قال: حَدَّثَنِي عمر قال: حدثني علي، عن مسلمة بن محارب: «أن عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن الْوَلِيد كَانَ قَدْ عظم شأنه بِالشَّامِ، ومال إِلَيْهِ أهلها، لما كَانَ عندهم من آثار أَبِيهِ خَالِد بن الْوَلِيد، ولغنائه عن الْمُسْلِمِينَ فِي أرض الروم وبأسه، حَتَّى خافه مُعَاوِيَة، وخشي عَلَى نفسه مِنْهُ؛ لميل الناس إِلَيْهِ، فأمر ابن أثال أن يحتال فِي قتله، وضمن لَهُ إن هُوَ فعل ذَلِكَ أن يضع عنه خراجه مَا عاش، وأن يوليه جباية خراج حمص، فلما قدم عبد الرَّحْمَن بن خَالِد حمص منصرفًا من بلاد الروم دس إِلَيْهِ ابن أثال شربة مسمومة مع بعض مماليكه، فشربها فمات بحمص، فوفى لَهُ مُعَاوِيَة بِمَا ضمن لَهُ، وولَّاه خراج حمص، ووضع عنه خراجه»([1]).
✍ قلت: منكر.
مسلمة بن محارب الزيادي: مجهول الحال، ذكره البخاري في تاريخه([2])، وكذا ابن أبي حاتم([3])، ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا، غير أن ابن حبان ذكره في كتابه الثقات([4])، وانفراد ابن حبان بتوثيق الراوي لا يُعتد به([5]).
وكذلك فرواية مسلمة عن معاوية فيها انقطاع، فمَسْلَمة بن محارب لا يروي عن معاوية إلا بواسطة([6])؛ ولذا حكم عليه البرزنجي بالإرسال والنكارة فقال: «إسناده مرسل وفي متنه نكارة»([7]).
وقال ابن كثير: «وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: ابْنُ أُثَالٍ
-وَكَانَ رَئِيسَ الذِّمَّةِ بِأَرْضِ حِمْصَ- سَقَاهُ شَرْبَةً فِيهَا سُمٌّ فَمَاتَ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ عَنْ أَمْرِ مُعَاوِيَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَصِحُّ»([8]).
بل إن الطبري نفسه يرى ضعف تلك الرواية، ولذلك أوردها بصيغة التمريض فقال: «وفيها انصرف عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن الْوَلِيد من بلاد الروم إِلَى حمص، فدس ابن أثال النصراني إِلَيْهِ شربة مسمومة -فِيمَا قيل- فشربها فقتلته»([9]).
قال البِلَاذُرِي: وحدثني محمد بن سعد عن الواقدي قال: «توفي خالد بن الوليد بن المغيرة بحمص سنة عشرين، وأوصى إلى عمر بن الخطاب، وكان عبد الرحمن بن خالد يلي الصوائف فيبلي ويحسن أثره، فعظم أمره بالشام، فدس إليه معاوية متطببًا يقال له: ابن أثال؛ ليقتله، وجعل له خراج حمص، فسقاه شربة فمات، فاعترض خالد بن المهاجر بن خالد –ويقال: خالد بن عبد الرحمن بن خالد- ابن أثال فضربه بالسيف فقتله، فرفع أمره إلى معاوية، فحبسه أيامًا وأغرمه ديته، ولم يقده به»([10]).
✍ قلت: شديدة الضعف.
الواقدي متروك بالإجماع، قال الذهبي: «مُحَمَّد بن عمر بن وَاقد الْأَسْلَمِيّ، مَوْلَاهُم الْوَاقِدِيّ، صَاحب التصانيف، مجمع على تَركه، وَقَالَ ابْن عدي: يروي أَحَادِيث غير مَحْفُوظَة، وَالْبَلَاء مِنْهُ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ: كَانَ يضع الحَدِيث»([11]).
متون الروايات مردودة بالواقع العملي المعلوم من سيرة معاوية؛ وذلك أن معاوية كان بيده الأمر في تولية وعزل الولاة والأمراء، فلم يكن من الصعب عليه عزل عبد الرحمن بن خالد ولا غيره، ولو عزله لانتهى أمره.
بل إن معاوية بالفعل قد عزله عن الصائفة، فروى البلاذري عن المدائني عن عتاب بن إبراهيم: «أن معاوية استعمل على الصائفة -وقد جاشت الروم- عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وكتب له عهدًا، ثم قال له: ما تصنع بعهدي هذا؟ قال: أتخذه إمامًا فلا أتجاوزه، قال: رد علي عهدي، فقال: أتعزلني ولم تخبرني؟ أما والله لو كنا ببطن مكة على السواء ما فعلت بي هذا، فقال: لو كنا ببطن مكة كنت معاوية بن أبي سفيان بن حرب، وكنت عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وكان منزلي بالأبطح، وكان منزلك بأجياد، أعلاه مدرة وأسفله عذرة.
ثم بعث إلى سفيان بن عوف الغامدي فقال له: قد وليتك الصائفة وهذا عهدي، فما أنت صانع به؟ قال: أتخذه إمامًا ما أم الحزم، فإذا خالفه أعملت رأيي، وبالله التوفيق، قال معاوية: أنت لها»([12]).
وفي تاريخ خليفة بن خياط: «كتب عُثْمَان إِلَى مُعَاوِيَة أَن يغزو بِلَاد الرّوم، فَوجه يَزِيد بْن الْحر الْعَبْسِي ثمَّ عَبْد الرَّحْمَن بْن خَالِد بْن الْوَلِيد عَلَى الصائفتين جَمِيعًا، ثمَّ عَزله وَولى سُفْيَان بْن عَوْف الغامدي»([13]).
وعليه فهذه الحجة المذكورة في تلك الروايات يأباها الواقع العملي.
ومن ناحية أخرى إذا كان معاوية يدبِّر ليخلو الأمر ليزيد كما يزعمون، فقد كان الأولى من دس السم لرجل ليس على قائمة المترقب أن تكون الخلافة فيهم من بعده، كان الأولى أن يكون هذا السم للحسين بن علي، فهو أظهر رجل يمكن أن يطالب بالخلافة بعد موت الحسن، وهذا مما يبين للمنصف بطلان تلك الدعوى.
وقد أورد الطبري في أحداث سنة ٤٨ هـ أن معاوية قد ولَّى خالد بن عبد الرحمن بن خالد بعد موت أبيه، فقال: «وَكَانَ فِيهَا مشتى أبي عبد الرَّحْمَن القيني أنطاكية، وصائفة عَبْد اللهِ بن قيس الفزاري، وغزوة مالك ابن هبيرة السكوني البحر، وغزوة عقبة بن عَامِر الجهني بأهل مصر البحر، وبأهل الْمَدِينَة، وعلى أهل الْمَدِينَة المنذر بن الزهير، وعلى جميعهم خَالِد بن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِد بن الْوَلِيد»([14]).
فكيف يرضى معاوية أن يكون خالد بن عبد الرحمن بن خالد قائدًا كبيرًا على جنده بعد أبيه، وقد أراد أن يتخلص ابتداءً من أبيه؟!
وكيف يأمن أن يقوم خالد بن عبد الرحمن بن خالد بقيادة جيشه وهو قاتل أبيه؟!
اغتيال المعارضين أمر اشتهرت به الشيعة ومشايخها من قديم، وهذا نموذج لمجرد خلاف في الرأي تصدر الفتاوى بالقتل:
قال محمد حسن آل طالقاني: «وقد تزعم فريق الإخباريين في تلك الفترة الميرزا محمد النيسابوري المعروف بالإخباري، كما تزعم فريق الأصوليين الشيخ جعفر آل كاشف الغطاء النجفي، وقد تطرف الإخباري إلى أبعد حد ووسع شقة الخلاف كثيرًا وتخلى عن الأدب والحشمة والاحترام في مناقشته لعلماء الأصوليين في نقده ورده على السواء، وتطاول على أساطين الدين وعظماء المذهب بالشتم، واستعمل بذيء القول ومرذوله؛ مما أدى إلى وقوف العلماء قاطبة في وجهه وإجماعهم على هتكه وتحطيمه، حتى انتهت القصة بمأساة فظيعة، فقد قُتل على أيدي العوام مع كبير أولاده بهجوم شُن على داره في الكاظمية، وسلمت جثته إلى السكان للعبث بها»([15]).
وكان التخطيط للقتل من قبل مرجعهم الأعظم جعفر كاشف الغطاء، قال أحمد عبد الله أبو زيد العاملي: «وبعد رجوع الميرزا مجدَّدًا إلى الكاظميَّة بعد وفاة الشيخ جعفر كاشف الغطاء، خطّط السيّد محمّد الطباطبائي المجاهد -نجل السيّد علي صاحب (الرياض)- لقتله، فوجّه إلى الشيخ موسى كاشف الغطاء نجل الشيخ جعفر السؤال التالي: ما رأي حجّة الله على خلقه وأمينه في أرضه في رجلٍ يؤلّب على العلماء الصالحين، ويسعى في قتلهم إطفاءً لنور الدين؟ فوقّع الشيخ موسى: يجب على كلّ محبٍّ وموالٍ أن يبذل في قتله النفس والمال، وإلا فلا صلاة ولا صيام له، وليتبوّأ في جهنّم منزله، ثمّ حكم السيّد عبد الله شبّر -إمام الكاظميّة آنذاك- بوجوب اتّباع حكم الشيخ موسى، وأيّده علماء آخرون، من قبيل السيّد محسن [الأعرجي] -صاحب المحصول- والشيخ أسد الله، وبعد نشر الفتوى في الكاظميّة، هجم الناس على الميرزا في بيته وقتلوه مع ولده الكبير السيّد أحمد وأحد تلامذته، وذلك يوم الأحد 28/ربيع الأوّل/ 1232هـ»([16]).
بل إن عابوا على معاوية المشاركة في دم عبد الرحمن بن خالد الذي هو ناصبي عندهم حلال الدم والمال والعرض، فلماذا لا يعيبون على هشام بن سالم الثقة عندهم؟ ولماذا لا تعدونه من النواصب؛ كونه شارك في قتل الرضا؟!
ففي «اختيار معرفة الرجال» عن محمد بن نصير قال: حدثني أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسين بن سعيد عن أحمد بن محمد عن أبي الحسن الرضا ع قال: «أما كان لكم في أبي الحسن ع عظة؟ ما ترى حال هشام بن الحكم؟ فهو الذي صنع بأبي الحسن ما صنع، وقال لهم وأخبرهم، أترى الله يغفر له ما ركب منا؟»([17]).
وفيه أيضًا: حدثني حمدويه بن نصير قال: حدثنا محمد بن عيسى العبيدي قال: حدثني جعفر بن عيسى قال: قال موسى بن الرقي لأبي الحسن الثاني ع: «جعلت فداك روى عنك ... وأبو الأسد أنهما سألاك عن هشام بن الحكم؟ فقلت: ضال مضل، شرك في دم أبي الحسن ع، فما تقول فيه يا سيدي نتولاه؟ قال: نعم، فأعاد عليه: «نتولاه» على جهة الاستقطاع؟ قال: نعم تولوه، نعم تولوه، إذا قلت لك فاعمل به، ولا تريد أن تغالب به، اخرج الآن فقل لهم: قد أمرني بولاية هشام بن الحكم، فقال المشرقي لنا بين يديه وهو يسمع: ألم أخبركم أن هذا رأيه في هشام بن الحكم غير مرة»([18]).
فلماذا إذَا شارك معاوية في دم رجل ناصبي -على زعمهم- يعاب عليه ذلك، وإذَا شارك هشام بن الحكم في دم الإمام الرضا لا يعاب عليه، بل يعد في غاية الوثاقة والتقوى؟
لتعلموا أن الأمر مجرد إثارة لثارات بعينها لنحر ودحر أهل السنة الذين هم حماة الإسلام وحصنه! وهيهات.
([1]) تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري (5/227).
([2]) التاريخ الكبير، البخاري (7/387) ت المعلمي اليماني.
([3]) الجرح والتعديل، ابن أبي حاتم (8/266).
([4]) الثقات، ابن حبان (7/490).
([5]) قال الشيخ الألباني في (الضعيفة): «وقد عُرف عند العلماء أن توثيق ابن حبان مجروح؛ لأنه بناه على قاعدة له وحده، وهي: أن الرجل إذا روى عنه ثقة، ولم يعرف عنه جرح، فهو ثقة عنده! وعلى ذلك بنى كتابه المعروف بـ«الثقات»، وكذلك تجد فيه كثيرًا من المجاهيل عند الجمهور، إنما أورده ابنُ حبان فيه لرواية ثقة عنده، ومن العجائب أنه يقول في بعضهم: «روى عنه مهدي بن ميمون، لا أدري من هو ولا ابن من هو!». انظر ترجمة أيوب عن أبيه عن كعب بن سور من «اللسان»، وانظر مقدمته أيضًا (1/14)، السلسلة الضعيفة (11/282).
([6]) التاريخ الكبير، البخاري (7/387) ت المعلمي اليماني.
([7]) صحيح وضعيف تاريخ الطبري (9/63).
([8]) البداية والنهاية (11/174) ت التركي.
([9]) تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري (5/227).
([10]) أنساب الأشراف، البلاذري (5/109).
([11]) المغني في الضعفاء (2/619).
([12]) أنساب الأشراف، البلاذري (5/104).
([13]) تاريخ خليفة بن خياط (ص180).
([14]) تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري (5/231).
([15]) الشيخية نشأتها وتطورها، محمد حسن ال طالقاني (ص9، 10).
([16]) محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة، أحمد عبد الله أبو زيد العاملي (ص88، 89).
([17]) اختيار معرفة الرجال للطوسي (2/561)، والرواية صححها الخوئي في معجم رجال الحديث (20/315).
([18]) اختيار معرفة الرجال، الطوسي (2/544).