جميع الروايات التي ذكرت أن عثمان لم يُقِمِ الحدَّ على الوليد لا تصح، وما نقله الأميني فهو إما ساقط بإرسال الزهري كما في الرواية الأولى، أو من طريق مطرٍ الوراق، وأكثر العلماء على تضعيفِه، قال الشيخ الألباني في روايةٍ فيها مطر: «وهذا إسناد ضعيف؛ لضعف مطرٍ الوراق، قال الحافظ: صدوق كثير الخطأ، وحديثه عن عطاء ضعيف.
قلت: ولذلك لم يحتج به الشيخان، وإنما أخرج له البخاري تعليقًا، ومسلم مقرونًا»([1]).
هذا فضلًا عن الانقطاع؛ فمطرٌ الوراق لم يدرك الحادثةَ في زمان عثمان، قال الذهبي: «تُوُفِّيَ مَطَرٌ الوَرَّاقُ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِيْنَ وَمائَةٍ»([2]).
ثبت أن عثمان قد أقام الحد على الوليد بن عقبة، كما أخرج مسلم في صحيحه من حديث حُضَيْنِ بْنِ الْمُنْذِرِ أَبِي سَاسَانَ قَالَ: «شَهِدْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ، وَأُتِيَ بِالْوَلِيدِ قَدْ صَلَّى الصُّبْحَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: أَزِيدُكُمْ؟ فَشَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا حُمْرَانُ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْرَ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّأُ، فَقَالَ عُثْمَانُ: إِنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْ حَتَّى شَرِبَهَا، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ، قُمْ فَاجْلِدْهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: قُمْ يَا حَسَنُ فَاجْلِدْهُ، فَقَالَ الْحَسَنُ: وَلِّ حَارَّهَا مَنْ تَوَلَّى قَارَّهَا (فَكَأَنَّهُ وَجَدَ عَلَيْهِ)، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ جَعْفَرٍ، قُمْ فَاجْلِدْهُ، فَجَلَدَهُ، وَعَلِيٌّ يَعُدُّ حَتَّى بَلَغَ أَرْبَعِينَ، فَقَالَ: أَمْسِكْ، ثُمَّ قَالَ: جَلَدَ النَّبِيُّ ق أَرْبَعِينَ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، وَعُمَرُ ثَمَانِينَ، وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ»([3]).
مع أن الشهود على الوليد لم يكونوا إلا مجرد موتورين([4]).
إن ما نقله الأميني عن الحافظ ابن حجر من قوله: «وَكَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ فِيمَا فَعَلَ بِهِ، أَيْ: مِنْ تَرْكِهِ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ»([5]).
فنقول: إن فعل الأميني لهو من أسوأ الأفعال وأخسِّها؛ إذ إنه قد استغل طول المقام في كلام الحافظ ابن حجر فأخذ هذه الفقرة وترك تتمة كلام الحافظ الذي أجاب فيه عنها، وهذا تمام كلامه: «وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ وَكَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ فِيمَا فَعَلَ بِهِ أَيْ مِنْ تَرْكِهِ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ...، ووَلَّى الْوَلِيدَ لِمَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ كِفَايَتِهِ لِذَلِكَ وَلِيَصِلَ رَحِمَهُ، فَلَمَّا ظَهَرَ لَهُ سُوءُ سِيرَتِهِ عَزَلَهُ، وَإِنَّمَا أَخَّرَ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ لِيَكْشِفَ عَنْ حَالِ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ، فَلَمَّا وَضَحَ لَهُ الْأَمْرُ أَمَرَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَرَوَى الْمَدَائِنِيُّ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عُثْمَانَ لَمَّا شَهِدُوا عِنْدَهُ عَلَى الْوَلِيدِ حَبَسَهُ»([6]).
إذًا فالمفهوم من كلام ابن حجر أن الناس قد تَقَوَّلَت على عثمان بن عفان بغير حق؛ حيث تأنَّى في إنفاذ الحُكم عليه لينظر في حال الشهود، ورواية البخاري تشهد له بذلك، ففي الصحيح عن عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ عَدِيِّ بْنِ الخِيَارِ، أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ قَالَا لَهُ: «مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُكَلِّمَ خَالَكَ عُثْمَانَ فِي أَخِيهِ الوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ؟ وَكَانَ أَكْثَرَ النَّاسُ فِيمَا فَعَلَ بِهِ، قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: فَانْتَصَبْتُ لِعُثْمَانَ حِينَ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، وَهِيَ نَصِيحَةٌ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَرْءُ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، فَانْصَرَفْتُ، فَلَمَّا قَضَيْتُ الصَّلَاةَ جَلَسْتُ إِلَى المِسْوَرِ وَإِلَى ابْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، فَحَدَّثْتُهُمَا بِالَّذِي قُلْتُ لِعُثْمَانَ وَقَالَ لِي، فَقَالَا: قَدْ قَضَيْتَ الَّذِي كَانَ عَلَيْكَ، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ مَعَهُمَا؛ إِذْ جَاءَنِي رَسُولُ عُثْمَانَ، فَقَالَا لِي: قَدِ ابْتَلَاكَ اللهُ، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا نَصِيحَتُكَ الَّتِي ذَكَرْتَ آنِفًا؟ قَالَ: فَتَشَهَّدْتُ، ثُمَّ قُلْتُ: إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا ق وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الكِتَابَ، وَكُنْتَ مِمَّنِ اسْتَجَابَ لِلهِ وَرَسُولِهِ ق وَآمَنْتَ بِهِ، وَهَاجَرْتَ الهِجْرَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ، وَصَحِبْتَ رَسُولَ اللهِ ق وَرَأَيْتَ هَدْيَهُ، وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ فِي شَأْنِ الوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، فَحَقٌّ عَلَيْكَ أَنْ تُقِيمَ عَلَيْهِ الحَدَّ، فَقَالَ لِي: يَا بْنَ أَخِي، آدْرَكْتَ رَسُولَ اللهِ ق؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، وَلَكِنْ قَدْ خَلَصَ إِلَيَّ مِنْ عِلْمِهِ مَا خَلَصَ إِلَى العَذْرَاءِ فِي سِتْرِهَا، قَالَ: فَتَشَهَّدَ عُثْمَانُ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا ق بِالحَقِّ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الكِتَابَ، وَكُنْتُ مِمَّنِ اسْتَجَابَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ق، وَآمَنْتُ بِمَا بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدٌ ق، وَهَاجَرْتُ الهِجْرَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ، كَمَا قُلْتَ: وَصَحِبْتُ رَسُولَ اللهِ وَبَايَعْتُهُ، وَاللهِ مَا عَصَيْتُهُ وَلَا غَشَشْتُهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ، ثُمَّ اسْتَخْلَفَ اللهُ أَبَا بَكْرٍ، فَوَاللهِ مَا عَصَيْتُهُ وَلَا غَشَشْتُهُ، ثُمَّ اسْتُخْلِفَ عُمَرُ، فَوَاللهِ مَا عَصَيْتُهُ وَلَا غَشَشْتُهُ، ثُمَّ اسْتُخْلِفْتُ، أَفَلَيْسَ لِي عَلَيْكُمْ مِثْلُ الَّذِي كَانَ لَهُمْ عَلَيَّ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَمَا هَذِهِ الأَحَادِيثُ الَّتِي تَبْلُغُنِي عَنْكُمْ؟ فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ شَأْنِ الوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، فَسَنَأْخُذُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللهُ بِالحَقِّ، قَالَ: فَجَلَدَ الوَلِيدَ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً، وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَجْلِدَهُ، وَكَانَ هُوَ يَجْلِدُهُ»([7]).
فهذا رجل تجرأ على عثمانَ ا جرأةً في غير محلها؛ إذ إن عثمان كان في ذلك الوقت يتحرى حال الشهود على الوليد، فلم يكن لهذا الرجل أن ينكر، ولا أن يشيع الحديث بأن عثمان تأخر في إقامة الحد، ورغم ذلك كله سمع نصيحته، وقام بما عليه من الحسبة لما بين للرجل خطأه، فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، ثم أقام الحد على الوليد بن عقبة.
أخرج الطبري في تاريخه تفاصيل حقد الشهود على الوليد، وذلك أنه قد قتل أبناءهم، فساق بسنده عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن مولى لآل طَلْحَة، عن محمد وَطَلْحَةَ قَالا: «كَانَ عُمَر بن الْخَطَّابِ قَدِ استعمل الْوَلِيد بن عُقْبَةَ عَلَى عرب الجزيرة، فنزل فِي بني تغلب، وَكَانَ أَبُو زبيد فِي الْجَاهِلِيَّة والإسلام فِي بني تغلب حَتَّى أسلم، وكانت بنو تغلب أخواله، فاضطهده أخواله دينًا لَهُ، فأخذ لَهُ الْوَلِيد بحقه، فشكرها لَهُ أَبُو زبيد، وانقطع إِلَيْهِ، وغشيه بِالْمَدِينَةِ، فلما ولي الْوَلِيد الْكُوفَة أتاه مسلمًا معظمًا عَلَى مثل مَا كَانَ يأتيه بالجزيرة والمدينة، فنزل دار الضيفان، وآخر قدمة قدمها أَبُو زبيد عَلَى الْوَلِيدِ، وَقَدْ كَانَ ينتجعه ويرجع، وَكَانَ نصرانيًّا قبل ذَلِكَ، فلم يزل الْوَلِيد بِهِ وعنه حَتَّى أسلم فِي آخر إمارة الْوَلِيد، وحسن إسلامه، فاستدخله الْوَلِيد، وَكَانَ عربيًّا شاعرًا حين قام عَلَى الإِسْلام، فأتى آت أبا زينب وأبا مورع وجندبًا، وهم يحقدون لَهُ مذ قتل أبناءَهم، ويضعون لَهُ العيون، فَقَالَ لَهُمْ: هل لكم فِي الْوَلِيدِ يُشَارِبُ أبَا زبيد؟ فثاروا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو زينب وأبو مورع وجندب لأناس من وجوه أهل الْكُوفَة: هَذَا أميركم وأبو زبيد خيرته، وهما عاكفان عَلَى الخمر، فقاموا معهم -ومنزل الْوَلِيد فِي الرحبة مع عمارة بن عُقْبَةَ، وليس عَلَيْهِ باب- فاقتحموا عَلَيْهِ من المسجد وبابه إِلَى الْمَسْجِدِ، فلم يفجأ الْوَلِيد إلا بهم، فنحى شَيْئًا، فأدخله تحت السرير، فأدخل بعضهم يده فأخرجه لا يؤامره، فإذا طبق عَلَيْهِ تفاريق عنب -وإنما نحاه استحياء أن يروا طبقه ليس عَلَيْهِ إلا تفاريق عنب- فقاموا فخرجوا عَلَى الناس، فأقبل بعضهم عَلَى بعض يتلاومون، وسمع الناس بِذَلِكَ، فأقبل الناس عَلَيْهِم يسبونهم ويلعنونهم، ويقولون: أقوام غضب الله لعمله، وبعضهم أرغمه الكتاب، فدعاهم ذَلِكَ إِلَى التحسس والبحث، فستر عَلَيْهِم الْوَلِيد ذَلِكَ، وطواه عن عُثْمَان، ولم يدخل بين الناس فِي ذَلِكَ بشيء، وكره أن يفسد بينهم، فسكت عن ذَلِكَ وصبر»([8]).
ولم تنته محاولات أولئك الموتورين في الطعن على الوليد، بل استمرت حتى شهدوا عليه كذبًا وزورًا بحيلة لئيمة، فقد ساق الطبري تفاصيلها عن مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ أنهما قَالا: «وَأُتِيَ الْوَلِيدُ بِسَاحِرٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ يَسْأَلُهُ عَنْ حَدِّهِ، فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهُ سَاحِرٌ! قَالَ: زَعَمَ هَؤُلاءِ النَّفَرِ-لِنَفَرٍ جَاءُوا بِهِ- أَنَّهُ سَاحِرٌ، قَالَ: وَمَا يُدْرِيكُمْ أَنَّهُ سَاحِرٌ! قَالُوا: يَزْعُمُ ذاك، قَالَ: أَسَاحِرٌ أَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: وَتَدْرِي مَا السِّحْرُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَثَارَ إِلَى حِمَارٍ، فَجَعَلَ يَرْكَبُهُ مِنْ قِبَلِ ذَنَبِهِ، وَيُرِيهِمْ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ وَاسْتِهِ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَاقْتُلْهُ فَانْطَلَقَ الْوَلِيدُ، فَنَادَوْا فِي الْمَسْجِدِ أَنَّ رَجُلا يَلْعَبُ بِالسِّحْرِ عِنْدَ الْوَلِيدِ، فَأَقْبَلُوا، وَأَقْبَلَ جُنْدُبٌ-وَاغْتَنَمَهَا- يَقُولُ: أَيْنَ هُوَ؟ أَيْنَ هُوَ؟ حَتَّى أُرِيَهُ! فَضَرَبَهُ، فَاجْتَمَعَ عَبْدُ اللهِ وَالْوَلِيدُ عَلَى حَبْسِهِ، حَتَّى كَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَجَابَهُمْ عُثْمَانُ أَنِ اسْتَحْلِفُوهُ بِاللهِ مَا عَلِمَ بِرَأْيِكُمْ فِيهِ وَإِنَّهُ لَصَادِقٌ بِقَوْلِهِ فِيمَا ظَنَّ مِنْ تَعْطِيلِ حَدِّهِ وَعَزِّرُوهُ، وَخَلُّوا سَبِيلَهُ وَتَقَدَّمْ إِلَى النَّاسِ فِي أَلا يَعْمَلُوا بِالظُّنُونِ، وَأَلا يُقِيمُوا الْحُدُودَ دُونَ السُّلْطَانِ، فَإِنَّا نُقَيِّدُ الْمُخْطِئَ، وَنُؤَدِّبُ الْمُصِيبَ فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِ، وَتُرِكَ لأَنَّهُ أَصَابَ حَدًّا، وَغَضِبَ لِجُنْدُبٍ أَصْحَابُهُ، فَخَرَجُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فِيهِمْ أَبُو خُشَّةَ الْغِفَارِيُّ وَجَثَّامَةُ بْنُ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ وَمَعَهُمْ جُنْدُبٌ، فَاسْتَعْفَوْهُ مِنَ الْوَلِيدِ، فَقَالَ لَهُمْ عُثْمَانُ: تَعْمَلُونَ بِالظُّنُونِ، وَتُخْطِئُونَ فِي الإِسْلامِ، وَتَخْرُجُونَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، ارْجِعُوا فَرَدَّهُمْ، فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى الْكُوفَةِ، لَمْ يَبْقَ مَوْتُورٌ فِي نَفْسِهِ إِلا أَتَاهُمْ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى رَأْيٍ فَأَصْدَرُوهُ، ثُمَّ تَغَفَّلُوا الْوَلِيدَ -وَكَانَ لَيْسَ عَلَيْهِ حِجَابٌ- فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَبُو زَيْنَبَ الأَزْدِيُّ وَأَبُو مُوَرِّعٍ الأَسَدِيُّ، فَسَلا خَاتَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَا إِلَى عُثْمَانَ، فَشَهِدَا عَلَيْهِ، وَمَعَهُمَا نَفَرٌ مِمَّنْ يُعْرَفُ مِنْ أَعْوَانِهِمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ، فَلَمَّا قَدِمَ أَمَرَ به سعيد بن الْعَاصِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْشُدُكَ اللهَ! فو الله إِنَّهُمَا لَخَصْمَانِ مَوْتُورَانِ فَقَالَ: لا يَضُرُّكَ ذَلِكَ، إِنَّمَا نَعْمَلُ بِمَا يَنْتَهِي إِلَيْنَا، فَمَنْ ظَلَمَ فَاللهُ وَلِيُّ انْتِقَامِهِ، وَمَنْ ظُلِمَ فَاللهُ وَلِيُّ جَزَائِهِ»([9]).
وأخرج بسنده عن أبي غَسَّانَ سَكَنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: «اجْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَعَمِلُوا فِي عَزْلِ الْوَلِيدِ، فَانْتُدِبَ أَبُو زَيْنَبَ بْنُ عَوْفٍ وَأَبُو مُوَرَّعِ بْنُ فُلانٍ الأَسَدِيُّ لِلشَّهَادَةِ عليه، فغَشَوُا الوليد، وأكَبُّوا عليه، فبينَا هُمْ مَعَهُ يَوْمًا فِي الْبَيْتِ وَلَهُ امْرَأَتَانِ فِي الْمَخْدَعِ، بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ سِتْرٌ، إِحْدَاهُمَا بِنْتُ ذِي الْخِمَارِ وَالأُخْرَى بِنْتُ أَبِي عَقِيلٍ، فَنَامَ الْوَلِيدُ، وَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ عَنْهُ، وَثَبَتَ أَبُو زَيْنَبَ وَأَبُو مُوَرَّعٍ، فَتَنَاوَلَ أَحَدُهُمَا خَاتَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَا، فَاسْتَيْقَظَ الْوَلِيدُ وَامْرَأَتَاهُ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَلَمْ يَرَ خَاتَمَهُ، فَسَأَلَهُمَا عَنْهُ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمَا مِنْهُ عِلْمًا، قَالَ: فَأَيُّ الْقَوْمِ تَخَلَّفَ عَنْهُمْ؟ قَالَتَا: رجلان لا نعرفهما، ما غشياك إلا منذ قَرِيبٍ..، فقَدِمَا عَلَى عُثْمَانَ، وَمَعَهُمَا نَفَرٌ مِمَّنْ يَعْرِفُ عُثْمَانُ، مِمَّنْ قَدْ عَزَلَ الْوَلِيدُ عَنِ الأَعْمَالِ، فَقَالُوا لَهُ، فَقَالَ: مَنْ يَشْهَدُ؟ قَالُوا: أَبُو زَيْنَبَ وَأَبُو مُوَرَّعٍ، وكاع الآخَرَانِ، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتُمَا؟ قَالا: كُنَّا مِنْ غَاشِيَتِهِ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ وَهُوَ يَقِيءُ الْخَمْرَ، فَقَالَ: مَا يَقِيءُ الْخَمْرَ إِلا شَارِبُهَا فَبَعَثَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ رَآهُمَا، فَقَالَ مُتَمَثِّلا:
مَا إِنْ خَشِيتُ عَلَى أَمْرٍ خَلَوْتُ بِهِ
|
\
|
فَلَمْ أَخَفْكَ عَلَى أَمْثَالِهَا حَار
|
فَحَلَفَ لَهُ الْوَلِيدُ وَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُمْ، فَقَالَ: نُقِيمُ الْحُدُودَ وَيَبُوءُ شَاهِدُ الزُّورِ بِالنَّارِ، فَاصْبِرْ يَا أُخَيَّ! فَأَمَرَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ فَجَلَدَهُ، فَأَوْرَثَ ذَلِكَ عَدَاوَةً بَيْنَ وَلَدَيْهِمَا حَتَّى الْيَوْمِ، وَكَانَتْ عَلَى الْوَلِيدِ خَمِيصَةٌ يَوْمَ أُمِرَ بِهِ أَنْ يُجْلَدَ، فنَزعَهَا عنهُ علِيُّ بن أبي طالِبٍ ع»([10]).
([1]) سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيِّئ في الأمة (11/266).
([2]) سير أعلام النبلاء (5/453) ط الرسالة.
([4]) الموتور: مَن قُتل له قتيل، فلم يدرك بدمه. القاموس الفقهي (ص370).
([5]) فتح الباري، ابن حجر (7/56).
([7]) صحيح البخاري (5/49).
([8]) تاريخ الطبري (4/273- 274).
([9]) تاريخ الطبري (4/275- 276).
([10]) تاريخ الطبري (4/276- 277).
وأخرج بسنده عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الإِيَادِيِّ قَالَ: «خَرَجَ أَبُو زَيْنَبَ وَأَبُو مُوَرَّعٍ حَتَّى دَخَلا عَلَى الْوَلِيدِ بَيْتَهُ، وَعِنْدَهُ امْرَأَتَانِ: بِنْتُ ذِي الْخِمَارِ وَبِنْتُ أَبِي عَقِيلٍ، وَهُوَ نَائِمٌ، قَالَتْ إِحْدَاهُمَا: فَأَكَبَّ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا فَأَخَذَ خَاتَمَهُ، فَسَأَلَهُمَا حِينَ اسْتَيْقَظَ، فَقَالَتَا: مَا أَخَذْنَاهُ، قَالَ: مَنْ بَقِيَ آخِرَ الْقَوْمِ؟ قَالَتَا: رَجُلانِ، رَجُلٌ قَصِيرٌ عَلَيْهِ خَمِيصَةٌ، وَرَجُلٌ طَوِيلٌ عَلَيْهِ مِطْرَفٌ، وَرَأَيْنَا صَاحِبَ الْخَمِيصَةِ أَكَبَّ عَلَيْكَ، قَالَ: ذَاكَ أَبُو زَيْنَبَ فَخَرَجَ يَطْلُبُهُمَا، فَإِذَا هُوَ وَجْهُهُمَا عَنْ مَلإٍ مِنْ أَصْحَابٍ لَهُمَا، وَلا يَدْرِي الْوَلِيدُ مَا أَرَادَا مِنْ ذَلِكَ فَقَدِمَا عَلَى عُثْمَانَ، فَأَخْبَرَاهُ الْخَبَرَ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ، فَأَرْسَلَ إِلَى الْوَلِيدِ، فَقَدِمَ، فَإِذَا هُوَ بِهِمَا وَدَعَا بِهِمَا عُثْمَانُ، فَقَالَ: بِمَ تَشْهَدَانِ؟ أَتَشْهَدَانِ أَنَّكُمَا رَأَيْتُمَاهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ؟ فَقَالا: لا، وَخَافَا، قَالَ: فَكَيْفَ؟ قَالا: اعْتَصَرْنَاهَا مِنْ لِحْيَتِهِ وَهُوَ يَقِيءُ الْخَمْرَ فَأَمَرَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ فَجَلَدَهُ، فَأَوْرَثَ ذَلِكَ عَدَاوَةً بَيْنَ أَهْلِيهِمَا». تاريخ الطبري (4/277).
وقد سرد العلامة محب الدين الخطيب هذه الواقعة سردًا أدبيًّا ممتعًا من سياق هذه الأخبار رأينا أن ننقله هنا، فقال: «ولا يضير هذا الرجل أن يتأخر انكشاف الحق فيه ثلاثة عشر قرنًا، فإن الحق قديم ولا يؤثر في قدمه احتجابه. أراد الوليد بن عقبة -منذ ولي الكوفة لأمير المؤمنين عثمان- أن يكون الحاكم المثالي في العدل والنبل والسيرة الطيبة مع الناس، كما كان المحارب المثالي في جهاده وقيامه للإسلام بما يليق بالذائدين عن دعوته، الحاملين لرايته، الناشرين لرسالته، وقد لبث في إمارته على الكوفة خمس سنوات وداره -إلى اليوم الذي زايل فيه الكوفة- ليس لها باب يحول بينه وبين الناس ممن يعرف أو لا يعرف، فكان يغشاها كل من شاء، متى شاء، من ليل أو نهار، ولم يكن بالوليد حاجة ليستتر عن الناس؛
فالستر دون الفاحشات ولا
|
\
|
يلقاك دون الخير من ستر
|
وكان ينبغي أن يكون الناس كلُّهم محبين لأميرهم الطيب؛ لأنه أقام لغربائهم دورَ الضيافة، وأدخل على الناس خيرًا حتى جعل يقسم المال للولائد والعبيد، ورد على كل مملوك من فضول الأموال في كل شهر ما يتسعون به من غير أن ينقص مواليهم من أرزاقهم، وبالفعل كانت جماهير الشعب متعلقةً بحب هذا الأمير المثالي طوال مدة حكمه، إلا أن فريقًا من الأشرار وأهل الفساد أصاب بنيهم سوط الشريعة بالعقاب على يد الوليد، فوقفوا حياتهم على ترصد الأذى له، ومن هؤلاء رجالٌ يسمى أحدهم أبا زينب بن عوف الأزدي، وآخر يسمى أبا مورع، وثالث اسمه جندب أبو زهير، قبضت السلطات على أبنائهم في ليلة نقبوا بها على ابن الحيسمان داره وقتلوه، وكان نازلًا بجواره رجل من أصحاب رسول الله ق ومن أهل السابقة في الإسلام، وهو أبو شريح الخزاعي حامل راية رسول الله ق على جيش خزاعة يوم فتح مكة، فجاء هو وابنه من المدينة على الكوفة ليسيرا مع أحد جيوش الوليد ابن عقبة التي كان يواصل توجيهها نحو الشرق للفتوح ونشر دعوة الإسلام، فشهد هذا الصحابي وابنه في تلك الليلة سطو هؤلاء الأشرار على منزل ابن الحيسمان، وأدى شهادته هو وابنه على هؤلاء القتلة السفاحين، فأنفذ الوليد فيهم حكم الشريعة على باب القصر في الرحبة، فكتب آباؤهم العهد على أنفسهم للشيطان بأن يكيدوا لهذا الأمير الطيب الرحيم، وبثوا عليه العيون والجواسيس ليترقبوا حركاته، وكان بيته مفتوحًا دائمًا.
وبينما كان عنده ذات يوم ضيف له من شعراء الشمال، كان نصرانيًّا في أخواله من تغلب بأرض الجزيرة وأسلم على يد الوليد، فظن جواسيس الموتورين أن هذا الشاعر الذي كان نصرانيًّا لا بد أن يكون ممن يشرب الخمر، ولعل الوليد أن يكرمه بذلك، فنادوا أبا زينب وأبا المورع وأصحابهما، فاقتحموا الدار على الوليد من ناحية المسجد، ولم يكن لداره باب، فلما فوجئ بهم نحى شيئًا أدخله تحت السرير، فأدخل بعضهم يده فأخرجه بلا إذن من صاحب الدار، فلما أخرج ذلك الشيء من تحت السرير إذا هو طبق عليه تفاريق عنب، وإنما نحاه الوليد استحياء أن يروا طبقه ليس عليه إلا تفاريق عنب، فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون من الخجل، وسمع الناس بالحكاية فأقبلوا يسبونهم ويلعنونهم، وقد ستر الوليد عليهم ذلك وطواه عن عثمان وسكت عن ذلك وصبر.
ثم تكررت مكايد جندب وأبي زينب وأبي المورع، وكانوا يغتنمون كل حادث فيسيئون تأويله ويفترون الكذب، وذهب بعض الذين كانوا عمالًا في الحكومة، ونحاهم الوليد عن أعمالهم؛ لسوء سيرتهم، فقصدوا المدينة وجعلوا يشكون الوليد لأمير المؤمنين عثمان ويطلبون منه عزله عن الكوفة.
وفيما كان هؤلاء في المدينة دخل أبو زينب وأبو المورع دار الإمارة بالكوفة مع من يدخلها من غمار الناس وبقيا فيها إلى أن تنحى الوليد ليستريح، فخرج بقية القوم، وثبت أبو زينب وأبو المورع إلى أن تمكنا من سرقة خاتم الوليد من داره وخرجَا، فلما استيقظ الوليد لم يجد خاتمه، فسأل عنه زوجتيه -وكانتا في مخدع تريان منه زوار الوليد من وراء ستر- فقالتا: إن آخر من بقى في الدار رجلان، وذكرتا صفتهما وحليتهما للوليد، فعرف أنهما أبو زينب وأبو المورع، وأدرك أنهما لم يسرقَا الخاتم إلا لمكيدة بيَّتاها، فأرسل في طلبهما فلم يوجدَا في الكوفة، وكانا قد سافرا توًّا إلى المدينة، وتقدما شاهدين على الوليد بشرب الخمر (وأكبر ظني أنهما استلهما شهادتهما المزورة من تفاصيل الحادث الذي سبق وقوعه لقدامة بن مظعون في خلافة عمر) فقالا: كنا من غاشيته، فدخلنا عليه وهو يقيء الخمر. فقال عثمان: ما يقيء الخمر إلا شاربها. فجيء بالوليد من الكوفة فحلف لعثمان وأخبره خبرهم، فقال عثمان: «نقيم الحدود، ويبوء شاهد الزور بالنار....».
وبعد أن علمت بأمر الموتورين فيما نقله الطبري عن شيوخه، أزيدك علمًا بأمر حمران، وهو عبد من عبيد عثمان كان قد عصى الله قبل شهادته على الوليد، فتزوج في مدينة الرسول امرأة مطلقة، ودخل بها وهي في عدتها من زوجها الأول، فغضب عليه عثمان لهذا ولأمور أخرى قبله فطرده من رحابه وأخرجه من المدينة. فجاء الكوفة يعيث فيها فسادًا، ودخل على العابد الصالح عامر بن عبد القيس فافترى عليه الكذب عند رجال الدولة وكان سبب تسييره إلى الشام.
وأنا أترك أمر هذا الشاهد والشاهدين الآخرين قبله إلى ضمير القارئ يحكم به عليهم بما يشاء، وفي اجتهادي أن مثل هؤلاء الشهود لا يقام بهم حد الله على ظنين من السوقة والرعاع، فكيف بصحابي مجاهد وضع الخليفة في يده أمانة قطر وقيادة جيوش، فكان عند الظن به من حسن السيرة في الناس وصدق الرعاية لأمانات الله، وكان موضع الثقة عند ثلاثة من أكمل خلفاء الإسلام أبي بكر وعمر وعثمان.
وإن قرابة الوليد من عثمان التي يزعم الكذبة أنها سبب المحاباة منه لهم إنما كانت سبب التسامح من عثمان في عزلهم والقسوة عليهم؛ لئلا يقول السفهاء: إن له هوى في ذوي قرابته...
والآن أقولها لوجه الله صريحة مدوية: إن الوليد لو كان من رجال التاريخ الأوربي كالقديس لويس الذي أسرناه في دار ابن لقمان بالمنصورة لعدُّوه قديسًا؛ لأن لويس التاسع لم يحسن إلى فرنسا كإحسان الوليد بن عقبة إلى أمته، ولم يفتح للنصرانية كفتح الوليد للإسلام، والعجب لأمة تسيء إلى أبطالها، وتشوه جمال تاريخها، وتهدم أمجادها كما يفعل الأشرار منا، ثم ينتشر كيد هؤلاء الأشرار حتى يظن الأخيار أنه هو الحق». العواصم من القواصم (ص94).