هذه الرواية لا تصح، بل هي من أكاذيب الرافضة، اختلقها ابن الكلبي، ونقلها المدائِنِيُّ بلا إسناد، قال في أنساب الأشراف: «قَالَ المدائني: وكتب مُعَاوِيَة إِلَى قَيْس يدعوه إِلَى نفسه -وَهُوَ بمسكن فِي عشرة آلاف- فأبى أن يجيبه، ثم كتب إليه: إنما أنت يهودي ابن يهودي، ...»([1]).
والمدائني متوفًّى سنة ٢٢٥ للهجرة، فبينه وبين الواقعة أكثر من قرن ونصف، ومصدر هذه الرواية إنما هو من ابن الكلبي الرافضي، قال الجاحظ: «ابن الكلبي قال: كتب معاوية إلى قيس بن سعد -وهو والي مصر- لعلي بن أبي طالب ا: أما بعد فإنما أنت يهوديّ ابن يهودي، إن ظفر أحبّ الفريقين إليك عزلك واستبدل بك ... فكتب إليه قيس بن سعد: أما بعد، فإنك وثن ابن وثن»([2]).
وابن الكلبي رافضي، نص النجاشي على ترفضه فقال: «أبو المنذر، الناسب، العالم بالأيام، المشهور بالفضل والعلم، وكان يختص بمذهبنا»([3]).
والرافضة أكذب الخلق، قال شيخ الإسلام ابن تيمية V: «وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالنَّقْلِ وَالرِّوَايَةِ وَالْإِسْنَادِ عَلَى أَنَّ الرَّافِضَةَ أَكْذَبُ الطَّوَائِفِ، وَالْكَذِبُ فِيهِمْ قَدِيمٌ، وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ يَعْلَمُونَ امْتِيَازَهُمْ بِكَثْرَةِ الْكَذِبِ»([4]).
وأما قول أهل السنة في ابن الكلبي وأمثاله فمشهورة جدًّا، قال ابن حبان: «... من أهل الْكُوفَة، يروي عَن أَبِيه ومعروف مولى سُلَيْمَان والعراقيين الْعَجَائِب وَالْأَخْبَار الَّتِي لَا أصُول لَهَا، روى عَنهُ شباب الْعُصْفُرِي وَعلي بن حَرْب الْموصِلِي وَعبد الله بن الضَّحَّاك الهدادي، وَكَانَ غاليا فِي التَّشَيُّع، أخباره فِي الأغلوطات أشهر من أَن يحْتَاج إِلَى الإغراق فِي وصفهَا»([5]).
وقال الذهبي: «وقال الدارقطني وغيره: متروك الحديث، وَقَالَ ابْنُ عَسَاكِرَ: رَافِضِيٌّ لَيْسَ بِثِقَةٍ»([6]).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة V: (وَأَكْثَرُ الْمَنْقُولِ مِنَ الْمَطَاعِنِ الصَّرِيحَةِ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، يَرْوِيهَا الْكَذَّابُونَ الْمَعْرُوفُونَ بِالْكَذِبِ، مِثْلَ أَبِي مِخْنَفٍ لُوطِ بْنِ يَحْيَى، وَمِثْلُ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ الْكَلْبِيِّ وَأَمْثَالِهِمَا مِنَ الْكَذَّابِينَ. وَلِهَذَا اسْتَشْهَدَ هَذَا الرَّافِضِيُّ بِمَا صَنَّفَهُ هِشَامٌ الْكَلْبِيُّ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ أَكْذَبِ النَّاسِ، وَهُوَ شِيعِيٌّ يَرْوِي عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، وَكِلَاهُمَا مَتْرُوكٌ كَذَّابٌ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي هَذَا الْكَلْبِيُّ: «مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَدًا يُحَدِّثُ عَنْهُ، إِنَّمَا هُوَ صَاحِبُ سَمَرٍ وَشُبَهٍ». وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هُوَ مَتْرُوكٌ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: «هِشَامٌ الْكَلْبِيُّ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْأَسْمَارُ، وَلَا أَعْرِفُ لَهُ فِي الْمُسْنَدِ شَيْئًا، وَأَبُوهُ أَيْضًا كَذَّابٌ»، وَقَالَ زَائِدَةُ وَاللَّيْثُ وَسُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: هُوَ كَذَّابٌ. وَقَالَ يَحْيَى: «لَيْسَ بِشَيْءٍ كَذَّابٌ سَاقِطٌ». وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: «وُضُوحُ الْكَذِبِ فِيهِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى الْإِغْرَاقِ فِي وَصْفِهِ»)([7]).
جاء في تاريخ الطبري: «وكتب الْحَسَنُ إِلَى مُعَاوِيَةَ فِي الصلح، وطلب الأمان، وَقَالَ الْحَسَنُ للحسين ولعبد الله بن جَعْفَر: إني قَدْ كتبت إِلَى مُعَاوِيَةَ فِي الصلح وطلب الأمان، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: نشدتك الله أن تصدق أحدوثة مُعَاوِيَة، وتكذب أحدوثة علي! فَقَالَ لَهُ الْحَسَن: اسكت، فأنا أعلم بالأمر مِنْكَ.
فلما انتهى كتاب الْحَسَن بن علي ع إِلَى مُعَاوِيَةَ، أرسل مُعَاوِيَة عَبْد اللهِ بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة، فقدما المدائن، وأعطيا الْحَسَن مَا أراد، فكتب الْحَسَن إِلَى قيس بن سَعْد وَهُوَ عَلَى مُقَدِّمَتِه فِي اثني عشر ألفًا يأمره بالدخول فِي طاعة مُعَاوِيَة، فقام قيس بن سَعْد فِي الناس فَقَالَ: يا أيها الناس، اختاروا الدخول فِي طاعة إمام ضلالة، أو القتال مع غير إمام، قَالُوا: لا، بل نختار أن ندخل فِي طاعة إمام ضلالة»([8]).
فهذا أمر الحسن لقيس بن سعد أن يبايع معاوية -ولا نسلم أن معاوية إمام ضلالة- ولو كان معاوية كما قال قيس لما جاز للحسن أن يأمر بذلك، وإلا لكان الحسن هو إمام الضلالة؛ لأنه دعا إلى بيعة إمام ضلالة.
جاءت بيعة قيس بن سعد في مصنف ابن أبي شيبة قال: حدثنا أَبُو أُسَامَةَ قال: حدثنا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كَانَ قَيْسُ بْنُ عُبَادَةَ مَعَ عَلِيٍّ مُقَدِّمَتَهُ، وَمَعَهُ خَمْسَةُ آلَافٍ قَدْ حَلَقُوا رُءُوسَهُمْ بَعْدَمَا مَاتَ عَلِيٌّ، فَلَمَّا دَخَلَ الْحَسَنُ فِي بَيْعَةِ مُعَاوِيَةَ أَبَى قَيْسٌ أَنْ يَدْخُلَ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَا شِئتُمْ؟ إِنْ شِئْتُمْ جَالَدْتُ بِكُمْ أَبَدًا حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ، وَإِنْ شِئْتُمْ أَخَذْتُ لَكُمْ أَمَانًا، فَقَالُوا لَهُ: خُذْ لَنَا أَمَانًا، فَأَخَذَ لَهُمْ أَنَّ لَهُمْ كَذَا وَكَذَا وَلَا يُعَاقَبُوا بِشَيْءٍ، وَإِنِّي رَجُلٌ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَأْخُذْ لِنَفْسِهِ شَيْئًا، فَلَمَّا ارْتَحَلُوا نَحْوَ الْمَدِينَةِ وَمَضَى بِأَصْحَابِهِ جَعَلَ يَنْحَرُ لَهُمْ كُلَّ يَوْمٍ جَزُورًا حَتَّى بَلَغَ»([9]).
وفي أنساب الأشراف عن مُحَمَّد بْن سيرين قال: «لما بايع الحسنُ معاويةَ، ركب الحسن إليه في عسكره، وأردف قَيْس بْن سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ خلفه، فلما دخلا العسكر قَالَ النَّاس: جاء قيس جاء قَيْس، فلما دخلا عَلَى مُعَاوِيَةَ بايعه الحسنُ ثُمَّ قَالَ لقيس: بايع، فَقَالَ قَيْس بيده هذا وجعلها فِي حجره ولم يرفعها إِلَى مُعَاوِيَةَ! وَمُعَاوِيَة عَلَى السرير، فبرك مُعَاوِيَة عَلَى ركبتيه ومد يده حَتَّى مسح عَلَى يد قَيْس وهي في حجره»([10]).
فهذا أمر الحسن لقيس بن سعد بالبيعة، وهذه بيعة قيس لمعاوية، فإما أن ترفض الشيعة قول قيس في معاوية وتنتهي شبهتهم، وإما أن يقبلوه فيُكَفِّرُون قيسًا؛ لأنه بايع الوثن، وعندها يسقط طعنه في معاوية؛ إذ الكافر لا قيمة لكلامه في أصحاب رسول الله ق.
([1]) أنساب الأشراف، البلاذري (3/39).
([2]) البيان والتبيين (2/58).
([3]) رجال النجاشي (1/434).
([4]) منهاج السنة النبوية (1/59).
([5]) المجروحين، ابن حبان (3/91).
([6]) سير أعلام النبلاء (8/281) ط الحديث، الضعفاء والمتروكون، ابن الجوزي (3/176).
([7]) منهاج السنة النبوية (5/82).
([8]) تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري (5/160).
([9]) مصنف ابن أبي شيبة (6/190) ت الحوت، مصنف ابن أبي شيبة (17/117) ت الشثري، قال الشثري: «صحيح».
([10]) أنساب الأشراف، البلاذري (3/50).