قصة أكل هند كبد حمزة لا يصح لها إسناد، وأغلب الروايات التي ذكرت في ذلك إنما كان مرجعها رواية ابن هشام في السيرة، وقد فَصَّلَ الدكتور العوشن القول في ذلك، وأثبت عدم صحة تلك الروايات، وهذا كلامه مختصرًا:
«قال ابن إسحاق: «ووقعت هند بنت عتبة، كما حدثني صالح بن كيسان، والنسوة اللاتي معها يُمثّلن بالقتلى من أصحاب رسول الله ق يُجدّعْن الآذان والأُنُف، حتى اتخذت هند من آذان الرجال وأُنفهم خَدمًا وقلائد، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطها وحشيًّا غلام جبير بن مطعم، وبقرت عن كبد حمزة، فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها، فلفظتها».
وصالح بن كيسان ثقة، من رجال الجماعة، وهو مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز، لكن الخبر مرسل.
... وروى الإِمام أحمد قال: حدثنا عفّان قال: حدثنا حمّاد قال: حدثنا عطاء بن السائب عن الشعبي عن ابن مسعود قال: «... فنظروا فإذا حمزة قد بُقر بطنه، وأخذتْ هند كبده فلاكتها، فلم تستطع أن تمضغها، فقال رسول الله ق: «أكلتْ شيئًا؟» قالوا: لا، قال: «ما كان الله ليُدخل شيئًا من حمزة في النار»، وفيه صلاته على حمزة سبعين صلاة.
قال ابن كثير V في (البداية): «تفرَّد به أحمد، وهذا إسناد فيه ضعف، من جهة عطاء بن السائب، فالله أعلم».
قال الشيخ الألباني: «وهذا هو الصواب، خلافًا لقول الشيخ أحمد محمَّد شاكر: إنه صحيح، فإنه ذُهل عما ذُكر من سماعه منه في الاختلاط».
وفي المتن نكارة هي: «ما كان الله ليدخل شيئًا من حمزة في النار»؛ لأن هندًا ل أسلمتْ، والإِسلام يجبُّ ما قبله، ثم إنّ الراوي عن ابن مسعود هو عامر بن شراحيل الشعبي، ولا يصح له سماع من ابن مسعود، كما قال ذلك الأئمة: الحاكم، والدارقطني، وأبو حاتم، وابن باز»([1]).
وقد فصل الشيخ سيد الشحات ذلك، ورد جميع الروايات التي زعمت ذلك، وبين أنها جميعًا لا تصح([2]).
فهذه القصة لا تثبت بطريق واحد، فضلًا عن مخالفتها للثابت في صحيح البخاري من أن وحشيًّا كان عبدًا عند جبير بن مطعم ولم يكن عبدًا عندها حتى تأمره بقتل حمزة! ففي صحيح البخاري أن وحشيًّا قال: «فَقَالَ لِي مَوْلَايَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: إِنْ قَتَلْتَ حَمْزَةَ بِعَمِّي فَأَنْتَ حُرٌّ...»([3]).
ولذلك اختلف أهل العلم، فذكر بعضهم أن الذي مثَّل بحمزة رجل آخر، قال ابن الأثير: «وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَهُو الَّذِي جَدَعَ أَنْفَ حَمْزَةَ وَمَثَّلَ بِهِ مَعَ مَنْ مَثَّلَ بِهِ»([4]).
لو تنزلنا جدلًا وقلنا بذلك، لما كان فيه مطعن قط على هند؛ إذ إنها فعلت قبل إسلامها ما هو أعظم جرمًا وإثمًا كما فعل غيرها، وهو الشرك بالله تعالى، وباتفاق الكل فإن المشرك والكافر إذا أسلم فإنه لا يُعيّر بكفره ولا بشركه؛ لأن مَن تاب تاب الله عليه، قال تعالى: [ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ] {الفرقان: 68-71}.
فإذا كان لا يجوز التعيير بالكفر والشرك الحاصل قبل الإسلام، فما هو أدنى منه من بابٍ أولى!
لو جاز ذلك التعيير بالأم([5]) لجاز لنا أن نعير أئمة الشيعة بأمهاتهم؛ إذ كان سبعة من أئمة الشيعة أمهاتهم إماء، وهم: علي بن الحسين، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي.
والأمَةُ يُطلق عليها بغِي، فهل ستقول الشيعة على أئمتهم إنهم أبناء بغايا؟! قال علي آل محسن: «العبارة الواردة في الحديث هي: (إن الناس كلَّهم أولاد بغايا ما خلا شيعتنا)، وليس في الحديث أن الناس أولاد زنًا، فراجعه، والفرق بين كونهم أولاد زنًا وأولاد بغايا، أن أولاد الزنا هم الذين تولَّدوا من زنًا، وأما إذا كانت أمهاتهم بغايا فلا يلزم أن يكون تولُّدهم من الزنا؛ إذ يمكن أن يولدوا من بغايا ولكن بنكاح صحيح، ولو سلَّمنا بصحة الحديث فلعل المراد بالبغايا الإماء، فإن الأمة يُطلق عليها بَغِي، سواء أكانت فاجرة أم لا»([6]).
فهذا الشيعي حتى ينفي اتهام الشيعة لجميع الناس بتولدهم من الزنا، اتهمهم أمهاتهم بأنهن بغايا، ثم قال بأنه يجوز أن يكون أبناء بغايا بمعنى الإماء، فيلزم على قوله أن يقال إن الأئمة هؤلاء عند الشيعة أبناء بغايا! هذا فضلًا عن وجود شيعة كثر أبناء إماء، وعندها فلا فائدة في الحديث للحصر بقوله: «ما خلا شيعتنا».
وهل يجوز لنا أن نعير زوجة الإمام الحسين وأم الإمام زين العابدين لأنها قد انتحرت؟! قال ابن شهرآشوب: «شَهْرَبَانُويَهْ، فَإِنَّهَا أَتْلَفَتْ نَفْسَهَا فِي الْفُرَاتِ»([7]).
لقد قبل النبي ق توبة وحشي قاتل حمزة! قال الحائري: «لمّا كثرت انتصارات الإسلام أراد وحشي أن يسلم، لكنّه كان يخشى عدم قبول إسلامه، فنزلت الآية، فأسلم، وقال له رسول الله: «كيف قتلت عمّي حمزة؟» فذكر وحشي قِصّة قتله لحمزة، فبكى رسول الله بكاءً شديدًا، وقَبِل توبته، ولكنَّه قال له: غيِّب وجهك عنّي، فإنّي لا أستطيع النظر إليك، فلحق بالشام، فمات في أرض تُسمّى بالخمر»([8]).
بل وعفى النبي ق عنه، يقول ناصر مكارم الشيرازي: «الذي نلاحظه في تاريخنا الإسلامي، هو أنَّ النبي ص قد عفا عن أخطر المجرمين من أمثال «وحشي» الذي قتل «حمزة بن عبد المطلب» عم النبي ص وقبل النبي توبته»([9]).
وقال نعمة الله الجزائري: «ألا ترى إلى الوحشي وهو قاتل الحمزة، لمّا ظهرت منه أمارات التوبة والنّدامة قَبِل الله توبته، وقال: حمزة وقاتله في الجنة»([10]).
فإذا كان الله تعالى قد قَبِل توبة وحشي قاتل حمزة، فما ظننا بمن لم يثبت عنها ما زعموه، بل ثبت عنها محبة النبي ق وأهل بيته؟!
([1]) ما شاع ولم يثبت في السيرة النبوية، محمد بن عبد الله العوشن (1/147، 150).
([2]) شبهات عن بني أمية، سيد الشحات (ص٣٠٢، ٣٠٨).
([3]) صحيح البخاري (5/100).
([4]) الكامل في التاريخ، ابن الأثير (2/53).
([5]) وهو محرم في الشيعة الغراء، جاء في صحيح البخاري عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: «لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ ق: «يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ...». صحيح البخاري (1/15).
([6]) لله وللحقيقة (رد على كتاب لله ثم للتاريخ)، علي آل محسن (ص٤٨٧).
([7]) المناقب، ابن شهرآشوب (4/112)، العوالم، عبد الله البحراني (ص307).
([8]) تزكية النفس، السيد كاظم الحائري (1/257).
([9]) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ناصر مكارم الشيرازي (3/389).
([10]) الأنوار النعمانية، نعمة الله الجزائري (3/74).