جميع الروايات التي تذكر أن معاوية تتبع الشيعة أو سفك دماءهم لأنهم فقط شيعة علي مكذوبة ولا تصح -وقد تعرضنا كما سترى لتلك الروايات تفصيلًا في جوابنا على شبهة قتل نحو ثلاثين ألفًا في غارة بسر بن أرطاة على الحرمين واليمن، وسبي المسلمات، وقتله لطفلين- وسنذكر هناك سبع روايات ونبين سقوطها إسنادًا ومتنًا، فلا حاجة للإعادة هنا.
ولم يكن معاوية يقتل أحدًا إلا حَدًّا أو قصاصًا، فمن كان عنده بينة بغير ذلك فليخرج لنا رأسه، لكن الشيعة لا بضاعة لهم إلا الكذب، ولو كان معاوية يريد أن يستأصل الشيعة في زمانه لما بقي شيعي واحد، فقد كان مطلق اليد في دولته حر التصرف طائلًا لكل ما أراد([1])، فلماذا لم يتخلص من جميع الشيعة ويستأصلهم؟!
ادِّعاء تتبع معاوية للشيعة وقتلهم فيه تكذيب للحسن بن علي، فإنهم رووا عنه أن حكم معاوية فيه إبقاء للشيعة، كما جاء في العلل عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَقِيصَا قَالَ: «قُلْتُ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ، لِمَ دَاهَنْتَ مُعَاوِيَةَ وَصَالَحْتَهُ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْحَقَّ لَكَ دُونَهُ؟ ... وَلَوْلَا مَا أَتَيْتُ لَمَا تُرِكَ مِنْ شِيعَتِنَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ إِلَّا قُتِلَ»([2]).
وسُئل أبو جعفر عما فعل الحسن مع معاوية -وكان السؤال سؤالًا معترضًا- قال له أَبُو جَعْفَرٍ (ع): «اسْكُتْ؛ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا صَنَعَ، لَولَا مَا صَنَعَ لَكَانَ أَمْرٌ عَظِيمٌ»([3]).
فأي شيء أعظم من استئصال الشيعة وتتبعهم لقتلهم، فضلًا عن قتل إمامهم الحسن؟ وهذا مما يبطل دعواهم أن معاوية قد تتبع الشيعة وقتلهم.
ومما يقضي على تلك الفرية ويَدْحَضها تمامًا ما يروونه من قول الحسن لحجر بن عدي: «وإنّما فعلت ما فعلت إبقاء عليكم ... وما أردت بما فعلت إلا لحقن الدماء»([4]).
فهل بعد تصريح الحسن أنه فعل ذلك إبقاءً للشيعة، وحقنًا لدمائهم يأتي شيعي ليقول: إن الشيعة لم تُحقن دماؤهم بعد صلح الحسن؟ أكان الحسن مغفَّلًا لا يدري مع من يتصالح؟ أم كان خائب الظن جاهلًا بما يفعله معاوية؟
تالله ما هذا إلا غاية النصب والعداوة والطعن في الحسن بن علي ا.
وفي رواية ابن شهرآشوب يقرر الحسن أن الصلح كان مصلحةً للشيعة، فهل كان قتل الشيعة واستئصالهم مصلحة لهم؟
عن يوسف بن مازن الراسبي أنه لما صالح الحسن بن علي عذل، وقيل له: «يا مذل المؤمنين ومسود الوجوه، فقال: لا تعذلوني؛ فإن فيها مصلحة»([5]).
لماذا يلام معاوية على قتل الشيعة جميعًا –تنزلًا وجدلًا- فالشيعة يستحلون دماء وأموال وأعراض أهل السنة جميعًا بدعوى أنهم ناصبة! ولو تمكن الشيعة منهم لقتلوهم قُربة لربهم، بل الفتوى عندهم بقتل الناصبي تعدت البشر فطالت الطيور، يقول الجزائري: «روي أن العصفور يحب فلانًا وفلانًا، وهو سُني فينبغي قتله بكل وجه، وإعدامه وأكله»([6]).
فهذا الجزائري جعل علة قتل العصفور أنه يحب فلانًا وفلانًا، وهما أبو بكر وعمر، وأنه سُني! فكل من أحب الشيخين وجب قتله عندهم، ولعلهم يُفتون بعد ذلك بأكله!
وصرَّح البحراني باستحلال دم المخالف وماله فقال: «إلى هذا القول ذهب أبو الصلاح وابن إدريس وسلار، وهو الحق الظاهر، بل الصريح من الأخبار لاستفاضتها وتكاثرها بكفر المخالف ونصبه وشركه، وحل ماله ودمه، كما بسطنا عليه الكلام بما لا يحوم حوله شبهة النقض والإبرام في كتاب (الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب) وما يترتب عليه من المطالب»([7]).
وقال في موضع آخر صراحةً تحريضًا على قتلهم ما نصه: «وحينئذ فبموجب ما دلت عليه هذه الأخبار وصرح به أولئك العلماء الأبرار، لو أمكن لأحد اغتيال شيء من نفوس هؤلاء وأموالهم من غير استلزامه لضرر عليه أو على إخوانه، جاز له فيما بينه وبين الله تعالى»([8]).
بل رووا ذلك عن الأئمة! فعن دَاوُدَ بْنِ فَرْقَدٍ قَالَ: «قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (ع): مَا تَقُولُ فِي قَتْلِ النَّاصِبِ؟ قَالَ: حَلَالُ الدَّمِ، لَكِنِّي أَتَّقِي عَلَيْكَ، فَإِنْ قَدَرْتَ أَنْ تَقْلِبَ عَلَيْهِ حَائِطًا أَوْ تُغْرِقَهُ فِي مَاءٍ لِكَيْلَا يُشْهَدَ بِهِ عَلَيْكَ فَافْعَلْ، قُلْتُ: فَمَا نَرَى فِي مَالِهِ؟ قَالَ: تَوِّهْ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ»([9]).
فهذا أمر من المعصوم بقتل الناصبي، خاصة من يُقَدّم الشيخين على علي! وهذا لكل مخالف للشيعة، فكل من لم يكن رافضيًّا فهو ناصبي في عقيدتهم، ويدلك على هذا ما رووه في (المستطرفات) من كتاب (مسائل الرجال ومكاتباتهم) لعلي بن محمد الهادي في جملة مسائل محمد بن علي ابن عيسى، قال: «كتبت إليه أسأله عن الناصب، هل أحتاج في امتحانه إلى أكثر من تقديمه الجبت والطاغوت، واعتقاد إمامتهما؟ فرجع الجواب: من كان على هذا فهو ناصب، وهو صريح في أن مظهر النصب والعداوة هو القول بإمامة الأولين»([10]).
بل وقد وقع هذا عمليًّا في زمان الكاظم، لما قَتَل أحدُ كبار علمائهم الثقات علي بن يقطين خمسمئة نفس من أهل السنة، فأجاز له المعصوم ذلك، وعاب عليه فقط عدم استئذانه! ثم أظهرت الرواية على لسان الكاظم حقدًا عجيبًا على أهل الإسلام، مما يظهر في الرواية وفي تعليق الجزائري الرافضي!
فيقول الزنديق الجزائري تعقيبًا على رواية القاتل علي بن يقطين: «وفي الروايات أن علي بن يقطين -وهو وزير الرشيد- قد اجتمع في حبسه جماعة من المخالفين، وكان من خواص الشيعة، فأمر غلمانه وهدموا سقف المحبس على المحبوسين فماتوا كلهم، وكانوا خمسمائة رجل تقريبًا، فأراد الخلاص من تبعات دمائهم، فأرسل إلى الإمام مولانا الكاظم S، فكتب S إليه جواب كتابه بأنك لو كنت تقدمت إليَّ قبل قتلهم لما كان عليك شيء من دمائهم، وحيث أنك لم تتقدم إليَّ فكفِّر عن كل رجل قتلته منهم بتيس، والتيس خير منه.
فانظر إلى هذه الدية الجزيلة التي لا تعادل دية أخيهم الأصغر، وهو كلب الصيد، فإن ديته عشرون درهمًا، ولا دية أخيهم الأكبر، وهو اليهودي أو المجوسي، فإنها ثمانمائة درهم، وحالهم في الآخرة أخسُّ وأنجس»([11]).
فها هو الوزير الشيعي علي بن يقطين استغل نفوذه وقتل مخالفيه في محبسهم، ثم كان تعليق إمامه أنه لو كان أرسل إليه قبل قتلهم لما كان عليه شيء! هذا فضلًا عن أن الكفَّارة لم تكن لقتل مخالفيه، بل لعدم استئذان الإمام! فكان السني عندهم مهدور الدم، لكن للإهانة فقط قالوا بأن ديته أقل من دية الكلب!!
وما قَتْلُ مليونَيْ سُنيٍّ بغدر الشيعة عنا ببعيد، وما شاهده المسلمون من إجرامهم في هذا الزمان في العراق وسوريا وغيرهما لا يقل بشاعة، بل يزيد عما حكته كتب التاريخ في مجزرة بغداد على أيدي التتار.
فلو كان معاوية أو كان أهل السنة يعتقدون تلك العقيدة لذكروها افتخارًا؛ إذ لا يدينون بالتقية كما الرافضة، ومع هذا فنحن نُبَرِّئُ معاوية ا من ذلك، ونقول: إنه حسب هذه النصوص السالفة، فإما أن يكون قتل المخالف كله منقصة ومذمة –كمال الحال مع معاوية- أو أن يكون كلُّه مدحًا وكمالًا –كما الحال مع ابن يقطين-.
([1]) قال المجلسي الأول: «معاوية لما كان مسلطًا على المؤمنين». ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار، المجلسي (١٠/288).
([2]) علل الشرائع، الصدوق (1/211).
وبمثله نُقل عن علي بن أبي طالب ا مع أهل خلافه فنهى عن قتلهم وسبيهم حتى لا تُقتل الشيعة وتسبى، فعَنِ الْحَسَنِ بْنِ هَارُونَ قَالَ: «كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللهِ (ع) جَالِسًا، فَسَأَلَهُ الْمُعَلَّى بْنُ خُنَيْسٍ: أَيَسِيرُ الْقَائِمُ بِخِلَافِ سِيرَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَذَلِكَ أَنَّ عَلِيًّا (ع) سَارَ فِيهِمْ بِالْمَنِّ وَالْكَفِّ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ شِيعَتَهُ سَيَظْهَرُ عَلَيْهِمْ عَدُوُّهُمْ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَنَّ الْقَائِمَ (ع) إِذَا قَامَ سَارَ فِيهِمْ بِالْبَسْطِ وَالسَّبْيِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ شِيعَتَهُ لَنْ يُظْهَرَ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا». علل الشرائع، الصدوق (1/210).
فإما أن يُقال بعلم الإمامين عليٍّ والحسن، وهذه هي عقيدة الشيعة في أئمتهم! أو يُقال بخطئهما أو سوء تقديرهما!
([3]) علل الشرائع، الصدوق (1/211).
([4]) تنزيه الأنبياء، الشريف المرتضى (ص223).
([5]) مناقب آل أبي طالب، ابن شهرآشوب (3/197) ط المكتبة الحيدرية.
([6]) الأنوار النعمانية، نعمة الله الجزائري (1/211).
([7]) الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، يوسف البحراني (10/360).
([8]) الشهاب الثاقب، البحراني (ص٢٦٦، ٢٦٧).
([9]) علل الشرائع، الصدوق (2/601).
([10]) الحدائق الناضرة، البحراني (18/157، 158).
([11]) الأنوار النعمانية، نعمة الله الجزائري (2/212).