احتجت الرافضة بمجموعة من الروايات لإثبات هذه التهمة، وكلها قد وردت بطرق لا تثبت، ومن أمثلتها:
* الرواية الأولى: «رواية ابن جرير الطبري».
أخرجها الطبري في تاريخه وفيها: «ثُمَّ أقبل عَلَى عبد الرَّحْمَن العنزي فَقَالَ: إيه يَا أخا رَبِيعَة! مَا قولك فِي علي؟ قَالَ: دعني وَلا تسألني فإنه خير لك. قَالَ: وَاللهِ لا أدعك حَتَّى تخبرني عنه. قَالَ: أشهد أنه كَانَ من الذاكرين الله كثيرًا، ومن الآمرين بالحق، والقائمين بالقسط، والعافين عن الناس.
قَالَ: فما قولك فِي عُثْمَان؟ قَالَ: هُوَ أول من فتح باب الظلم، وأرتج أبواب الحق. قَالَ: قتلت نفسك. قَالَ: بل إياك قتلت، وَلا رَبِيعَة بالوادي، يقول حين كلم شمر الخثعمي فِي كريم بن عفيف الخثعمي، ولم يكن لَهُ أحد من قومه يكلمه فِيه، فبعث بِهِ مُعَاوِيَة إِلَى زياد، وكتب إِلَيْهِ:
أَمَّا بَعْدُ، فإن هَذَا العنزي شر من بعثت، فعاقبه عقوبته الَّتِي هُوَ أهلها واقتله شر قتلة، فلما قدم بِهِ عَلَى زياد بعث بِهِ زياد إِلَى قس الناطف، فدفن بِهِ حيًّا»([1]).
وهذه الرواية أفضل ما يُقال فيها إما أنها قد ذُكرت بلا إسناد، أو أنها امتداد لرواية أبي مِخنف قصة حجر بن عدي.
قال البرزنجي: «ذكر الطبري هذه التفاصيل بلا إسناد، والأغلب أنها امتداد لرواية أبي مخنف (5/271/م 101) والله أعلم»([2]).
فإذا كانت الرواية بلا إسناد فقد سقطت على أم رأسها بغير جهد ولا عناء.
وأما إن كانت امتدادًا لرواية أبي مخنف فكذلك هي ساقطة بلا ريب، فقد ذكرنا في جوابنا على قصة حجر بن عدي أن جميع الروايات التي تكلمت عن ثورة حجر بن عدي لا يخلو إسنادها من إشكال، وقد ساق الطبري إسنادها قائلًا: «قال هشام بن مُحَمَّد، عن أبي مخنف، عن المجالد ابن سعيد، والصقعب بن زهير، وفضيل بن خديج، والحسين بن عُقْبَةَ المرادي، قَالَ: كُلٌّ قَدْ حَدَّثَنِي بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ، فَاجَتْمَعَ حديثهم فِيمَا سقت من حديث حجر بن عدي الكندي وأَصْحَابه»([3]).
وهذه الأخبار كلها تدور على رواية أبي مخنف، يرويها عنه من هو أشر منه، وهو ابن الكلبي! وهذان وإن كانا سببين كافيين لإسقاط الروايات، إلا أنا نزيد عليها ما قاله الدكتور سالم خليل الأقطش([4]) في رسالته:
«وفيما يتعلق بمصدر هذه الروايات ومن رواها، فإن معظم ما كتبه الطبري عن حجر بن عدي كان من رواية (أبي مخنف لوط بن يحيى)، وهو معروف على علماء الجرح والتعديل بالتشيع والضعف وعدم الثقة، فقد قال عنه يحيى بن معين: «ليس بثقة»، وقال مرة: «ليس بشيء»، وقال أبو حاتم الرازي: «متروك الحديث»، وقال الدارقطني: «ضعيف، وهو شيعي محترق سكن الكوفة، وثمة من قال عنه: محالك»، وجاء في لسان الميزان أنه إخباري تالف، لا يوثق به، حتى أن الناظر في تصانيف أبي مخنف ليكاد يشتم رائحة التشيع بادية منه، فمن كتبه «الفتوح العراق»، و«كتاب الجمل»، و«كتاب صفين»، و«كتاب مقتل علي»، «وكتاب مقتل حجر بن عدي وأصحابه»، وغيرها.
كما أننا تتبعنا سلسلة السند ممن كان لهم النصيب الأكبر في نقل أخبار حجر بن عدي وأصحابه، وهم: هشام بن محمد السائب الكلبي، والمجالد ابن سعيد، وفضيل بن خليج، والحسين بن عقبة المرادي.
ففي هشام بن محمد الكلبي يقول أحمد بن حنبل: ما ظننت أن أحدًا يحدث عنه، إنما هو صاحب سير، وقال الدارقطني: «متروك»، وجاء في (الكامل في ضعفاء الرجال) أن هشام بن السائب إنما هو صاحب سمر ونسبة، وما ظننت أن أحدًا يحدث عنه، وقال ابن عساكر: رافضي ليس بثقة، وقال يحيى بن معين: «ليس بثقة، وليس عن مثله يروى الحديث، وذكره العقيلي في الضعفاء.
أما مجالد بن سعيد بن عمير بن ذي مران الهمذاني، فهو كوفي، ضعيف، ولا يحتج بحديثه، وقد كان يحيى القطان يضعفه، وكان ابن مهدي لا يروي عنه، وقال النسائي: «مجالد بن سعيد كوفي ضعيف»، وقال الدارقطني: إنه ضعيف.
وفيما يتعلق بالصقعب بن زهير بن عبد الله بن سليم الأزدي الكوفي (ت ١٣١-١٤٠هـ)، فهو خال أبي مخنف، قال أبو زراعة: إنه ثقة، وقال أبو حاتم: الشيخ ليس بالمشهور، وذكره أبو حيان في الثقات، وروى له البخاري حديثًا واحدًا، وهو صدوق ثقة.
أما فضيل بن خديج فقد روى عن مولى الأشتر، وروى عنه أبو مخنف، وقد قيل هو مجهول، روي عنه رجل متروك الحديث.
وفي الحسن بن عقبة البصري الضرير، فقد كان من أعيان الشيعة، وقد قرأ القرآن على يد الشريف أبي القاسم المرتضى، وحفظه وله سبع عشرة سنة، وكان من أذكياء بني آدم وتوفي سنة (441هـ).
وقد وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: «شيخ يكتب حديثه»، وذكره ابن حبان في الثقات.
ويتضح لنا من خلال ما سبق أن رواة الطبري منهم الشيعي المتعصب، ومنهم الضعيف المتروك وليس بالثقة، وقليل منهم الثقة، ويتكشف لنا أن سلسلة الرواة الذين يذكرون حادثة مقتل حجر بن عدي غالبًا ما تكون قصيرة، وسرعان ما تنكمش وتتلاشي، ونجد كذلك أن كثيرًا من الحلقات بين سلسلة الرواة مفقودة، مما يفصل بين الحدث التاريخي وزمن الرواية، كذلك فإن سلسلة الرواة تنتزع حسب اختلاف الأحداث، وتتنوع الروايات الخاصة بها»([5]).
وعليه فإن الطعن في أصحاب رسول الله ق بالأمور التاريخية التي لم يثبت لها إسناد ليس إلا من فعل النوْكَى أمثال الرافضة.
قال ابن عساكر في تاريخه: «عبد الرحمن بن حسان بن محدوج العنزي الكوفي، تابعي ممن قدم مع حجر بن عدي إلى عذراء، فلما قتل حجر وأصحابه حمل عبد الرحمن إلى معاوية وكلمه بكلام أغلظ له فيه، فبعثه إلى زياد وأمره بمعاقبته، فدفنه حيًّا بقس الناطف، وقد تقدم خبر قدومه في ترجمة الأرقم بن عبد الله وذكر قتله.
أخبرنا أبو القاسم أحمد بن إبراهيم، وأبو الوحش سبيع بن المسلم إذنًا عن رشأ بن نظيف المقرئ، أنا أبو شعيب عبد الرحمن بن محمد المكتب وأبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن المصريان قالا: أنا الحسن بن رشيق أنا أبو بشر الدولابي قال: أخبرني محمد -يعني ابن إبراهيم بن هاشم- عن أبيه عن محمد بن عمر قال:
حسان بن محدوج بن بكر بن وائل، أدرك أبا بكر الصديق فمن دونه، قتل يوم الجمل مع علي بن أبي طالب، وكان ابنه أخذ مع حجر بن عدي، فبعث به معاوية إلى زياد، فأخذه زياد فخرج به إلى مقبرة الكوفة فدفنه حيًّا»([6]).
وهذه الرواية أيضًا لا تصح؛ فهي من طريق محمد بن عمر الواقدي، الوضَّاع المتروك بالإجماع، قال الذهبي: «مُحَمَّد بن عمر بن وَاقد الْأَسْلَمِيُّ مَوْلَاهُم الْوَاقِدِيُّ صَاحبُ التصانيف، مجمع على تَركه، وَقَالَ ابْن عدي: يروي أَحَادِيث غير مَحْفُوظَة، وَالْبَلَاء مِنْهُ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: كَانَ يضع الحَدِيث»([7]).
وجميع المصادر التي يذكرها الشيعة والتي ذكرت تلك القصة إنما كان مصدرها هاتين الروايتين([8])، وبه تسقط الشبهة من أصلها، وما قيل في قتل حجر بن عدي يقال في قتل من كان معه من المشغبين على الخلافة فراجع.
يروي الصدوق عن داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبد الله (ع): «ما تقول في قتل الناصب([9])؟ قال: «حلال الدم، ولكني أتقي عليك، فإن قدرت أن تقلب عليه حائطًا أو تغرقه في ماء لكيلا يشهد به عليك فافعل»([10]).
فهذا أمر من المعصوم بقتل المخالف بقلب الجدار عليه! وهل هذا إلا عين الدفن حيًّا؟! وهذا لكل مخالف للشيعة، خاصة من يقدِّم الشيخين على عليٍّ، فكل من لم يكن رافضيًّا فهو ناصبي في عقيدتهم، ويدلّك على ذلك ما رُوي في مستطرفات السرائر من كتاب «مسائل الرجال ومكاتباتهم لعلي بن محمد الهادي S» في جملة مسائل محمد بن علي بن عيسى قال: «كتبت إليه أسأله عن الناصب، هل أحتاج في امتحانه إلى أكثر من تقديمه الجبت والطاغوت، واعتقاد إمامتهما؟ فرجع الجواب: من كان على هذا فهو ناصب، وهو صريح في أن مظهر النصب والعداوة هو القول بإمامة الأولين»([11]).
فهذا أمر من معصومهم بدفن جميع أهل السنة وغيرهم أحياء، أو إغراقهم في الماء، وفقه الشيعة في معاملة موتى المسلمين أصدق دليل على ذلك، فقد قالوا بعدم تغسيل غير الشيعي، بل وعدم وجوب دفنه، بل إنه يُرمى للكلاب وفي مواضع الخلاء، يقول كاشف الغطاء: «ولا تجهيز وجوبًا ولا ندبًا لغير المؤمن مسلمًا كان أو لا، وبطون الكلاب ومواضع الخلاء أحقُّ به»([12]).
ونص غيره على أن جسد المخالف لا حرمة له كالجماد، يقول فاضل الهندي: «فجسد المخالف كالجماد لا حرمة له عندنا»([13]).
ومَن جوَّز من الإمامية غسل الميت السني إنما هو من باب التقية والمداراة، يقول محمد علي الأراكي: «وما دلَّ على الأمر بمعاشرتهم ومواصلتهم ومداراتهم مع معلومية كون المعاملة مع موتاهم معاملة الكلاب مخالفًا لذلك»([14]).
والواقع الشيعي خير شاهد على ذلك، فما حصل في العراق وسوريا من حرق لأهل السنة وهم أحياء، وذبح وتعذيب تم توثيقُه بالصوت والصورة، وكل هذا نابع من تلك العقيدة وتلك الروايات التي تحرّض على قتل المسلمين والغدر بهم.
([1]) تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري (5/277).
([2]) صحيح وضعيف تاريخ الطبري (9/106).
([3]) تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري (5/253).
([4]) أستاذ مساعد، قسم إعداد معلم اللغة العربية والدراسات الإسلامية، جامعة العين، الإمارات العربية المتحدة.
([5]) مطاعن الجاحظ في معاوية بن أبي سفيان في رسالة النابتة - دراسة وتحقق في قضية مقتل حجر بن عدي، د. سالم خليل الأقطش (ص٣٠٣). تم نشرها في المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية، مج (17)، ع (1)، 1442ه /2021م.
([6]) تاريخ دمشق، ابن عساكر (34/301، 302).
([7]) المغني في الضعفاء (2/619).
([8]) ومن المصادر التي يحيل إليها الشيعة في ذلك: الكامل في التاريخ (3/81) ت تدمري، تاريخ ابن خلدون (3/16)، البداية والنهاية (11/234) ط هجر.
([9]) الناصبي: هو كل من نصب العداء لآل محمد، ويدخل فيهم السني عند الشيعة.
([10]) علل الشرائع (ص601)، وسائل الشيعة (18/463)، الأنوار النعمانية (2/307)، بحار الأنوار (27/231).
([11]) الحدائق الناضرة، البحراني (18/157- 158).
([12]) كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء، كاشف الغطاء(2/255) - ط الحديثة.
([13]) كشف اللثام، الفاضل الهندي (٢/226).
([14]) كتاب الطهارة، محمد علي الأراكي (٢/356).