هذه الدعوى السخيفة التي خالفت إجماع الأمة، وتواتر نقلها جيلًا بعد جيل، ما هي إلا دَعْوَى كَاذِبَة لَا دَلِيل على صِحَّتهَا، لَا من كتاب ولا سنة صَحِيحَة وَلَا سقيمة، وَلَا من إِجْمَاع، وَلَا من قَول صَاحب، وَلَا من حجَّة عقل، وَلَا قَالَ بِهَذَا أحد قطُّ قبل هَذَا الْفرْقَة الغوية، وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ فِي غَايَة السُّقُوط والهجنة، قَالَ الله D: [ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ] {النمل:64}.
بل إن الكتاب والسنة يرُدَّان تلك الفرية بأبلغ بيان، قال تعالى: [ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ] {الأحزاب:59}.
فهنا فَصَل بين نساء المؤمنين وبناته ق فثبت أن المقصود بناته ق من صلبه، ولو كان لرسول الله بنتًا واحدة لجاء التعبير في الآية الكريمة بصيغة الإفراد «بنتك».
-
- استشكال وجوابه:
وقد تعللت الشيعة في كتبهم ومواقعهم أن الجمع في الآية يراد به المفرد، مستدلين على ذلك بآية المباهلة وأن لفظة «نساءنا» قصد بها فاطمة([1])، وهو جمع أُريد به الإفراد.
الجواب:
أولًا: إرادة المفرد بالجمع في اللغة هو خلاف الأصل، ولا بد من قرينة تدل على إرادة المفرد إما قبله أو بعده، بل حتى رب العالمين -تبارك اسمه- إذا تكلم عن نفسه بصيغة الجمع فإن الكلام يشتمل على هذه القرينة.
يقول الدكتور فاضل السامرائي: «في كل مقام تعظيم لا بد أن يسبقه أو يأتي بعده ما يدل على الإفراد في القرآن كله، لا تجد مكانًا للتعظيم إلا وسبقه أو جاء بعده ما يدل على الإفراد: [ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ] {القدر:1} هذه تعظيم ثم يقول بعدها: [ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ] {القدر:4} رب واحد إفراد ما قال: بأمرنا، لو قرأنا في سورة النبأ: [ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ] {النبأ:6-10} ثم قال: [ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ] {النبأ:36} بعد كل جمع تعظيم إفراد»([2]) وآية المباهلة لم يسبقها ولم يعقبها ما يدل على الإفراد.
ثانيًا: المباهلة لم تكن عليه ق وحده ولا على نسائه ق فقط، بل كانت على المسلمين كذلك، يقول أبو حيان الأندلسي: «الْمُبَاهَلَةُ كَانَتْ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ، بِدَلِيلِ ظَاهِرِ قَوْلِهِ: [ﯫ ﯬ ﯭ ] {آل عمران:61} عَلَى الْجَمْعِ، ولما دعاهم دعا بأهل الَّذِينَ فِي حَوْزَتِهِ، وَلَوْ عَزَمَ نَصَارَى نَجْرَانَ عَلَى المباهلة وجاؤوا لَهَا، لَأَمَرَ النَّبِيُّ ق الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَخْرُجُوا بِأَهَالِيهِمْ لِمُبَاهَلَتِهِ»([3]).
ثالثًا: إن ابن هشام الذي يروي خبر ما كان بين النبي ووفد نجران بالتفصيل ويورد آيات سورة آل عمران في سياق ذلك لم يذكر أن النبي ق استعد للمباهلة فعلًا، كما لم يذكر أنه أخذ فاطمة وعليًّا والحسن والحسين ي للمباهلة، وكل ما ذكره أن النبي ق «دعاهم إلى المباهلة، فاستمهلوه لينظروا في الأمر، ثم غدوا فقالوا له: رأينا يا أبا القاسم أن لا نلاعنك»([4]).
رابعًا: غاية الخطاب جمع المؤمنين رجالًا ونساءً وصغارًا، يقول محمد رشيد رضا: «فَإِنَّ كَلِمَةَ [ﯮ ] {آل عمران:61} لَا يَقُولُهَا الْعَرَبِيُّ وَيُرِيدُ بِهَا بِنْتَهُ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ لَهُ أَزْوَاجٌ، وَلَا يُفْهَمُ هَذَا مِنْ لُغَتِهِمْ، وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُرَادَ بِأَنْفُسِنَا عَلِيٌّ عَلَيْهِ الرِّضْوَانُ، ثُمَّ إِنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ نِسَاؤُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ، وَكُلُّ مَا يُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ أَمْرُ النَّبِيِّ ق أَنْ يَدْعُوا الْمُحَاجِّينَ وَالْمُجَادِلِينَ فِي عِيسَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى الِاجْتِمَاعِ رِجَالًا وَنِسَاءً وَأَطْفَالًا، وَيَجْمَعُ هُوَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالًا وَنِسَاءً وَأَطْفَالًا»([5]).
الشيعة في هذا الادعاء خالفوا الأئمة من أهل البيت الذين جاء على لسانهم روايات تثبت وجود بنات للنبي ق لا واحدة، فقد أخرج الكليني عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله S قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله أبا بنات»([6]).
وعن أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَحَدِهِمَا R قَالَ: «لَمَّا مَاتَتْ رُقَيَّةُ ابْنَةُ رَسُولِ اللهِ ص، قَالَ رَسُولُ اللهِ ص: الْحَقِي بِسَلَفِنَا الصَّالِحِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَأَصْحَابِهِ...»([7])
وعن أبي مريم ذكره عن أبيه: «أن أمامة بنت أبي العاص وأمها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وكانت تحت علي بن أبي طالب S بعد فاطمة P...»([8]).
وفي قرب الإسناد قال: عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: «ولد لرسول الله صلى الله عليه وآله من خديجة القاسم، والطاهر، وأم كلثوم، ورقية، وفاطمة، وزينب..، وتزوَّج عثمان بن عفان أم كلثوم ولم يدخل بها حتى هلكت، وزوَّجه رسول الله صلى الله عليه وآله مكانها رقية»([9]).
وعند الصدوق في الخصال قال: «وَتَزَوَّجَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ أُمَّ كُلْثُومٍ فَمَاتَتْ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَلَمَّا سَارُوا إِلَى بَدْرٍ زَوَّجَهُ رَسُولُ اللهِ ص رُقَيَّة»([10]).
فكل هذه روايات احتج بها وصححها علماء الشيعة عن أئمتهم، فضلًا عن روايات كثيرة غير ما ذكرناه.
أقر أكثر علماء الشيعة بأن النبي ق كان عنده بنات غير فاطمة، وأن عثمان تزوج من ابنتين له ق وهذا بعض بيانه:
1- يقول المفيد: «وقد زوَّج رسولُ الله ص ابنتيه قبل البعثة كافرين كانا يعبدان الأصنام، أحدهما: عتبة بن أبي لهب، والآخر: أبو العاص بن الربيع، فلما بُعث ص فرَّق بينهما وبين ابنتيه، فمات عتبة على الكفر، وأسلم أبو العاص بعد إبانة الإسلام، فردَّها عليه بالنكاح الأول، ولم يكن ص في حال من الأحوال مواليًا لأهل الكفر، وقد زوَّج من تبرأ من دينه وهو معادٍ له في الله D، وهاتان البنتان هما اللتان تزوَّجهما عثمانُ بن عفان بعد هلاك عتبة وموت أبي العاص»([11]).
2- قال الكليني في الكافي في باب «مولد النبي ووفاته» ما نصه: «وَتَزَوَّجَ خَدِيجَةَ وَهُوَ ابْنُ بِضْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَوُلِدَ لَهُ مِنْهَا قَبْلَ مَبْعَثِهِ الْقَاسِمُ، وَرُقَيَّةُ، وَزَيْنَبُ، وَأُمُ كُلْثُومٍ، وَوُلِدَ لَهُ بَعْدَ الْمَبْعَثِ الطَّيِّبُ، وَالطَاهِرُ، وَفَاطِمَةُ»([12]).
3- سألَ النوبختيَّ السفيرَ الثالث للإمام المهدي بعضُ المتكلّمين -تُركٌ الهرويّ- فقال له: «كم بنات رسول الله ص؟ فقال: أربع...»([13]).
4- وقال شيخ الطائفة الطوسي: «ولأنه S زوَّج بناته، زوَّج فاطمة P عليًّا وهو أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه)، وأمها خديجة أم المؤمنين، وزوَّج بنتيه رقية وأم كلثوم عثمان، لما ماتت الثانية، قال لو كانت ثالثة لزوَّجناه إياها»([14]).
5- وهذا الشهيد الثاني يقول: «فقد زوَّج رسول الله (ص) فاطمة بعلي R، وأختيها رقيّة وأم كلثوم بعثمان»([15]).
وبمثله قال الحلي([16])، وابن شهر آشوب([17])، والطبرسي([18])، والخوئي([19])، والشيرازي([20])، والسبحاني([21])... وغيرهم.
أول من اخترع تلك الفكرة -عدم وجود بنات للنبي ق إلا فاطمة- هو أبو القاسم الكوفي في كتابه «الاستغاثة» فقال: «أما ما روت العامة من تزويج رسول الله عثمان بن عفان رقية وزينب، فالتزويج صحيح غير متنازع فيه، إنما التنازع بيننا وقع في رقية وزينب، هل هما ابنتا رسول الله أم ليستا ابنتيه؟... إنَّ رقية وزينب زوجتَيْ عثمان لم تكونا ابنتي رسول الله، ولا ولد خديجة زوجة رسول الله، وإنما دخلت الشبهة على العوام فيهما؛ لقلة معرفتهم بالأنساب وفهمهم بالأسباب...»([22]).
ومن المضحكات أن أبا القاسم الكوفي هذا قد اختلف علماء الأنساب الشيعة في نسبه، يقول حسين الساعدي: «نسبه مختلف فيه، فتارةً يُنسب إلى علي بن أحمد بن موسى بن أحمد بن هارون بن الإمام الكاظم S، وأُخرى إلى أحمد بن موسى بن محمّد الجواد S، وإن علماء الأنساب يشكّون في نسبه، كما قال النجاشي: «كان يقول: إنّه من آل أبي طالب»، وكما تقدّم عن صاحب المجدي العلوي، ولم أقف في الأنساب على ما يثبت أنّه علوي من هارون بن موسى الكاظم S ومن أحفاد موسى المبرقع، فهو مُدَّعِي النسب العلوي الشريف وصاحب بدعة»([23]).
كما أنه عندهم معدود في الضعفاء والغلاة أصحاب المذاهب الفاسدة، قال النجاشي: «أبو القاسم الكوفي، رجل من أهل الكوفة كان يقول: إنه من آل أبي طالب، وغلا في آخر أمره وفسد مذهبه، وصنَّف كتبًا كثيرة أكثرها على الفساد»([24]).
وقال ابن الغضائري: «علي بن أحمد، أبو القاسم، الكوفيّ، المدّعي العلويّة، كذَّاب، غالٍ، صاحب بدعة ومقالة. رأيت له كتبًا كثيرة، لا يُلتفت إليه»([25]).
وذكره صاحب الخلاصة المختص بالضعفاء في القسم الثاني من الكتاب، وابن داوود الحلّي في الجزء الثاني من رجاله المختص بالمجروحين والمجهولين، والجزائري في القسم الرابع من رجاله المختص برواة الضعاف، ومحمّد طه نجف في القسم الثالث من رجاله المختص بالضعفاء([26]).
وعليه فيكفي الشيعة عارًا أن هذه العقيدة التي صارت في هذا الزمان غالبة على كثير منهم قد أخذوها من رجل هذا حاله عندهم!
وهنا يقول الشيعي ياسر الخبيث في موقعه الإلكتروني بعد تقريره أن رقية وأم كلثوم بنات النبي ق على الحقيقة لا ربائب ما نصه: «ولو كانت الحقيقة خلاف ذلك لوصلت إلينا ولو رواية واحدة عن الأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم) تبين الحقيقة، كما حصل في شأن سبب نزول [ﭑ ﭒ] {عبس} والمعني بها،..، وبهذا المعيار؛ فمع ملاحظة أن اشتهار كونهما R من بناته (ص) لم يكن وليد عصر متأخر، بل كان على مر العصور بما في ذلك عصور الأئمة الطاهرين (عليهم الصلاة والسلام)؛ فإنه لا يُعقل أن لا تصلنا رواية صريحة واحدة تنفي ذلك وتوضح الحقيقة وتكشفها، وما وصلنا نفيا ليس إلا أقوال بعض الرجال.
وأتذكر أنني قبل سنوات حققت في الأمر فوجدت أن أقدم الأقوال إنما يرجع إلى صاحب الاستغاثة ابن أبي القاسم الكوفي، وهو ليس بالذي يعوّل عليه كثيرًا في أمثال هذه المواقف، سيما مع ورود بعض المطاعن فيه في كتب الرجال»([27]).
([1]) أجوبة مسائل جيش الصحابة، علي الكوراني العاملي (ص٧٢).
([2]) لمسات بيانية في نصوص من التنزيل، محاضرات فاضل صالح السامرائي (ص١٠٨٠).
([3]) البحر المحيط في التفسير، أبو حيان الأندلسي (3/188).
([4]) التفسير الحديث (7/160).
([5]) تفسير المنار (3/265).
([6]) الكافي (6/5)، وحسنه المجلسي في المرآة (21/11).
([7]) الكافي، الكليني (5/594) ط دار الحديث، ووثقه المجلسي الأول في الروضة (1/488).
([8]) تهذيب الأحكام، شيخ الطائفة (9/241)، وقال المجلسي في ملاذ الأخبار: «موثق» (15/180).
([9]) قرب الإسناد، الحميري القمي (ص٤٥).
([10]) الخصال، الصدوق (2/404).
([11]) المسائل السروية، المفيد (ص92 – ٩٤).
([12]) الكافي، الكليني (2/436) ط دار الحديث.
([13]) الغيبة، الطوسي (1/388)، مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب (3/105) ط المكتبة الحيدرية، معجم طبقات المتكلمين، اللجنة العلمية في مؤسسة الإمام الصادق (2/99).
([14]) المبسوط في فقه الإمامية، الطوسي (4/159).
([15]) مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، الشهيد الثاني (7/81).
([16]) العدد القوية، الحلي (1/144).
([17]) مناقب آل أبي طالب (1/140)
([18]) إعلام الورى بأعلام الهدى، الطبرسي (1/276).
([19]) بحار الأنوار، المجلسي (22/153)، صراط النجاة، الخوئي، تعليق الميرزا التبريزي (١٠/٤٢٥).
([20]) أمهات المعصومين (ص89).
([21]) سيد المرسلين، السبحاني (١/278).
([22]) الاستغاثة في بدع الثلاثة (1/64).
([23]) الضعفاء من رجال الحديث، حسين الساعدي (2/373).
([24]) رجال النجاشي (1/265).
([25]) الرجال، ابن الغضائري (1/82).
([26]) الضعفاء من رجال الحديث (2/375).
([27]) انظر موقع: http://al-qatrah. net/an213