إن سَلَّمنا جدلًا أن عثمان كتم العلم لأجل رواية حدث بها وبلَّغها الأمة -إن صحت- فهذا علي بن أبي طالب في دين الشيعة كتم كتاب الله كاملًا وأخفاه عن الصحابة والأمة بأسرها!
يقول الجزائري: «وقد كانوا -أي الصحابة من كُتاب الوحي- في الأغلب ما يكتبون إلا ما يتعلق بالأحكام، وإلا ما يوحى إليه في المحافل والمجامع، وأما الذي كان يكتب ما ينزل في خلواته ومنازله فليس هو إلا أمير المؤمنين S؛ لأنه (ع) كان يدور معه كيفما دار، فكان مصحفه أجمع من غيره من المصاحف، ولما مضى (ص) إلى لقاء حبيبه وتفرقت الأهواء بعده، جمع أمير المؤمنين القرآن كما أُنزل وشده بردائه وأتى به إلى المسجد وفيه الأعرابيان وأعيان الصحابة، فقال (ع) لهم: هذا كتاب ربكم كما أُنزل، فقال له الأعرابي الجلف: ليس لنا فيه حاجة هذا، عندنا مصحف عثمان، فقال S: لن تروه ولن يراه أحد حتى يظهر ولدي صاحب الزمان، فيحمل الناس على تلاوته والعمل بأحكامه، ويرفع الله سبحانه هذا المصحف إلى السماء، ولما خلف ذلك الأعرابي احتال في استخراج ذلك المصحف ليحرقه كما أحرق مصحف ابن مسعود، فطلبه من أمير المؤمنين (ع) فأبى، وهذا القرآن عند الأئمة Q يتلونه في خلواتهم، وربما أطلعوا عليه بعض خواصهم»([1]).
-
- التقيّة موجبة للعمل بخلاف الدين والشريعة
إن التقيَّة التي قالت بها الشيعة واعتقدت فيها تقتضي العمل بخلاف الدين والشريعة، وعدم إظهار الأحكام الشرعية، والتعبد لله بالباطل، فاقتضى ذلك إخفاء الأحكام الشرعية وكتمانها!
قال الشريف المرتضى: «وأما إقراره S أحكام القوم لما صار الأمر إليه فالسبب فيه واضح، وهو أن استمرار التقية في الأيام المتقدمة باقٍ وما زال ولا حال، وإنما أفضت الخلافة إليه بالاسم دون المعنى»([2]).
وقال مرتضى العسكري بعدما ساق عدة روايات: «تدلنا هذه الروايات أن الإمام عليًّا لم يغير شيئًا مما فعلوه قبله في الخُمس وتركة الرسول، ولم يكن ليستطيع أن يغير شيئًا»([3]).
وقال محمد إسحاق الفياض: «أمير المؤمنين (ع) لا يقدر على تغيير ما صنعه الخلفاء قبله»([4]).
وقال محمد باقر الحسيني الجلالي: «ولم يكن باستطاعة الإمام علي S أن يغير شيئًا مما سنَّه الرجلان»([5]).
-
- أئمة الشيعة كتموا الدين بأسره
بل إن الذي كتم العلم حقيقة ومنع الدين هم أئمة الشيعة، فقد روى الكليني بسنده عن أبِي عَبْدِ اللهِ قال: «... ثُمَّ كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ أَبُو جَعْفَرٍ، وكَانَتِ الشِّيعَةُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ أَبُو جَعْفَرٍ وهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَنَاسِكَ حَجِّهِمْ وحَلَالَهُمْ وحَرَامَهُمْ، حَتَّى كَانَ أَبُو جَعْفَرٍ، فَفَتَحَ لَهُمْ وبَيَّنَ لَهُمْ مَنَاسِكَ حَجِّهِمْ وحَلَالَهُمْ وحَرَامَهُمْ»([6]).
فهذا علي والحسنان والسجاد كتموا دين الله وسنة نبيه S عن شيعتهم! بل جعلت الرافضة كتمان الدين بأسره دينًا يُتعبد به لله D، فروى الكليني في الكافي عن سليمان بن خالد قال: قال أبو عبد الله: «يا سليمان، إنكم على دين من كتمه أعزَّه الله، ومن أذاعه أذلَّه الله»([7]).
-
- جابر بن يزيد الجعفي يخفي سبعين ألف حديث!
وهذا جابر الجعفي يكتم سبعين ألف حديث عن الأمة، وكل هذا بأمر المعصوم! يقول الجزائري: «روي عن جابر بن يزيد الجعفي قال: حدثني أبو جعفر سبعين ألف حديث لم أحدث بها أحدًا ولن أحدث بها أحدًا أبدًا، قال جابر: قلت لأبي جعفر: جعلت فداك، إنك قد حمّلتني وقرًا عظيمًا بما حدثتني به من سركم الذي لا أحدث به أحدًا، فربما جاش في صدري حتى يأخذني منه شبه الجنون، فقال: يا جابر، إذا كان كذلك فاخرج إلى الجبانة فاحفر حفيرة ودلِّ رأسك فيها، ثم قل: حدّثني محمد بن علي بكذا وكذا؛ فإن الأرض تحمل حديثنا، فإذا كانت القلوب لا تطيق حمل العلوم مع كونها لذة محضة، فكيف تطيق حمل أثقال الهموم والغموم التي صرعت مثل أمير المؤمنين في قوله: صارعني الفقر فغلبني؟»([8]).
فهؤلاء أولى باللعن والطعن من أصحاب النبي ق، وهم أولى بقوله تعالى: [ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ] {البقرة:159}.
الرواية المذكورة رواها ابن ماجه (2766) عن هشام بن عمار، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن مصعب بن ثابت، عن عبد الله بن الزبير، عن عثمان فذكره، وعبد الرحمن بن زيد ضعيف([9])، وعليه فهي ضعيفة بأبي صالح.
وعلى فرض صحتها([10]) فلا إشكال فيها، وذلك أن الحديث يجوز كتمانه إذا كان لمصلحة مؤقتة، بشرط ألَّا يترتب عليه ضياع شيء من الشريعة، وقد كتمت فاطمة حديث رسول الله ق لها ثم أفشته بعد وفاته ق، ففي صحيح البخاري عَنْ عَائِشَةَ ل قَالَتْ: «أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مَشْيُ النَّبِيِّ ق، فَقَالَ النَّبِيُّ ق: مَرْحَبًا بِابْنَتِي، ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَبَكَتْ، فَقُلْتُ لَهَا: لِمَ تَبْكِينَ؟ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَضَحِكَتْ، فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ فَرَحًا أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ، فَسَأَلْتُهَا عَمَّا قَالَ، فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللهِ ق، حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ ق فَسَأَلْتُهَا، فَقَالَتْ: أَسَرَّ إِلَيَّ إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي الْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً وَإِنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلَا أُرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجَلِي، وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لَحَاقًا بِي فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، أَوْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ»([11]).
وقد كتم علي بن أبي طالب حديثًا في زمان أبي بكر وعمر، ثم بلغه للناس بعد وفاتهما، فعنْ ذَرٍّ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «إِنِّي لَجَالِسٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ ق لَيْسَ مَعَنَا أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ؛ إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ ب يَمْشِيَانِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا آخِذٌ بِيَدِ صَاحِبِهِ، فَقَالَ لِي: «هَذَانِ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، إِلَّا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، لَا تُخْبِرْهُمَا يَا عَلِيُّ» فَمَا أَخْبَرْتُهُمَا، وَلَوْ كَانَا حَيَّيْنِ مَا حَدَّثْتُ بِهِ»([12]).
ولعل من فوائد كتمان علي بن أبي طالب لهذا الحديث والتحديث به بعد وفاة أبي بكر وعمر أن يكون ذلك أبلغ في الحجة على الروافض على أعدائهما ومبغضيهما ومنتقصي قدرهما، فإنه لو حدث به في حياتهما لقالوا: حدث به علي تقيّة منهما، أو مداهنة لهما.
فالشاهد أن الكتمان المؤقت ثم إفشاء الحديث من الحكمة التي يعرفها أهل العلم، أما الكتمان الكامل لشيء من الشريعة كما مر من حال الرافضة وأئمتهم فغير جائز بحال.
ومن مسوغات كتمان الحديث خشية الراوي من سوء الفهم، فيترك العمل بشيء لأجل شيء آخر.
فعَنْ مُعَاذٍ ا قَالَ: «كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ ق عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ: عُفَيْرٌ فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟» قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا»([13]).
وقد بوب البخاري على حديث معاذ بقوله: «بَابُ مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَنْ لَا يَفْهَمُوا»([14])، فهنا يمكن أن يُقال في حديث عثمان: إنه خشي إذا حدَّث الناس عن فضل رباط يوم في سبيل الله أن يفهم الناس منه أن الأفضل هو ترك مدينة رسول الله ق ليرابطوا جميعهم على الثغور طلبًا للأجر، فتترك الصلاة في مسجد رسول الله ق التي هي بألف صلاة فيما سواه، أو تترك الصلاة في المسجد الحرام التي هي بمائة ألف، لكنه خشي الإثم من كتمان العلم فأخبر بها كما أخبر معاذ في الحديث الآنف ذكره.
([1]) منبع الحياة وحجية قول المجتهد من الأموات، نعمة الله الجزائري (1/66).
([2]) الذخيرة في علم الكلام (ص478).
([3]) معالم المدرستين (2/158).
([5]) فدك والعوالي - الحوائط السبعة في الكتاب والسنة والتاريخ والأدب (1/450).
([6]) الكافي، الكليني (2/19 – 21), وقال المجلسي عن الرواية في مرآة العقول: «صحيح بسنديه» (7/108).
([7]) الكافي، الكليني (2/222).
([8]) الأنوار النعمانية (3/236).
([9]) المجروحين، ابن حبان (2/57) وقال: «كَانَ مِمَّن يقلب الْأَخْبَار وَهُوَ لَا يعلم حَتَّى كثر ذَلِك فِي رِوَايَته من رفع الْمَرَاسِيل وَإسْنَاد الْمَوْقُوف فَاسْتحقَّ التّرْك».
([10]) الحديث الذي اعتمدوا عليه حسَّنه بعض أهل العلم، ومنهم محققو المسند، ط الرسالة، وقد تكلم البعض في ضعفه، يقول ضياء الأعظمي: «قلت: في إسناده أبو صالح مولى عثمان لم يخرج له مسلم، إنما روى له الترمذي والنسائي فقط، واسمه الحارث، ويقال: بُركان بالباء الموحدة».
قال العجلي في ثقاته (ص 501): «روى عنه زهرة بن معبد وأهل مصر ثقة»، وذكره ابن حبان في ثقاته (4/84)؛ لذا قال ابن حجر: «مقبول» أي عند المتابعة.
وله متابع إلا أنه لا يفيد في التقوية، وهو ما رواه أحمد (433، 463)، وابن أبي عاصم في الجهاد (151) من طرق عن كَهْمَس بن الحسن، عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، عن عثمان بلفظ: «حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها».
إلا أن مصعب بن ثابت لين الحديث، ثم إنه لم يدرك عثمان؛ فإنه ولد بعد مقتل عثمان بنحو خمسين سنة.
ورواه بعضهم عن كَهْمَس بن الحسن، عن مصعب بن ثابت، عن عبد الله بن الزبير، عن عثمان بن عفان، رواه ابن أبي عاصم في الجهاد (150)، والحاكم (2/81)، وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه».
قلت: فيه علل منها:
1- مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير لين الحديث.
2- مصعب هذا لم يدرك جده عبد الله بن الزبير، فإن عبد الله بن الزبير قُتل سنة ثلاث وسبعين، ووُلد مصعب بن ثابت سنة أربع وثمانين، وتُوفي سنة سبع وخمسين ومائة وهو ابن ثلاث وسبعين سنة؛ ولذا جعل المزي روايته عن جده مرسلة.
3- اختلف فيه على كهمس، وقد ساق الدارقطني الاختلاف على كهمس، وعلى الرواة عنه، ثم رجح الوجه الذي ليس فيه ذكر عبد الله بن الزبير وقال: وهو المحفوظ«. انظر: علل الدارقطني (3/36 - 37) وهذا الوجه المحفوظ فيه علتان كما سبق بيانه.
«ورواه ابن ماجه (2766) عن هشام بن عمار، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن مصعب بن ثابت، عن عبد الله بن الزبير، عن عثمان فدكره، وعبد الرحمن بن زيد ضعيف». الجامع الكامل في الحديث الصحيح الشامل المرتب على أبواب الفقه (7/198).
وعليه فالرواية ضعيفة بأبي صالح.
([11]) صحيح البخاري (4/204) ط السلطانية.
([12]) الكنى والأسماء، الدولابي (3/962)، وأخرجه أبو بكر الشافعي في الغيلانيات (3) (4) (5) (6) من طريق عاصم به، وأخرجه الترمذي (3665، 3666)، وابن ماجه (95)، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/80)، والبزار (828) إلى (833)، وأبو بكر الشافعي (1) (2) (7) إلى (18) من طُرق عن علي به، وقد حسَّنه أهل العلم، منهم: الضياء الأعظمي في الجامع الكامل في الحديث الصحيح الشامل المرتب على أبواب الفقه (9/117)، والشيخ الألباني في السلسلة (2/468).
([13]) صحيح البخاري (4/29) ط السلطانية، صحيح مسلم (1/58) ت عبد الباقي.
([14]) صحيح البخاري (1/37) ط السلطانية.