تعطيل عثمان الحد على عبيد الله بن عمر قاتل الهرمزان

الشبهة:

قالت الشيعة: إن عثمان عطل الحدود، ومن ذلك عدم إقامته الحد على عبيد الله بن عمر لما قتل الهرمزان، وقد ذكر ذلك جل علماء الشيعة في كتبهم([1]).

 

([1]) انظر: بحار الأنوار، المجلسي (٣١/٢٢٤)، الغدير، الأميني (٨/١٣٣).

الرد علي الشبهة:

لم يُثِرِ السبئيةُ الأوائل قتلةُ عثمان ا مثل هذا الاعتراض! لكن هذا حال سبئية يومنا هذا، وإلى الله المشتكى، فإن المقرر في الشريعة أن الحدود تُدرَأُ بالشبهات، وقد وقعت الشبهة في قتل عبيد الله بن عمر للهرمزان، قال الحافظ ابن حجر في الإصابة: «وأخرج الكرابيسيُّ في «أدب القضاء» بسند صحيح إلى سعيد بن المسيب، أن عبد الرّحمن بن أبي بكر قال لما قتل عمر: إني مررت بالهرمزان وجفينة وأبي لؤلؤة وهم نجيّ، فلما رأوني ثاروا، فسقط من بينهم خنجر له رأسان، نصابُه في وسطه، فنظروا إلى الخنجر الذي قتل به عمر فإذا هو الذي وصفه، فانطلق عبيد الله بن عمر، فأخذ سيفه حين سمع ذلك من عبد الرحمن، فأتى الهرمزان فقتله، وقتل جفينة، وقتل بنت أبي لؤلؤة صغيرة، وأراد قتل كل سبئي بالمدينة، فمنعوه..، فلما استخلف عثمان قال له عمرو بن العاص: إن هذا الأمر كان، وليس لك على الناس سلطان، فذهب دم الهرمزان هدرًا»([1]).

وعليه فقد كان اتهام الهرمزان بالمشاركة في مقتل عمر شبهة مسقطة للحد عن عبيد الله بن عمر، فضلًا عن أن الواقعة قد حدثت ولم يكن عثمان آنذاك له على الناس ولاية ولا سلطان.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية V: «وَإِذَا كَانَ الْهُرْمُزَانُ مِمَّنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ عُمَرَ جَازَ قَتْلُهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ قِصَاصًا، وَعُمَرُ هُوَ الْقَائِلُ فِي الْمَقْتُولِ بِصَنْعَاءَ: «لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَأَقَدْتُهُمْ بِهِ».

وَأَيْضًا فَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي قَتْلِ الْأَئِمَّةِ: هَلْ يُقْتَلُ قَاتِلُهُمْ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ حَدًّا، كَمَا يُقْتَلُ الْقَاتِلُ فِي الْمُحَارَبَةِ حَدًّا؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْأَئِمَّةِ فِيهِ فَسَادٌ عَامٌّ أَعْظَمُ مِنْ فَسَادِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، فَكَانَ قَاتِلُهُمْ مُحَارِبًا لِلهِ وَرَسُولِهِ، سَاعِيًا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَعَلَى هَذَا خَرَّجُوا فِعْلَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ب لَمَّا قَتَلَ ابْنَ مُلْجَمٍ قَاتِلَ عَلِيٍّ، وَكَذَلِكَ قَتْلُ قَتَلَةِ عُثْمَانَ.

وَإِذَا كَانَ الْهُرْمُزَانُ مِمَّنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ عُمَرَ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ الْمُحَارِبِينَ، فَيَجِبُ قَتْلُهُ لِذَلِكَ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْمَقْتُولَ مَعْصُومُ الدَّمِ يَحْرُمُ قَتْلُهُ، لَكِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُتَأَوِّلًا يَعْتَقِدُ حِلَّ قَتْلِهِ لِشُبْهَةٍ ظَاهِرَةٍ، صَارَ ذَلِكَ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْقَتْلَ عَنِ الْقَاتِلِ، كَمَا أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ لَمَّا قَتَلَ ذَلِكَ الرَّجُلَ بَعْدَمَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يَعْصِمُهُ، عَزَّرَهُ النَّبِيُّ ق بِالْكَلَامِ، وَلَمْ يَقْتُلْهُ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَأَوِّلًا، لَكِنَّ الَّذِي قَتَلَهُ أُسَامَةُ كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ الْقَتْلِ، فَشَكَّ فِي الْعَاصِمِ.

وَإِذَا كَانَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ مُتَأَوِّلًا يَعْتَقِدُ أَنَّ الْهُرْمُزَانَ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ أَبِيهِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ، صَارَتْ هَذِهِ شُبْهَةً يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَهَا الْمُجْتَهِدُ مَانِعَةً مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ، فَإِنَّ مَسَائِلَ الْقِصَاصِ فِيهَا مَسَائِلٌ كَثِيرَةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ»([2]).

قد ذكر الطبري وليًّا لدم الهرمزان في رواية مسلسلة بالضعفاء عند السنة، وضعيفة عند الشيعة([3]) لا تصلح للاحتجاج([4])، وعلى الرغم من ذلك فحتى هذه الرواية الضعيفة قد ذكرت أن ولي الدم هذا قد عفا عن عبيد الله ابن عمر.

لكن المعلوم أن الهرمزان لم يكن له ولي يطالب بدمه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية V: «وَأَيْضًا فَالْهُرْمُزَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَوْلِيَاءٌ يَطْلُبُونَ دَمَهُ وَإِنَّمَا وَلِيُّهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ، وَمِثْلُ هَذَا إِذَا قَتَلَهُ قَاتِلٌ كَانَ لِلْإِمَامِ قَتْلُ قَاتِلِهِ، لِأَنَّهُ وَلَيُّهُ، وَكَانَ لَهُ الْعَفْوُ عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ لِئَلَّا تَضِيعَ حُقُوقُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ عُثْمَانَ عَفَا عَنْهُ، وَرَأَى قَدْرَ الدِّيَةَ أَنْ يُعْطِيَهَا لِآلِ عُمَرَ، لِمَا كَانَ عَلَى عُمَرَ مِنَ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ ثَمَانُونَ أَلْفًا، وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يَقْضُوا دَيْنَهُ مِنْ أَمْوَالِ عَصَبَتِهِ عَاقِلَتِهِ بَنِي عُدَيٍ وَقُرَيْشٍ، فَإِنَّ عَاقِلَةَ الرَّجُلِ هُمُ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ كَلَّهُ، وَالدِّيَةُ لَوْ طَالَبَ بِهَا عُبَيْدُ اللهِ، أَوْ عُصْبَةُ عُبَيْدِ اللهِ إِذَا كَانَ قَتْلُهُ خَطَأً أَوْ عَفَا عَنْهُ إِلَى الدِّيَةِ فَهُمُ الَّذِينَ يُؤَدُّونَ دَيْنَ عُمَرَ، فَإِذَا أَعَانَ بِهَا فِي دَيْنِ عُمَرَ كَانَ هَذَا مِنْ مَحَاسِنِ عُثْمَانَ الَّتِي يُمْدَحُ بِهَا لَا يُذَمُّ.

وَقَدْ كَانَتْ أَمْوَالُ بَيْتِ الْمَالِ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ كَثِيرَةً، وَكَانَ يُعْطِي النَّاسَ عَطَاءً كَثِيرًا أَضْعَافَ هَذَا، فَكَيْفَ لَا يُعْطِي هَذَا لِآلِ عُمَرَ؟»([5]).

فإذا سقط الاحتجاج بهذه الرواية الضعيفة، فلا يكون وليًّا لدم الهرمزان إلا عثمان ا؛ لكونه السلطان آنذاك، فالسلطان ولي من لا ولي له([6])، وهذه قاعدة متفق عليها بين أهل العلم، وانعقد عليها الإجماع([7])، ولأجل ذلك قلنا: إن الولي الشرعي في دم الهرمزان هو عثمان ا، فإن رأى القصاص اقتص، وإن رأى غير ذلك فله بحسب ما يكون المصلحة العامة.

وهذه مسألة قد اتفقت فيها الشيعة مع السنة، يقول الشيرازي: «وإن كان المقتول لا وارث له غير المسلمين كان الأمر إلى السلطان، فإن رأى القصاص اقتص، وإن رأى العفو على مال عفا؛ لأن الحق للمسلمين، فوجب على الإمام أن يفعل ما يراه من المصلحة، فإن أراد أن يعفو على غير مال لم يجز؛ لأنه تصرف لا حَظَّ فيه للمسلمين، فلم يملكه»([8]).

ويقول السبزواري: «(مسألة 21): من لا ولي له فالحاكم الشرعي وليه في عصر الغيبة.

علق عليه فقال: «..، وأما السنة: فهي كثيرة، منها صحيح أبي وَلَّادٍ قال: «سألت أبا عبد الله S عن رجل مسلم قتل رجلًا مسلمًا فلم يكن للمقتول أولياء من المسلمين إلا أولياء من أهل الذمة من قرابته؟ فقال S: على الإمام أن يعرض على قرابته من أهل بيته الإسلام، فمن أسلم منهم فهو وليه يدفع القاتل إليه... -إلى أن قال:...- فإن لم يُسلم أحد كان الإمام ولي أمره، فإن شاء أخذ الدية فجعلها في بيت مال المسلمين؛ لأن جناية المقتول كانت على الإمام، فكذلك تكون ديته لإمام المسلمين، قلت: فإن عفا عنه الإمام؟ فقال: إنما هو حق جميع المسلمين، وإنما على الإمام أن يقتل أو يأخذ الدية، وليس له أن يعفو»([9]).

وتقييد الإمام بعدم العفو في تلك الرواية ليس مطلقًا؛ ولذلك قال السبزواري: «إذا كان العفو مصلحة لنوع المسلمين فله ذلك؛ لمكان ولايته على مصالح المسلمين، وإن لم يكن كذلك فلا حق له في ذلك، وعليه يحمل ذيل الصحيح المتقدم»([10]).

وبهذا التقرير نقول: إن الحق الكامل لعثمان ا في أن يتصالح على العفو على مال يدفعه أولياء القاتل، أو يدفعه الإمام من ماله، ولعل هذا الوضوح في رد تلك الشبهة هو الذي جعل السبئية الأوائل الذين ثاروا على عثمان لم يذكروها فيما ذكروا.

 ولا يُشغب على هذا بأن ولي الأمر الشرعي وقت القتل إنما كان عمر، وقد أوصى بالقصاص في حال عدم وجود بينة تدين الهرمزان، بالاعتماد على رواية البيهقي التي ساقها بسنده عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: «لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ ا وَثَبَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى الْهُرْمُزَانِ فَقَتَلَهُ، فَقِيلَ لِعُمَرَ: إِنَّ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ قَتَلَ الْهُرْمُزَانَ، قَالَ: وَلِمَ قَتَلَهُ؟ قَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ أَبِي، قِيلَ: وَكَيْفَ ذَاكَ؟ قَالَ: رَأَيْتُهُ قَبْلَ ذَلِكَ مُسْتَخْلِيًا بِأَبِي لُؤْلُؤَةَ، وَهُوَ أَمَرَهُ بِقَتْلِ أَبِي، قَالَ عُمَرُ: مَا أَدْرِي مَا هَذَا، انْظُرُوا إِذَا أَنَا مُتُّ فَاسْأَلُوا عُبَيْدَ اللهِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْهُرْمُزَانِ، هُوَ قَتَلَنِي؟ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَدَمُهُ بِدَمِي، وَإِنْ لَمْ يُقِمِ الْبَيِّنَةَ فَأَقِيدُوا عُبَيْدَ اللهِ مِنَ الْهُرْمُزَانِ، فَلَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ ا قِيلَ لَهُ: أَلَا تُمْضِي وَصِيَّةَ عُمَرَ ا فِي عُبَيْدِ اللهِ؟ قَالَ: وَمَنْ وَلِيُّ الْهُرْمُزَانِ؟ قَالُوا: أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: فَقَدْ عَفَوْتُ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ»([11]).

الرواية على ضعفها تثبت أن الولي الشرعي هو الذي يكون وقت الحكم لا وقت القتل، ولو تنازلنا عن كل هذا لقلنا بأن عبيد الله قد أقام بينة هي على الأقل شبهة تسقط الحد عنه، ثم الرواية نفسها قد أثبتت أن ولي الدم قد عفا.

القول بأن علي بن أبي طالب قد قال لعثمان: «أَقِد الفاسق»، وطالب بقتل عبيد الله بن عمر، وأنه لو تمكن منه لقتله! كل هذا لا يصح عند التحقيق، فقد جاءت الرواية في أنساب الأشراف قال: «الْمَدَائِنِي عَنْ غياث ابْن إِبْرَاهِيم أَن عُثْمَان صعِدَ المنبرَ فَقَالَ: أيها النَّاس، إنا لَمْ نكن خطباءَ، وإن نعش تأتكم الخطبة عَلَى وجهها إِن شاء الله، وَقَدْ كَانَ من قضاء الله أَن عُبَيْد اللهِ بْن عُمَر أصاب الهرمزان، وَكَانَ الهرمزان من الْمُسْلِمِينَ ولا وارث لَهُ إلا المسلمون عامة، وأنا إمامكم وَقَدْ عفوت، أفتعفون؟ قَالُوا: نعم، فَقَالَ عَلِي: أقد الفاسق، فَإِنَّهُ أتى عظيمًا، قتل مسلمًا بلا ذنب، وَقَالَ لعبيد الله: يا فاسق، لئن ظفرت بك يومًا لأقتلنك بالهرمزان»([12]).

هذه رواية ساقطة، فيها غياث بن إِبْرَاهِيم أَبُو عبد الرَّحْمَن النَّخعِي الْكُوفِي، «قَالَ أَحْمد وَالْبُخَارِي وَالنَّسَائِي وَالدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث، وَقَالَ يحيى: لَيْسَ بِثِقَة، وَقَالَ مرّة: كَانَ كذَّابًا، وَقَالَ السَّعْدِي وَابْن حبَان: يضع الحَدِيث، وَقَالَ البُخَارِيّ: تَرَكُوهُ، وَقَالَ الْأَزْدِيّ: لَا تحل الرِّوَايَة عَنهُ»([13]).

فإن صحَّ ذلك جدلًا عن علي بن أبي طالب- فهو خطأ؛ إذ ليس علي ولي دم المقتول، وليس له رأي بعد رأي ولي الأمر وولي الدم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية V: «وَعَلِيُّ لَيْسَ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ، وَلَا طَلَبَ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ الْقَوَدَ، وَإِذَا كَانَ حَقُّهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ..، وبِكُلِّ حَالٍ فَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ عَفْوِ عُثْمَانَ وَحُكْمِهِ بِحَقْنِ دَمِهِ يُبَاحُ قَتْلُهُ»([14]).

ثم أين علِي من تنفيذ وعده ووعيده لما ولي الخلافة؟! لماذا لم يقتص منه؟!

ولو جاز الاعتراض بقول صحابيٍ كعلي فليس قوله الأولى من قول غيره من علماء الصحابة؛ إذ عارضه غيره، فجاء عند الطبري في تاريخه: «فَقَالَ عُثْمَانُ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ: أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي هَذَا الَّذِي فَتَقَ فِي الإِسْلامِ مَا فَتَقَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَرَى أَنْ تَقْتُلَهُ، فَقَالَ بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ: قُتِلَ عُمَرُ أَمْسَ وَيُقْتَلُ ابْنُهُ الْيَوْمَ! فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْفَاكَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدَثُ كَانَ وَلَكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ سُلْطَانٌ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا الْحَدَثُ وَلَا سُلْطَانَ لَكَ، قَالَ عُثْمَانُ: أَنَا وَلِيُّهُمْ، وَقَدْ جَعَلْتُهَا دِيَةً، وَاحْتَمَلْتُهَا فِي مَالِي»([15]).

ولعل رفض بعض الصحابة قتل عبيد الله بن عمر ما قام من الشبهة في حقّه، وأن الهرمزان قد ظهرت من الدلائل ما تشير إلى اتهامه بالممالأة على قتل الخليفة عمر ا، وفي هذا يقول شيخ الإسلام: «وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُشْتَرِكِينَ فِي الْقَتْلِ إِذَا بَاشَرَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، فَقِيلَ: لَا يَجِبُ الْقَوَدُ إِلَّا عَلَى الْمُبَاشِرِ خَاصَّةً، وهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وقِيلَ: إِذَا كَانَ السَّبَبُ قَوِيًّا وَجَبَ عَلَى الْمُبَاشِرِ وَالْمُتَسَبِّبِ كَالْمُكْرِهِ وَالْمُكْرَهِ،..، وكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الرَّبِيئَةِ وَهُوَ النَّاطُورُ لِقُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَإِذَا كَانَ الْهُرْمُزَانُ مِمَّنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ عُمَرَ جَازَ قَتْلُهُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ قِصَاصًا، وَعُمَرُ هُوَ الْقَائِلُ فِي الْمَقْتُولِ بِصَنْعَاءَ: لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَأَقَدْتُهُمْ بِهِ»([16]).

ومن هنا رأى بعض الصحابة عدم قتل عبيد الله، وليس قول بعض الصحابة أولى من قول بعض إذا كان للجميع وجه.

إذا شغَّبت الشيعة على أمير المؤمنين عثمان ا بترك إقامة الحد، فهل سيقولون مثل ذلك في علي بن أبي طالب ا؟! فقد ترك إقامة الحد صراحة كما في كتبهم، فقد أخرج الكليني في الكافي عَنْ مَالِكِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ ع قَالَ: «بَيْنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ع فِي مَلَإٍ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي قَدْ أَوْقَبْتُ عَلَى غُلَامٍ فَطَهِّرْنِي، فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا، امْضِ إِلَى مَنْزِلِكَ لَعَلَّ مِرَارًا هَاجَ بِكَ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ غَدٍ عَادَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي أَوْقَبْتُ عَلَى غُلَامٍ فَطَهِّرْنِي، فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا امْضِ إِلَى مَنْزِلِكَ لَعَلَّ مِرَارًا هَاجَ بِكَ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا بَعْدَ مَرَّتِهِ الْأُولَى، فَلَمَّا كَانَ فِي الرَّابِعَةِ قَالَ لَهُ: يَا هَذَا، إِنَّ رَسُولَ اللهِ ص حَكَمَ فِي مِثْلِكَ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ فَاخْتَرْ أَيَّهُنَّ شِئْتَ، قَالَ: وَمَا هُنَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ فِي عُنُقِكَ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، أَوْ إِهْدَاءٌ مِنْ جَبَلٍ مَشْدُودَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، أَوْ إِحْرَاقٌ بِالنَّارِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيُّهُنَّ أَشَدُّ عَلَيَّ؟ قَالَ: الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ، قَالَ: فَإِنِّي قَدِ اخْتَرْتُهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: خُذْ لِذَلِكَ أُهْبَتَكَ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ فِي تَشَهُّدِهِ فَقَالَ: اللهُمَّ إِنِّي قَدْ أَتَيْتُ مِنَ الذَّنْبِ مَا قَدْ عَلِمْتَهُ، وَإِنِّي تَخَوَّفْتُ مِنْ ذَلِكَ فَجِئْتُ إِلَى وَصِيِّ رَسُولِكَ وَابْنِ عَمِّ نَبِيِّكَ فَسَأَلْتُهُ أَنْ يُطَهِّرَنِي، فَخَيَّرَنِي بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ مِنَ الْعَذَابِ، اللهُمَّ فَإِنِّي قَدِ اخْتَرْتُ أَشَدَّهَا، اللهُمَّ فَإِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ ذَلِكَ كَفَّارَةً لِذُنُوبِي، وَأَنْ لَا تُحْرِقَنِي بِنَارِكَ فِي آخِرَتِي، ثُمَّ قَامَ وَهُوَ بَاكٍ حَتَّى جَلَسَ فِي الْحُفْرَةِ الَّتِي حَفَرَهَا لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ع وَهُوَ يَرَى النَّارَ تَتَأَجَّجُ حَوْلَهُ، قَالَ: فَبَكَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ع وَبَكَى أَصْحَابُهُ جَمِيعًا، فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ع: قُمْ يَا هَذَا؛ فَقَدْ أَبْكَيْتَ مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ وَمَلَائِكَةَ الْأَرْضِ، فَإِنَّ اللهَ قَدْ تَابَ عَلَيْكَ، فَقُمْ وَلَا تُعَاوِدَنَّ شَيْئًا مِمَّا قَدْ فَعَلْتَ»([17]).

فأنت ترى في هذه الرواية أن علي بن أبي طالب ا على الزعم الرافضي- قد أسقط الحد عن هذا الرجل الذي قد استوجب هذا الحد؛ لمجرد أنه كان من شيعته وأتباعه، فهل يجوز له أن يعطل حدود الله تعالى؟!

فأنت هنا ترى الإمامية تضرب الذكر صفحًا عن فعل علي بن أبي طالب، وتجعل إسقاط حد من حدود الله بزعمهم مع وجود الإقرار والاعتراف من خصائص الإمام! قال التُّسْتَرِي: «وهو مخصوص بالإمام، فعن الباقر لا يعفو عن الحدود الَّتي لله دون الإمام»([18]).

 

([1]) الإصابة في تمييز الصحابة (6/449).

([2]) منهاج السنة النبوية (6/٢٨١).

([3]) ذكر الأميني ضعفها في الغدير (٨/١٧٣).

([4]) الرواية في تاريخ الطبري قال: «وكتب إلي السري، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عن أبي منصور قَالَ: سمعت القماذبان يحدث عن قتل أَبِيهِ، قَالَ: كَانَتِ العجم بِالْمَدِينَةِ يستروح بعضها إِلَى بعض، فمر فيروز بأبي، وَمَعَهُ خنجر لَهُ رأسان، فتناوله مِنْهُ، وَقَالَ: مَا تصنع بهذا فِي هذه البلاد؟ فقال: آنس بِهِ، فرآه رجل، فلما أصيب عمر، قَالَ: رأيت هَذَا مع الهرمزان، دفعه إِلَى فيروز.

فأقبل عُبَيْد اللهِ فقتله، فلما ولي عُثْمَان دعاني فأمكنني مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا بني، هَذَا قاتل أبيك، وأنت أولى بِهِ منَّا، فاذهب فاقتله، فخرجت بِهِ وما فِي الأرض أحد إلا معي، إلا أَنَّهُمْ يطلبون إلي فِيهِ فقلت لَهُمْ: ألي قتله؟

قَالُوا: نعم -وسبوا عُبَيْد اللهِ- فقلت: أفلكم أن تمنعوه؟ قَالُوا: لا، وسبوه فتركته لله ولهم فاحتملوني، فوالله مَا بلغت المنزل إلا عَلَى رءوس الرجال وأكفهم». انظر: تاريخ الطبري (4/243)، وهي رواية مسلسلة بالضعفاء.

([5]) منهاج السنة النبوية (6/281).

([6]) عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ق، عَنْ رَسُولِ اللهِ ق أَنَّهُ قَالَ: «... فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ». مسند أحمد (40/243) ط الرسالة.

([7]) قال ابن بطال: «أجمع العلماء على أن السلطان ولي من لا ولي له». شرح صحيح البخاري، ابن بطال (7/249)، وقال ابن عبد البر: «أَجْمَعُوا أَنَّ السُّلْطَانَ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ». الاستذكار (5/393).

([8]) المهذب في فقه الإمام الشافعي، الشيرازي (3/198).

([9]) مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام، السبزواري (29/307).

([10]) مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام، السبزواري (29/308).

([11]) قال المحقق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي: «أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (38/63) من طريق المصنف به، وقال الذهبي (6/3152): منقطع، وعلِي واهٍ»، انظر: السنن الكبير، البيهقي (16/272) ت التركي.

([12]) أنساب الأشراف، البلاذري (5/510).

([13]) الضعفاء والمتروكين، ابن الجوزي (2/247).

([14]) منهاج السنة النبوية (6/284).

([15]) تاريخ الطبري (4/239).

([16]) منهاج السنة النبوية (6/279).

([17]) الكافي، الكليني (7/201) ط الإسلامية.

([18]) قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، التستري (ص29).