يصح.

ذكرنا قبل ذلك أنه ليس من حق الشيعة أن يتكلموا عن شروط الحسن مع معاوية؛ إذ إنهم قد اعترفوا أن تلك الشروط قد ضاع أكثرها، وأنها مبتورة، وأن معصوميهم لم ينقلوها على أهميتها العظمى عندهم، ومع ذلك هم يذكرون عدة شروط تعرضنا لها في جوابنا عن شبهة «مخالفة معاوية شرطه مع الحسن»، وقلنا بأن معاوية لم يخالف شرطًا واحدًا من تلك الشروط التي اتفق عليها مع الحسن، مع أن هذه الشروط لم يصح منها إلا ثلاثة فقط، وهي الواردة في صحيح البخاري من قول الحسن: «إِنَّا بَنُو عَبْدِ المُطَّلِبِ قَدْ أَصَبْنَا مِنْ هَذَا المَالِ، وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ قَدْ عَاثَتْ فِي دِمَائِهَا»([10]).

* فكان الشرط الأول هو شرط المال: وقد وفَّى معاوية به كاملًا، ففي بعض الروايات الصحيحة: «فَصَالَحَ الْحَسَنُ مُعَاوِيَةَ وَسَلَّمَ الْأَمْرَ لَهُ وَبَايَعَهُ بِالْخِلَافَةِ عَلَى شُرُوطٍ وَوَثَائِقَ، وَحَمَلَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْحَسَنِ مَالًا عَظِيمًا يُقَالُ: خَمْسُ مِائَةِ أَلْفِ أَلْفٍ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ»([11]).

وقال ابن سعد: «ووفَّى معاوية للحسن ببيت المال، وكان فيه يومئذ ستة آلاف ألف درهم، واحتملها الحسن وتجهز بها هو وأهل بيته إلى المدينة»([12]).

وهذا المال كان خراج الكوفة بكاملها، وقد أعطاه معاوية للحسن كاملًا، ولم يكتفِ بذلك، بل أجرى عليه مالًا عظيمًا كل عام، ففي طبقات ابن سعد: «فأجرى معاوية على الحسن كل سنة ألف ألف درهم»([13]).

ويقول الحافظ ابن حجر: «فَلَمَّا اسْتَقَرَّتِ الْخِلَافَةُ لِمُعَاوِيَةَ، كَانَ الْحُسَيْنُ يَتَرَدَّدُ إليهِ مَعَ أخيهِ الحسنِ فيُكرمهُمَا معاويةُ إِكْرَامًا زَائِدًا، وَيَقُولُ لَهُمَا: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، وَيُعْطِيهِمَا عَطَاءً جَزِيلًا، وَقَدْ أَطْلَقَ لَهُمَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِائَتَيْ أَلْفٍ، وَقَالَ: خُذَاهَا وَأَنَا ابْنُ هِنْدَ، وَاللهِ لَا يُعْطِيكُمَاهَا أَحَدٌ قَبْلِي وَلَا بَعْدِي، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: وَاللهِ لَنْ تُعْطِيَ أَنْتَ ولا أحد قبلَكَ ولا بعْدَك رجلًا مِنَّا، وَلَمَّا تُوُفِّيَ الْحَسَنُ كَانَ الْحُسَيْنُ يَفِدُ إِلَى مُعَاوِيَةَ فِي كُلِّ عَامٍ فَيُعْطِيهِ وَيُكْرِمُهُ، وَقَدْ كَانَ فِي الْجَيْشِ الَّذِينَ غَزَوُا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ مَعَ ابْنِ مُعَاوِيَةَ يَزِيدَ، فِي سَنَةِ إِحْدَى وخمسين»([14]).

وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن جعفر بن يحيي عن أبيه «أن الحسن والحسين كانا يقبلان جوائز معاوية»([15]).

* اعتراف الشيعة بتلقي الحسنين العطاءَ من معاوية

قد أقرت الشيعة بقبول الحسنين عطاء معاوية، فهذا شيخ الطائفة يروي عن يحيى بن أبي العلا، عن أبي عبد الله، عن أبيه R: «أن الحسن والحسين R كانا يقبلان جوائز معاوية»([16])، وثقه المجلسي الأول([17])، وصححه الفيض الكاشاني([18]) ومحمد السند([19])، واعتمدت الشيعة عليه في فقههم، فقال ناصر مكارم الشيرازي: «ما يدلُّ على أخذ الأئمّة Q جوائز الخلفاء وما وصل إليهم من بيت المال مثل:

1- ما رواه يحيى بن أبي العلاء عن أبي عبد الله S عن أبيه أنَّ الحسن والحسين R كانا يقبلان جوائز معاوية....»([20]).

وقال محسن الأمين: «وكتب القطيفي عدة رسائل في الرد على الكركي، وأطال لسانه في حق الكركي وليس من رجاله، حتى نسبه إلى الجهل وعدم العدالة، وقدح فيه بقبول جوائز الملوك، وكانا معًا في النجف الأشرف الغروي، فاتفقا أن الشاه طهماسب الصفوي أرسل جائزة للقطيفي فردها معتذرًا بعدم الحاجة، فقال له الكركي: أخطأت في ردها وارتكبت إما حرامًا أو مكروهًا بتركك التأسي بالإمام الحسن السبط في قبوله جوائز معاوية، مع أنك لست أعلى مرتبة من الإمام ولا السلطان أسوأ حالًا من معاوية، فأجابه بجواب إقناعي»([21]).

وروى النعمان المغربي: «وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ جَوَائِزِ الْمُتَغَلِّبِينَ فَقَالَ: قَدْ كَانَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ (ع) يَقْبَلَانِ جَوَائِزَ الْمُتَغَلِّبِينَ مِثْلِ مُعَاوِيَةَ؛ لِأَنَّهُمَا كَانَا أَهْلًا لِمَا يَصِلُ إِلَيْهِمَا مِنْ ذَلِكَ، وَمَا فِي أَيْدِي الْمُتَغَلِّبِينَ عَلَيْهِمْ حَرَامٌ، وَهُوَ لِلنَّاسِ وَاسِعٌ إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِمْ فِي خَيْرٍ وَأَخَذُوهُ مِنْ حَقِّهِ»([22]).

وفي قرب الإسناد عن جَعْفَر عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ R كَانَا يَغْمِزَانِ مُعَاوِيَةَ وَيَقُولَانِ فِيهِ، وَيَقْبَلَانِ جَوَائِزَهُ»([23]).

وفي دلائل الإمامة للطبري الرافضي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ S قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ لِأَخِيهِ الْحُسَيْنِ ذَاتَ يَوْمٍ، وَبِحَضْرَتِهِمَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ: «إِنَّ هَذَا الطَّاغِيَةَ -يَعْنِي مُعَاوِيَةَ- بَاعِثٌ إِلَيْكُمْ بِجَوَائِزِكُمْ فِي رَأْسِ الْهِلَالِ، فَمَا أَنْتُمْ صَانِعُونَ؟

قَالَ الْحُسَيْنُ: إِنَّ عَلَيَّ دَيْنًا، وَأَنَا بِهِ مَغْمُومٌ، فَإِنْ أَتَانِي اللهُ بِهِ قَضَيْتُ دَيْنِي، فَلَمَّا كَانَ رَأْسُ الْهِلَالِ وَافَاهُمُ الْمَالُ، فَبَعَثَ إِلَى الْحَسَنِ بِأَلْفِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَبَعَثَ إِلَى الْحُسَيْنِ بِتِسْعِمَائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَبَعَثَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ بِخَمْسِمَائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ: مَا تَقَعُ هَذِهِ مِنْ دَيْنِي؟ وَمَا فِيهَا قَضَاءُ دَيْنِي وَلَا مَا أُرِيدُ، فَأَمَّا الْحَسَنُ S فَأَخَذَهَا وَقَضَى دَيْنَهُ، وَأَمَّا الْحُسَيْنُ S فَأَخَذَهَا وَقَضَى دَيْنَهُ، وَقَسَمَ ثُلُثَ مَا بَقِيَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ وَمَوَالِيهِ، وَفَضَلَ الْبَاقِي أَنْفَقَهُ فِي يَوْمِهِ، وَأَمَّا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ فَقَضَى دَيْنَهُ، وَفَضَلَتْ لَهُ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَدَفَعَهَا إِلَى الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِالْمَالِ»([24]).

فهذه كلها أدلة قاطعة من أهل السنة ومن الشيعة على أن معاوية قد وفَّى بذلك الشرط وزيادة، وبقي وفيًّا إلى آخر لحظة من عمره.

بل إنهم نسبوا إلى الحسين أنه استولى على قافلة جاءت من اليمن، وكانت في طريقها إلى معاوية، بزعم أن الحسين هو مالك الأرض كلها.

يقول عبد العظيم البحراني: «وقد اجتازت على يثرب أموال من اليمن إلى خزينة دمشق، فعمد الإمام S إلى الاستيلاء عليها، ووزعها على المحتاجين من بني هاشم وغيرهم، وكتب إلى معاوية: «من الحسين بن علي إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد: فإن عيرًا مرت بنا من اليمن تحمل مالًا وحللًا وعنبرًا وطيبًا إليك لتودعها خزائن دمشق، وتعل بها بعد النهل بني أبيك، وإني احتجت إليها فأخذتها، والسلام».

وأجابه معاوية: «من عبد الله معاوية إلى الحسين بن علي، أما بعد: فإن كتابك ورد علي، تذكر أن عيرًا مرت بك من اليمن تحمل مالًا وحللًا وعنبرًا وطيبًا إليَّ؛ لأودعها خزائن دمشق، وأعل بها بعد النهل بني أبي، وإنك احتجت إليها فأخذتها، ولم تكن جديرًا بأخذها؛ إذ نسبتها إليَّ؛ لأن الوالي أحق بالمال، ثم عليه المخرج منه، وايم الله، لو تركت ذلك حتى صار إلي لم أبخسك حظك منه، ولكنني قد ظننت يا بن أخي أن في رأسك نزوة، وبودي أن يكون ذلك في زماني فأعرف لك قدرك، وأتجاوز عن ذلك، ولكنني والله أتخوف أن تُبْلَى بمن لا ينظرك فواق ناقة»([25]).

فليتأمل العاقل في حلم معاوية واستعجال الحسين أمرًا كان سيأتيه لا محالة، مع أننا نشك في حصول ذلك من الحسين ا؛ فهو أكبر من تلك الفعلة التي لا يفعلها إلا اللصوص.

* الشرط الثاني: العفو العام

كان الشرط الثاني هو إصدار العفو العام عن كل ما كان قبل الصلح من سفك الدماء أو إتلاف للأموال أو غير ذلك، ولا شك أن معاوية ا قد فعل ذلك وعاش الكل بأمن وأمان في زمانه، فقد صرح الشيعة في موسوعتهم عن الحسين أنهما لم يريا من معاوية مكروهًا ولا سوءًا ولا تغير لهما في بِر، فقالوا:

«وكتب -معاوية- إلى الحسين: أمّا بعد، فقد انتهت إليّ أمور عنك لست بها حريًّا؛ لأنَّ من أعطى صفقة يمينه جدير بالوفاء، فاعلم -رحمك الله- أنّي متى أنكرك تستنكرني، ومتى تكدني أكدك، فلا يستفزَّنَّك السّفهاء الذين يحبّون الفتنة والسلام»([26]).

فكتب إليه الحسين ا: «ما أريد حربك ولا الخلاف عليك».

قالوا: ولم ير الحسن ولا الحسين طوال حياة معاوية منه سوءًا في أنفسهما ولا مكروهًا، ولا قطع عنهما شيئًا ممّا كان شرط لهما، ولا تغيّر لهما عن برّ»([27]).

وسنزيد ذلك تفصيلًا في اعترافات الشيعة بعدم نقض معاوية للشروط، فتريث!

* الشرط الثالث: قطع الفتنة وإيقاف الحرب.

وقد تم ذلك على أكمل وجه، ولأجل ذلك عادت الفتوحات بعد أن توقفت منذ استشهاد أمير المؤمنين عثمان بن عفان ا، فقد أخرج أبو زرعة في تاريخه عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: «لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ، لَمْ تَكُنْ لِلنَّاسِ غَازِيَةٌ، وَلَا صَائِفَةٌ، حَتَّى اجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى مُعَاوِيَةَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ، وَسَمَّوْهَا سَنَةَ الْجَمَاعَةِ»([28]).

وقال الحافظ ابن حجر: «وَقَدْ رَوَى عبد بن حميد بِإِسْنَاد صَحِيح عَن ابن عَبَّاسٍ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ مُطَوَّلَةً غَيْرَ مَرْفُوعَةٍ، وَمُلَخَّص مَا ذكر: أَن ابن عَبَّاسٍ غَزَا مَعَ مُعَاوِيَةَ الصَّائِفَةَ، فَمَرُّوا بِالْكَهْفِ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ فِي الْقُرْآنِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أُرِيد أَن أكشف عَنْهُم، فَمَنعه ابن عَبَّاسٍ، فَصَمَّمَ وَبَعَثَ نَاسًا، فَبَعَثَ اللهُ رِيحًا فأخرجتهم»([29]).

وقال الطبري وهو يذكر أحداث سنة ٤٩: «ثُمَّ دخلت سنة تسع وأربعين ... وفيها كَانَتْ غزوة يَزِيد بن مُعَاوِيَة الروم حَتَّى بلغ قسطنطينية، وَمَعَهُ ابن عَبَّاس وابن عمر وابن الزُّبَيْر وأبو أيوب الأَنْصَارِيّ»([30]).

فلو لم تكن الفتنة قد انقطعت وأوقفت الحرب بين المسلمين لَمَا تفرغ معاوية لقتال العدو في زمانه، ولَمَا فتحت الفتوحات العظيمة التي اعترف بها الشيعة أنفسهم.

 وأما باقي الشروط فلا تصح، وعلى فرض صحتها فلم يثبت أن معاوية قد نقضها، وقد رددنا على ذلك في شبهات أخر، كشبهتَيْ دعوى سب علي على المنابر، وقتل حجر بن عدي وغيرهما.

اعترف علماء ومنظرو التشيع أن الروايات التي تذكر أن معاوية قد نقض عهوده من أول يوم أو طَوَال مدة حياة الحسن باطلة، ولا تصح لا سندًا ولا متنًا.

قال حيدر العريضي: «لقد ذكرت الأخبار إعلان معاوية نقض عهود الصلح وعدم اكتراثه بها، فمتى أعلن ذلك؟ وأين؟ وهل طبق إعلانه في حياة الإمام الحسن أم بعد شهادته؟ وما وثاقة تلك الأخبار؟

حيث اختلفت الأخبار في وقت الإعلان ومكانه، فمنها ما ذهب إلى أن الإعلان كان في نفس معسكر جيش الكوفة من منطقة النخيلة، ومنها ما ذكر أن الإعلان كان على منبر الكوفة، وهذا الاختلاف مبرر عقلي لإثارة الشك بمضمون الخبر ومؤداه، علمًا أن الجلوس تحت منبر معاوية مما نهى عنه النبي! حيث أمر بقتل معاوية إن ارتقى منبرًا للمسلمين.

ولو سلّمنا جدلًا بصحة الأخبار الآنفة لا يثبت معها نقض معاوية لبنود الصلح عمليًّا؛ لأنَّ الخروقات إنما وقعت بعد شهادة الإمام الحسن وليس في حياته المباركة، ويمكن التأكد من ذلك بمراجعة تأريخ كل غدرة لمعاوية من قتل أو سب للإمام علي لا يجده المتتبع أنه وقع بعد شهادة الإمام الحسن سنة ٥٠-٥١هـ»([31]).

ويقول كذلك: «كان حرص الإمام S شديدًا على مصلحة شيعة أهل البيت، فقد صالح معاوية حقنًا لدمائهم وحفاظًا على الأمن العام؛ حيث اشترط على معاوية أن لا يتعرض لهم بسوء أو مكروه، وهو من أهم الشروط وأعظمها عند الإمام، كما أن أغلب الشروط كانت لصالح شيعتهم ومواليهم لضمان مصالحهم وعدم التعرض لهم بأذى؛ حيث التزم معاوية بهذه الشروط لمدة عشر سنوات حتى شهادة الإمام الحسن، ويمكن إطلاق على ذلك العقد اسم أعوام الفتح المبين لشيعة أهل البيت، ...»([32]).

وجاء في بحث أعدته شعبة التبليغ في قسم الشؤون الدينية التابع للعتبة العلوية: «وساد الأمان في الأمة كلها عشر سنوات بعد توقيع وثيقة الصلح، وبرز الإمام الحسن مرجعًا دينيًّا إلهيًّا»([33]).

فهذا اعتراف الشيعة ببطلان تلك الروايات سندًا ومتنًا، وهم من اضطروا للدفاع عن معاوية في ذلك، والذي اضطرهم إلى ذلك أن نقض الشروط إنما يعود بالطعن على الحسن نفسه، وذلك من عدة أوجه:

الوجه الأول: أن هذا ينفي كون الحسن حكيمًا؛ إذ إنه قد اشترط على من يعرف منه الغدر عندهم، وهذه مخالفة صريحة لقول الله تعالى: [ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ] {الأنفال: 56-58}.

فأوجب الله على الحاكم إذا شعر بالخيانة ونقض العهد إنهاء عهده.

الوجه الثاني: أن الحسن هو المتسبب في كل جريمة فعلها معاوية، فهو الذي سلَّطه على رقاب المسلمين على حد وصف المجلسي الأول([34])- وعلى دمائهم وأموالهم، فمَن الذي سلَّط معاوية على رقاب المسلمين غير الحسن؟!

 

([1]) الرواية في (المقاتل) قال: «حدثني علي بن العباس المقانعي قال: أخبرنا جعفر بن محمد بن الحسين الزهري قال: حدثنا حسن بن الحسين عن عمرو بن ثابت عن أبي إسحاق قال: «سمعت معاوية بالنخيلة يقول: ألا إن كل شيء أعطيته الحسن ابن علي تحت قدمي هاتين، لا أفي به. قال أبو إسحاق: وكان والله غدارًا». مقاتل الطالبيين، أبو الفرج الأصفهاني (1/45).

([2]) قال الحُرُّ العاملي في ترجمته: «علي بن الحسين بن محمد القرشي، أبو الفرج الأصبهاني، صاحب الأغاني، أصبهاني الأصل بغدادي المنشأ، من أعيان الأدباء، وكان عالمًا روى عن كثير من العلماء، وكان شيعيًّا، خبيرًا بالأغاني والآثار والأحاديث المشهورة والمغازي وعلم الجوارح والبيطرة والطب والنجوم والأشربة وغير ذلك، له تصانيف مليحة منها الأغاني». أمل الآمل، الحر العاملي (٢/181)، الكنى والألقاب، عباس القمي (١/138)، روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات، محمد باقر الخوانساري (٥/220)، سفينة البحار ومدينة الحكم والآثار، عباس القمي (٧/53)، معجم رجال الحديث، الخوئي (١٢/397).

([3]) لسان الميزان (2/199).

([4]) التقريب (ت4995).

([5]) الثقات للعجلي (ت1368).

([6]) الجرح والتعديل (6/223).

([7]) مناقب آل أبي طالب، ابن شهرآشوب (3/196) ط - المكتبة الحيدرية.

([8]) الإرشاد، المفيد (2/14).

([9]) الإمام الحسن S في مواجهة الانشقاق الأموي، البدري سامي (1/524).

([10]) صحيح البخاري (3/186).

([11]) المستدرك على الصحيحين (3/191) ط العلمية.

([12]) الطبقات الكبرى - متمم الصحابة - الطبقة الخامسة (1/323).

([13]) الطبقات الكبير (6/382) ط الخانجي.

([14]) البداية والنهاية (8/161) ت شيري.

([15]) مصنف ابن أبي شيبة (5/٤١).

([16]) تهذيب الأحكام، شيخ الطائفة (6/337).

([17]) ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار، المجلسي (١٠/288).

([18]) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، الفيض الكاشاني (٣/251).

([19]) ملكية الدولة، محمد السند (ص٧٤).

([20]) أنوار الفقاهة (كتاب التجارة)، ناصر مكارم الشيرازي (ص٤٥٣).

([21]) أعيان الشيعة، محسن الأمين (٢/142).

([22]) دعائم الإسلام، القاضي النعمان المغربي (2/324).

([23]) قرب الإسناد، أبو العباس الحميري (1/92) ط - الحديثة.

([24]) دلائل الإمامة، الطبري الصغير (1/172) ط - مؤسسة البعثة.

([25]) من أخلاق الإمام الحسين (ع)، عبد العظيم المهتدي البحراني (ص١٥١).

([26]) أخرج الطبراني عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ قَالَ: «خَرَجْتُ مَعَ الْحَسَنِ، وَجَارِيَةٌ تَحُتُّ شَيْئًا مِنَ الْحِنَّاءِ عَنْ أَظْفَارِهِ، فَجَاءَتْهُ إِضْبارَةٌ مِنْ كُتُبٍ، فَقَالَ: يَا جَارِيَةُ هَاتِ الْمِخْضَبَ، فَصَبَّ فِيهِ مَاءً، وَأَلْقَى الْكُتُبَ فِي الْمَاءِ، فَلَمْ يَفْتَحْ مِنْهَا شَيْئًا، وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، مِمَّنْ هَذِهِ الْكُتُبُ؟

قَالَ: «مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، مِنْ قَوْمٍ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى حَقٍّ، وَلَا يُقْصِرُونَ عَنْ بَاطِلٍ، أَمَا إِنِّي لَسْتُ أَخْشَاهُمْ عَلَى نَفْسِي، ولَكِنِّي أَخْشَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَشَارَ إِلَى الْحُسَيْنِ». المعجم الكبير، الطبراني (3/70)

([27]) موسوعة الإمام الحسين (ع) = (تاريخ إمام حسين ع) (١/76) مكتب طباعة الكتب المساعدة التعليمية.

([28]) تاريخ أبي زرعة الدمشقي (ص188).

([29]) فتح الباري، ابن حجر (6/505).

([30]) تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري (5/232).

([31]) حكمة صلح الإمام الحسن وآثاره - دراسة تحليلية، حيدر العريضي (ص١٧).

([32]) حكمة صلح الإمام الحسن وآثاره - دراسة تحليلية، حيدر العريضي (ص١٠).

وتتمة الكلام: «وقد وصف ابن أبي الحديد ما جرى بعد عام الصلح (الجماعة) بعشر سنوات، قائلًا: فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي فازداد البلاء والفتنة، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلا وهو خائف على دمه أو طريد في الأرض، ومن مصالح الصلح المثبتة في الوثيقة وآثاره على مستوى خدمة مذهب أهل البيت وشيعتهم الموالين لهم بإخلاص ومودة هو ما يلي:

أولًا: فرضت على معاوية أن يتعامل ولو ظاهريًّا ولمدة محدودة، بإيجابية مع ذكر الإمام علي بخير، وبرفع السب عنه خصوصًا في العراق والمدينة المنورة والحجاز.

ثانيًا: تضمن اختلاط العراقيين مع الشاميين في أجواء من الشفافية والمحبة والأمان؛ ليتعرف الشاميون على فضائل الإمام علي، وأخبار سيرته المشرقة ومنزلته العظيمة.

ثالثًا: تحقق أجواء الأمان في الأمة الاسلامية كلّها عامة، والشيعة خاصة بتطويق الفكر التكفيري وتحجيم خطره».

([33]) صلح الإمام الحسن - مشروع السماء لإصلاح الأمة (ص٨٧).

([34]) قال المجلسي: «معاوية لما كان مسلَّطًا على المؤمنين». ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار، المجلسي (١٠/288).