من المعلوم أن الألفاظ إنما تُفهم من لغة العرب بحسب ما اصطلح عليه العرب، لا بما يشيع عُرفًا بعد زمان الخطاب، وهذا ما اعترف به علماء الشيعة أنفسهم، فيقول محمد باقر الصدر: «لا شك في أن ظواهر اللغة والكلام تتطور، وتتغير على مر الزمن بفعل مؤثرات مختلفة لغوية، وفكرية، واجتماعية؛ فقد يكون المعنى الظاهر في عصر صدور الحديث مخالفًا للمعنى الظاهر في عصر السماع الذي يراد العمل فيه بذلك الحديث، وموضوع حجية الظهور في عصر صدور الكلام لا في عصر السماع المغاير له؛ لأنها حجية عقلانية قائمة على أساس حيثية الكشف والظهور الحالي، ومن الواضح أن ظاهر حال المتكلم إرادة ما هو المعنى الظاهر فعلًا في زمان صدور الكلام منه»([1]).
وعليه فإننَا إذا رجعنا إلى كلمة «صعلوك» لوجدنا أنها لا تطلق عند العرب في أصل إطلاقها إلا على الفقير، حتى أن اللصوص إنما قيل لهم: صعاليك لأجل فقرهم، ومن كان فقيرًا في شيء ما فإنه يصح وصفه بالصعلكة.
قال الجوهري: «[صعلك] الصُعْلوكُ: الفقيرُ. وصَعاليكُ العرب: ذؤبانها. وكان عروة بن الورد يُسمَّى عروة الصعاليك؛ لأنه كان يجمع الفقراء في حظيرة فيرزقهم مما يغنمه. والتصعلك: الفقر.
قال الشاعر:
غَنينا زمانًا بالتَصَعْلُكِ والغِنى»([2]).
إذًا فالصعلوك في اللغة هو الفقير الذي لا مال له، قال في اللسان: «الصُّعْلُوك: الفقير الذي لا مال له»([3]).
وعليه فهذه الكلمة في أصل وضعها لم تكن سبًّا ولا تنقيصًا، ولنا دليل على ذلك جاء على لسان النبي ق، ففي المسند عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ق قَالَ: «حَوْضِي كَمَا بَيْنَ عَدَنَ وَعَمَّانَ أَبْرَدُ مِنَ الثَّلْجِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، وَأَطْيَبُ رِيحًا مِنَ الْمِسْكِ، أَكْوَابُهُ مِثْلُ نُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا، أَوَّلُ النَّاسِ عَلَيْهِ وُرُودًا صَعَالِيكُ الْمُهَاجِرِينَ».
قَالَ قَائِلٌ: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الشَّعِثَةُ رُءُوسُهُمْ، الشَّحِبَةُ وُجُوهُهُمْ، الدَّنِسَةُ ثِيَابُهُمْ، لَا يُفْتَحُ لَهُمُ السُّدَدُ، وَلَا يَنْكِحُونَ الْمُتَنَعِّمَاتِ الَّذِينَ يُعْطُونَ كُلَّ الَّذِي عَلَيْهِمْ، وَلَا يَأْخُذُونَ الَّذِي لَهُمْ»([4]).
فهل يقول عاقل إن النبي ق لما وصف المهاجرين بالصعاليك كان يذمهم ويسبهم، وهو يصف ما لهم من نعيم في الدار الآخرة؟!
فهذا المعنى في العرف والشرع في عصر الصدور -أي زمان النبي ق- أفاد أنها كلمة لوصف الفقر لا غير، وقد جاء في بعض ألفاظ الحديث ما دل على أن معنى الصعلوك هو الفقر، فعند مسلم: «أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَرَجُلٌ تَرِبٌ، لَا مَالَ لَهُ»([5]).
قال بعضهم عن قول النبي ق: «وأما معاوية فصعلوك لا مال له»: «ليس لأنه لا مال له فهو صعلوك لا، لو كان كل من ليس له مال فهو صعلوك لكان أبو ذر صعلوكًا، ولكان سلمان صعلوكًا، لا صعلوك وصفة ثانية لا مال له»([6]).
ونقول: إن هذا لجهل مركب بلغة العرب؛ إذ إن اللفظ يُفَسَّرُ بلفظ بعده أظهر منه، ومن طرق التفسير هذه عطف اللفظ على مرادفه، يقول الدكتور فاضل السامرائي: «ومن عطف الشيء على مرادفه قولك: (هذا كذب وافتراء) والافتراء كذب، ومنه قول الشاعر:
وألْفَى قولَهَا كذِبًا ومَيْنَا.
والْمَيْنُ: الكذب»([7]).
هذا مع العطف بالواو، وأشد وضوحًا منه مع حذف الواو فيكون تفسيرًا وتأكيدًا للمعنى، كما في قول القائل: «جاء القوم كلهم»، فكلمة «القوم» أفادت الشمول، ومع ذلك جيء بعدها بلفظ «كلهم» تأكيدًا معنويًّا.
فقول النبي ق: «صعلوك لا مال له» كقول فاطمة للنبي ق وهي تصف زوجها عليًّا: «يا رسول الله، زوجتني من رجل فقير ليس له شيء»([8]).
وكذلك وصْف أبي طالب والد علي، قال ابن أبي الحديد في فضل أمير المؤمنين S: «ما أقول في رجل أبوه أبو طالب سيد البطحاء وشيخ قريش ورئيس مكَّة، قالوا: قلَّ أن يسود فقير وساد أبو طالب وهو فقير لا مال له، وكانت قريش تسمّيه الشيخ»([9]).
وأما قوله: «يلزم من ذلك أن يكون أبو ذر وسلمان صعاليك» فنقول: نعم صعاليك لا مال لهما، وكذلك علي ا، ولا إشكال في ذلك قط، وهذا ليس كلامنا وحدنا، بل هو كلام أهل البيت عند الشيعة.
ففي رواية ذكرها المرتضى: «نِعْم كنزُ الصعلوك سورةُ آل عمران، يقوم بها في آخر الليل، والصعلوك الفقير»([10])، ومن المعلوم أن عليًّا كان فقيرًا لا مال له، حتى أن فاطمة اشتكت قلة مهرها([11])، فيكون عليٌّ بلا خلاف من صعاليك المهاجرين بمعنى فقرائهم.
ونحن لا نستجيز ذكر ذلك بحضرة من لا يفهم لغة العرب، أو مَن علَى لسانه أنها كلمة لا تطلق إلا للذم، ولذلك فمن قال: إن معاوية صعلوك قلنا له: كذبت؛ لأنك ذكرتها ذمًّا وأطلقت ما جاء مقيدًا، الرواية قيدتها بقوله: «صعلوك لا مال له»، وقد جاء ذلك الوصف في معرض بيان الحال المتعلقة بالزواج، والمال مما يُرغب فيه للنكاح باتفاق الكل، فكان ذكر ذلك جائزًا مع التقيد بمفهوم الرواية وألفاظها دون بترها.
معلوم أن معاوية قد كان سيدًا على الدنيا في زمانه، وفتوحاته التي ملأت الأرض تشهد على ذلك، والسيادة مع الفقر مدحتها الشيعة غاية المدح، كما نقلنا آنفًا عن ابن أبي الحديد في وصف أبي طالب([12]).
والشيعة يعترفون أن معاوية كان فقيرًا، يقول محمد بيومي مهران: «ودليلنا أن ولده معاوية بن أبي سفيان كان على أيام النبي ق فقيرًا، وربما معدمًا، وقد روى أهل الفقه والحديث والمغازي وأصحاب الطبقات ما يدل على ذلك في قصة فاطمة بنت قيس»([13]).
فإذا كان كذلك وكان سيدًا فهذا عين المدح، ومع سيادته هذه كان أزهد الناس في الدنيا، فقد كان يمشي في سوق دمشق بثياب مرقوعة([14]).
ونقول: إن هذا الحديث من أعظم مناقب معاوية ا، ومن أظهر الأدلة على إيمانه وسلامة دينه؛ إذ إن المرأة لما استشارت النبي ق في معاوية زوجًا لم يكن من طعن إلا الفقر، ولو كان هناك غمز في دين معاوية لما سكت النبي ق، ولو كان النبي ق على عقيدة الشيعة لقال: هذا منافق نجس لا يجوز الزواج منه، أو لتكلم في دينه، فلما لم يذكر إلا الفقر علمنا أن دين معاوية لا مطعن فيه لأحد كائنًا من كان، وهذا غاية التوثيق له ا، والحمد لله رب العالمين.
([1]) دروس في علم الأصول، محمد باقر الصدر (2/166).
([2]) تاج اللغة وصحاح العربية (4/1595).
([3]) لسان العرب (10/455).
([4]) مسند أحمد (10/302) ط الرسالة.
([5]) صحيح مسلم (2/1119) ت عبد الباقي.
([7]) معاني النحو، فاضل صالح السامرائي (3/230)
([8]) المراجعات، شرف الدين الموسوي (1/443).
([9]) سفينة البحار ومدينة الحكم والآثار، عباس القمي (5/318).
([10]) الأمالي، الشريف المرتضى (١/24).
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ S قَالَ: «زَوَّجَ رَسُولُ اللهِ ص عَلِيًّا فَاطِمَةَ R عَلى دِرْعٍ حُطَمِيَّةٍ، وَكَانَ فِرَاشُهَا إِهَابَ كَبْشٍ، يَجْعَلَانِ الصُّوفَ إِذَا اضْطَجَعَا تَحْتَ جُنُوبِهِمَا». الكافي، الكليني (10/714) ط دار الحديث.
([11]) الكافي، الكليني (10/714) طـ. دار الحديث.
([12]) «وما أقول في رجل أبوه أبو طالب سيد البطحاء، وشيخ قريش، ورئيس مكة، قالوا: قلَّ أن يسود فقير، وساد أبو طالب وهو فقير لا مال له، وكانت قريش تسميه الشيخ». الصحيح من سيرة الإمام علي S، جعفر مرتضى العاملي (22/289).
([13]) الإمامة وأهل البيت (ع)، محمد بيومي مهران (1/371).
([14]) «وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: عَنْ عَمْرِو بْنِ وَاقَدٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسٍ قَالَ: رَأَيْتُ مُعَاوِيَةَ فِي سُوقِ دِمَشْقَ وَهُوَ مُرْدِفٌ وَرَاءَهُ وَصِيفًا، عَلَيْهِ قَمِيصٌ مَرْقُوعُ الْجَيْبِ، وَهُوَ يَسِيرُ فِي أَسْوَاقِ دِمَشْقَ»، وقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَوْ رَأَيْتُمْ مُعَاوِيَةَ لَقُلْتُمْ هَذَا الْمَهْدِيُّ». البداية والنهاية (11/438) ت التركي.
وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْلَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «رَأَيْتُ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ بِدِمَشْقَ يَخْطُبُ النَّاسَ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ مَرْقُوعٌ». الزهد، أحمد بن حنبل (ص142).