كلام الصدوق إثبات لكون معاوية من كتبة الوحي للنبي ق، وإن كان بعض الشيعة ينكر ذلك الآن! وكونه من كتبة الوحي فهو محل اتفاق بين السنة والشيعة.
أما عند أهل السنة فقد جاء في صحيح مسلم: «وَمُعَاوِيَةُ، تَجْعَلُهُ كَاتِبًا بَيْنَ يَدَيْكَ، قَالَ: نَعَمْ»([1]) وفي مسند أحمد: «اذهبْ فادْعُ لي معاوية، وكان كاتِبَه»([2]) وعند البيهقي: «اذْهَبْ فَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ»، وَكَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ»([3]).
وأما عند الشيعة فقد جاءت رواية قريبة من رواية مسلم عن ابن عباس ب قال: «كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه فقال: يا رسول الله، ثلاث أعطنيهن، قال: نعم، قال: عندي أحسن العرب وأجملهم اُمّ حبيبة أزوّجكها، قال: نعم، قال: ومعاوية تجعله كاتبًا بين يديك، قال: نعم، قال: وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما قاتلت المسلمين، قال: نعم. قال ابن زميل: ولولا أنه طلب ذلك من النبي ص ما أعطاه إياه؛ لأنّه لم يكن يُسأل شيئًا قط إلَا قال: نعم»([4]).
وبوب الصدوق تبويبًا بعنوان «معنى استعانة النبي صلى الله عليه وآله بمعاوية في كتابة الوحي»، ثم ساق بسنده إلى أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر S يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله -ومعاوية يكتب بين يديه-»([5])، ويقول اليعقوبي: «وكان كتّابه الذين يكتبون الوحي والكتب والعهود: علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعمرو بن العاص بن أمية، ومعاوية بن أبي سفيان»([6])، وقال مرتضى المطهري: «وكتب له معاوية قبل وفاته بأشهر»([7]).
محاولة الشيعة إفساد فضيلة كتابة الوحي لإسقاط فضيلة لمعاوية ا، ومقارنته بابن أبي السرح باطلة من وجوه:
قررت الإمامية الوثاقة والعدالة والمدح لمجرد الكتابة للمعصوم، بل حتى لنائب المعصوم، فهذا «أحمد بن إبراهيم النوبختي» كاتبُ «الحسين بن روح بن أبي بحر النوبختي» السفير الثالث المهدي، ولكونه كان كاتبًا لهذا السفير أوجبوا له الوثاقة والاطمئنان، مع كونه مهملًا في كتب الرجال!
قال مسلم الداوري: «ومما يؤيده أنه كان كاتبًا للحسين بن روح، فإن أوجب ذلك كله الاطمئنان بوثاقته فهو، وإلا فالرواية مؤيدة»([8]).
وقال التُّسْتَري: «كان كاتب الحسين بن روح، وهو لا يخلو من مدح»([9]).
وقال في التنقيح: «أحمد بن إبراهيم: حصيلة البحث المعَنْون مهمل، ولكن اختصاص المعنون بالنائب الخاص للإمام (ع) المعصوم (عجل)، واطلاعه -بحكم وظيفة الكتابة- على كثير من أسراره، إن لم تسبغ عليه الوثاقة، فلا أقل من الحسن بأعلى مراتبه، وعد حديثه حسنًا كالصحيح»([10]).
فهذا المجهول –المهمل على حد تعبير عبد الله المامقاني- صار ثقة ممدوحًا فقط لمجرد كونه كاتبًا عند رجل من نواب المهدي! وبمجرد هذا فحديثه في الحسن كالصحة!
وهذا يحدو كل منصف للحكم على هؤلاء بالنصب والعداء لرسول الله ق؛ إذ يجعلون رجلًا كذابًا أفاقًا كالحسين بن روح النوبختي أفضلَ من رسول الله ق؛ بحيث إن اختار كاتبًا كان ذلك توثيقًا ومدحًا له، وعلى العكس من ذلك مع النبي ق!!
إن لم تكن كتابة الوحي فضيلة لمعاوية بن أبي سفيان فهي كذلك ليست بفضيلة لعلي بن أبي طالب، فهذا ابن شهرآشوب يعدد فضائل علي بن أبي طالب ويجعل كتابة الوحي منها! فيقول: «وكان S يكتب الوحي والعهد، وكاتب الملك أخص إليه؛ لأنه قلبه ولسانه ويده، فلذلك أمره النبي صلى الله عليه وآله بجمع القرآن بعده، وكتب له الأسرار، وكتب يوم الحديبية بالاتفاق»([11]).
فلماذا كانت كتابة الوحي منقبةً لعلي، وليست لغيره منقبة، بل مذمة؟!
بل وكانت كتابة الوحي من مفاخر علي بن أبي طالب، ففي الكافي: «فَمَا نَزَلَتْ عَلى رَسُولِ اللهِ ص آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ إِلَا أَقْرَأَنِيهَا، وَأَمْلَاهَا عَلَيَّ، فَكَتَبْتُهَا بِخَطِّي»([12]).
فإذا كان الفخر من علي بالكتابة لرسول الله ق حقًّا، لزم من ذلك أن يفتخر معاوية وأهل السنة بتلك المنقبة لمعاوية ا.
إن كان تقرير الشيعة كما مر في كلام الصدوق أن هذه الفضيلة لمعاوية تسقط لمجرد ما وقع من ابن أبي السرح، فلا شك أنها لعلي بن أبي طالب تسقط كذلك لنفس العلة؛ وذلك لاتحاد الفعل واتحاد العلة، ولا قائل بذلك من الشيعة قط!
وهذا القياس باطلٌ؛ إذ لو صح لما بقيت فضيلة لغير معصوم، وذلك أنه لو قيل: من فضائل فلان أنه جاهد في سبيل الله، لقيل ليس الجهاد في سبيل الله فضيلة، بدليل أن فلانًا قد جاهد وارتد، وإن قيل: إن فلانًا كان قوامًا بالليل صوامًا بالنهار، لقيل: لا فضيلة له فيها؛ إذ كان فلان كذلك وارتد، وقل مثل ذلك في كل فضيلة تُذكر لغير الأنبياء، وقد اتفق العقلاء على بطلان ذلك القياس، وعليه فإن قيل: إن عبد الله بن سعد بن أبي السرح قد ارتد، قلنا: بالردة سقطت الفضيلة عنه، ثم لما أسلم وحسن إسلامه قد يقال برجوع تلك الفضيلة له على قول بعض أهل العلم.
وعليه فلا يقاس من لم يرتد بمن ارتد، وإلا وقعنا في ذلك الإشكال الذي لا مفر منه، ولا شك في بطلانه.
وأما ما يُنسب إلى عبد الله بن سعد بن أبي السرح من أنه كان يُحرف في الكتابة فلم يصح عنه قط، ولم نقف على رواية صحيحة الإسناد أنه كان يحرِّف الوحي، وإنما في قصته أنه «أزلَّه الشيطان».
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ب قَالَ: «كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللهِ ق، فَأَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ فَلَحِقَ بِالْكُفَّارِ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ق أَنْ يُقْتَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَاسْتَجَارَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَأَجَارَهُ رَسُولُ اللهِ ق»([13]).
قد قرر الصدوق –زورًا وكذبًا- أن النبي ق قد استعان بكافرين على كتابة الوحي! فقال: «فاستعان في كتب ما ينزل عليه في الحوادث الواقعة بعدوين له في دينه، عدلين عند أدائه ليعلم الكفار والمشركون أن كلامه في ثاني الأمر كلامه في الأول غير مغير ولا مزال عن جهته، فيكون أبلغ للحجة عليهم، ولو استعان في ذلك بوليّين مثل سلمان وأبي ذر وأشباههما لكان الأمر عند أعدائه غير واقع هذا الموقع»([14]).
نقول: إن هذا عين الحمق؛ فالكافر غير مؤتمن ولا موثوق؛ ولذا فالنبي ص أمر زيدًا أن يتعلم له لغة يهود، وذلك أنه لا يأمنهم على كتابه! فـعَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ أَبَاهُ زَيْدًا أَخْبَرَهُ: «أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ ق الْمَدِينَةَ قَالَ زَيْدٌ: ذُهِبَ بِي إِلَى النَّبِيِّ ق فَأُعْجِبَ بِي، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا غُلَامٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، مَعَهُ مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ بِضْعَ عَشْرَةَ سُورَةً، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ق وَقَالَ: «يَا زَيْدُ، تَعَلَّمْ لِي كِتَابَ يَهُودَ، فَإِنِّي وَاللهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي» قَالَ زَيْدٌ: فَتَعَلَّمْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ، مَا مَرَّتْ بِي خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى حَذَقْتُهُ وَكُنْتُ أَقْرَأُ لَهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ، وَأُجِيبُ عَنْهُ إِذَا كَتَبَ»([15]).
قال في شرح السنن: «وفيه دليل أن الكاتب والمترجم يكون أمينًا عدلًا حرًّا كما في زيد ا، ويدل على الأمانة قوله تعالى: [ﯹ ﯺ]، قال الضحاك: آمين على الرسالة»([16]).
وقال السهارنفوري: «وقال -أي رسول الله ق-: «إني والله ما آمن يهود على كتابي» أي: لم يطمئن رسول الله ق على أن يكون كاتبه من اليهود؛ لئلا يلبس عليه في الكتاب ويخون فيه، فيكتب ما لم يقله، أو لم يكتب ما يقوله»([17]).
فكيف يقال بعد هذا إن النبي ق يستكتب أعداءه الوحي؟! تالله ما هذا إلا حمق وجهالة!
([1]) صحيح مسلم (4/1945) ت عبد الباقي.
([2]) مسند أحمد (3/189) ت أحمد شاكر.
([3]) دلائل النبوة، البيهقي (6/243).
وفي الشريعة للآجري عن رَبَاحِ بْنِ الْجَرَّاحِ الْمَوْصِلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْأَلُ الْمُعَافَى بْنَ عِمْرَانَ فَقَالَ: «يَا أَبَا مَسْعُودٍ، أَيْنَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ؟ فَرَأَيْتُهُ غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا وَقَالَ: لَا يُقَاسُ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ق أَحَدٌ، مُعَاوِيَةُ ا كَاتِبُهُ وَصَاحِبُهُ وَصِهْرُهُ وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِ اللهِ D». الشريعة (5/2466).
وقد ذكر بعضهم أن معاوية كان يكتب الرسائل فقط لا الوحي، واستدل بما نقله الحافظ ابن حجر عن المدائني قال: «كان زيد بن ثابت يكتب الوحي، وكان معاوية يكتب للنبيّ ص فيما بينه وبين العرب». الإصابة في تمييز الصحابة (6/121).
✍ قلنا: ذكر الشيء لا ينفي ما عداه، وقد أثبت الحافظ نفسه أن معاوية كان يكتب الوحي، فقال في تهذيبه: «معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية الأموي أبو عبد الرحمن الخليفة، صحابي أسلم قبل الفتح، وكتب الوحي، ومات في رجب سنة ستين، وقد قارب الثمانين». تقريب التهذيب (ص537).
وحتى لو تنزلنا وقلنا بأنه كان يكتب الرسائل، فأنتم تعتقدون أن كل ما تكلم به النبي ق لا يكون إلا بوحي، ولا يكون باجتهاد من نفسه، فيسقط كل التشغيب.
([4]) موسوعة أحاديث أهل البيت (ع)، هادي النجفي (١/142)، مكارم الأخلاق، حسن بن الفضل الطبرسي (ص١٨).
([5]) معاني الأخبار، الصدوق (1/346).
([6]) تاريخ اليعقوبي (2/80).
([7]) النبي الأمي، مرتضى مطهري (ص20).
([8]) التقية في التقية في فقه أهل البيت (ع) = بحوث الشيخ مسلم الداوري، محمد علي المعلم (3/154).
([9]) قاموس الرجال، محمد تقي التستري (١/377)، بيان الأصول، صادق الحسيني الشيرازي (٩/249).
([10]) تنقيح المقال في علم الرجال، عبد الله المامقاني (5/240) تحقيق واستدراك: محيي الدين المامقاني.
([11]) مناقب آل أبي طالب، ابن شهرآشوب (1/140) ط المكتبة الحيدرية.
([12]) الكافي، الكليني (1/161) ط دار الحديث.
([13]) رواه النسائي (4069) وأبو داود (4358) وحسَّنه الألباني في «صحيح النسائي».
وراجع موقع الإسلام سؤال وجواب تحت عنوان: «التفريق بين عبد الله بن أبي سرح وغيره ممن ارتد وادَّعى أنه كان يحرِّف الوحي» https://cutt.us/15rfN
وتحت عنوان: «هل نزل قوله تعالى: [ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ] {الأنعام:93} في شأن عبد الله بن سعد ابن أبي سرح؟» https://is.gd/VeTTuf
([14]) معاني الأخبار (ص347).
([15]) مسند أحمد (35/490) ط الرسالة.
([16]) شرح سنن أبي داود، ابن رسلان (15/76).
([17]) بذل المجهود في حل سنن أبي داود (11/379).