الرواية التي فيها أن عثمان أعطى الحَكَم صدقات قضاعة، وأن هذا مما نقموه عليه لا تصح، فرواية أنساب الأشراف فيها:
«وحدثني محمد بن حاتم بن ميمون، حدثنا الحجاج الأعور، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: كان مما أنكروا على عثمان أنه ولَّى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة، فبلغت ثلاثمائة ألف درهم، فوهبها له حين أتاه بها»([1]).
وهذا خبر ضعيف، فيه محمد بن حاتم بن ميمون، مختلفٌ فيه، منهم من يقويه، ومنهم من يضعفه، قال ابن الجوزي: «... المعروف بالسمين،... قال ابن المديني ويحيى: هو كذاب، وقال أبو حفص الفَلاس: ليس بشيء، وقال الدارقطني: هو ثقة»([2]).
وفيه ابن جريج مدلس، وتدليسه شديدٌ، فلا يدلِّس إلا عن الضعفاء، قال المعلمي: «ابن جريج، وصفه النسائي وغيره -أي بالتدليس- وقال الدارقطني: شر التدليس تدليس ابن جريج، فإنه قبيح التدليس، لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح»([3]).
وقد عنعن ابن جريج هذا الخبر، ولم يصرح بالسماع.
-
- لو سلمنا جدلاً بصحة الخبر فلا إشكال
وعلى أن هذه الرواية لو صحت لما كان فيها إشكال، فعثمان ا زاد المال في عصره جدًّا حتى انغمس الناس في النعم([4])، ونقموا على سلطانهم، فهذه الثلاثمائة ألف درهم هذه كانت ثمنًا لثلاثة أفراس فقط.
قال في تاريخ الخميس: «كثرت الأموال، حتى كان الفرس يشترَى بمائة ألف، وحتى كان البستان يباع بالمدينة بأربعمائة ألف درهم، وكانت المدينة عامرةً كثيرةَ الخيرات والأموال والناس، يجبَى إليها خراج الممالك، وهي دار الأمان وقبة الإسلام، فبطر الناس بكثرة الأموال والخيل والنعم، وفتحوا أقاليم الدنيا واطمأنوا وتفرغوا، ثم أخذوا ينقمون على خليفتهم عثمان ا»([5]).
فلو أن عثمان قد أعطاه شيئًا –على فرض صحة الخبر- فقد أعطاه إياه تأليفًا لقلبه، كما فعل النبي ق، فعَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ق غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ أَسْلِمُوا، فَوَاللهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَيُعْطِي عَطَاءً مَا يَخَافُ الْفَقْرَ»([6]).
طرد النبي ق للحكم بن أبي العاص لم يَثبت فيه شيء بإسناد صحيح، وإنما ذكره بعض المؤرخين، وطعن في ذلك أئمة الإسلام وأنكروه، ويكفينا منهج أهل العلم في الأمور التأريخية والتعامل معها.
يقول الدكتور أكرم ضياء العمري: «كما أن استعمال قواعد المصطلح في نقد الروايات التأريخية ينبغي أن يشتد على قدر تعلق المادة بالأحداث الخطيرة التي تؤثر فيها الأهواء ويشتط عندها الرواة، كأن تكون الروايات لها مساس بالعقائد، كالفتن التي حدثت في جيل الصحابة، أو ذات صلة بالأحكام الشرعية كالسوابق الفقهية، فإن التشدد في قبولها يجعل استعمال قواعد نقد الحديث بدقة أمرًا مقبولًا»([7]).
وعليه فنحن نقول: أين ذلك الإسناد الصحيح لطرد النبي ق للحكم؟ ولن نجد مثل ذلك أبدًا؛ ولذلك طعن أهل العلم في الرواية.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية V: «وأما قصة الحكم فعامةُ مَن ذكرها إنما ذكرها مرسلةً، وقد ذكرها المؤرخون الذين يكثر الكذب فيما يروونه، وقلَّ أن يسلم لهم نقلهم من الزيادة والنقصان، فلم يكن هنا نقل ثابت يوجب القدح فيمن هو دون عثمان، والمعلوم من فضائل عثمان، ومحبة النبي ق له، وثنائه عليه، وتخصيصه بابنتيه،..، فلا يُدفع هذا بنقل لا يثبت إسناده، ولا يُعرف كيف وقع، ويجعل لعثمان ذنب بأمر لا يُعرف حقيقته، بل مثل هذا مثل الذين يعارضون المحكم بالمتشابه، وهذا من فعل الذين في قلوبهم زيغ، الذين يبتغون الفتنة، ولا ريب أن الرافضة من شرار الزائغين الذين يبتغون الفتنة، الذين ذمهم الله ورسوله.
وبالجملة، فنحن نعلم قطعًا أن النبي ق لم يكن يأمر بنفي أحد دائمًا ثم يرده عثمان معصية لله ورسوله، ولا ينكر ذلك عليه المسلمون، وكان عثمان ا أتقى لله من أن يُقْدِم على مثل هذا، بل هذا مما يدخله الاجتهاد، فلعل أبا بكر وعمر ب لم يرداه لأنه لم يطلب ذلك منهما، وطلبه من عثمان، فأجابه إلى ذلك، أو لعله لم يتبين لهما توبته، وتبين ذلك لعثمان، وغاية ما يقدر أن يكون هذا خطأ من الاجتهاد أو ذنبًا»([8]).
ويقول القاضي ابن العربي: «وأما رد الحكم فلم يصحَّ -أي مخالفة عثمان في رده كما زعموا- وقال علماؤنا في جوابه: قد كان أذِن له فيه رسول الله ص، وقال -أي عثمان- لأبي بكر وعمر، فقالا له: إن كان معك شهيد رددناه، فلما ولي قضى بعلمه في رده، وما كان عثمان ليصل مهجور رسول الله ص ولو كان أباه، ولا لينقض حكمه»([9]).
ويقول أبو بكر الباقِلَّاني: «وأما تعلقهم بأنه آوى الحَكَم طريد رسول الله ق فإنه باطل؛ لأن أكثر الناس ينكره ويقول: إن الحكم خرج بأمر النبي ق؛ لأنه كُفَّ وكبر فاستأذن في الخروج إلى أهله فأذن له، وعلى أن القوم لا يدرون ما سبب طرده، فمنهم من يقول: إنه كان يحاكي النبي ق في مشيتِه، ومنهم من يذكر أنه كان يحاكيه خلْفَ الصفوف، وكل هذا من التُّرَّهات.
وقد روي عن غير طريق أيضًا أن عثمان كان قد قال لأبي بكر وعمر: إني كنت استأذنت رسول الله ق في رده فأذن في ذلك، فطالباه بآخَرَ معه يشهد بذلك فلم يجد، فلما وَلِيَ عمل على أمر رسول الله ق، وليس هذا الحكم مما لا يجوز عمل الحاكم فيه وحكمه بعلمه، فلا متعلق فيما ذكروه من ذلك»([10]).
القول بأن النبي ق لعن الحكم مختلَف في صحته بين أهل العلم، وأكثرهم على ضعف تلكَ الروايات([11])، قال ابن السكن: «يقال: إن النبي ق دعا عليه، ولم يثبت ذلك»([12])، وقال الذهبي: «وقد رويت أحاديث منكرة في لعنه لا يجوز الاحتجاج بها، وليس له في الجملة خصوص الصحبة بل عمومها»([13])، وقال: «ويروى في سبه أحاديث لم تصح»([14])، وقال ابن كثير: «وقد ورد في ذمه ولعنه أحاديث لا تثبت»([15])، وقال ابن القيم: «وكل حديث في ذم بني أمية فهو كذب..، وكذلك أحاديث ذم الوليد وذم مروان بن الحكم»([16]).
فإن كان بعضُ أهل العلم يحسّن من أسانيد بعض الرواياتِ في لعن الحكم فإن المختلف فيه لا تقوم به حجة؛ إذ لا يُستدَلُّ به لوجود المعارض، فلو تنزلنا جدلًا وقلنا بصحة أمثال تلك الروايات فتُحمَلُ على أحسن التأويل لقرينة ثبوت إسلامه([17])، كأن يكون اللعن قبل دخوله في الإسلام، فقد لعن النبي ق أقوامًا قبل إسلامهم ثم أسلموا([18])، أو أن يكون قد اقترف ما استحق به النفي من المدينة، وهذا لا يلزم منه التأبيد، فمتى تاب زال عنه الحكم.
يقول ابن حزم: «صرف الحكم بن أبي العاص إلى المدينة ونفي رسول الله ق للحكم لم يكن حدًّا واجبًا ولا شريعةً على التأبيد، وإنما كان عقوبة على ذنب استحق به النفي، والتوبةُ مبسوطةٌ، فإذا تاب سقطت عنه تلك العقوبة بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام، وصارت الأرض كلها مباحة»([19]).
وقال ابن تيمية: «والطرد هو النفي، والنفي قد جاءت به السنة في الزاني وفي المخنثين، وكانوا يعزَّرون بالنفي، وإذا كان النبي ق قد عزَّرَ رجلًا بالنفي، لم يلزم أن يبقَى منفيًّا طول الزمان، فإن هذا لا يُعرف في شيء من الذنوب، ولم تأت الشريعة بذنب يبقى صاحبه منفيًّا دائمًا، بل غاية النفي المقدر سنة، وهو نفي الزاني والمخنث حتى يتوب من التخنيث، فإن كان تعزير الحاكم لذنب حتى يتوب منه، فإذا تاب سقطت العقوبة عنه، وإن كانت على ذنب ماض فهو أمر اجتهادي لم يقدر فيه قدر، ولم يوقت فيه وقت، وإذا كان كذلك، فالنفي كان في آخر الهجرة، فلم تطل مدته في زمن أبي بكر وعمر، فلما كان عثمان طالت مدته، وقد كان عثمان شفع في عبد الله بن أبي سرح إلى النبي ق، وكان كاتبًا للوحي وارتد عن الإسلام، وكان النبي ق قد أهدر دمه فيمن أهدر، ثم جاء به عثمان فقبل النبي ق شفاعته فيه وبايعه، فكيف لا يقبل شفاعته في الحكم؟!
وقد رووا أن عثمان سأل النبي ق أن يرده فأذن له في ذلك، ونحن نعلم أن ذنبه دون ذنب عبد الله بن سعيد بن أبي سرح، وقصة عبد الله ثابتة معروفة بالإسناد الثابت»([20]).
([1]) أنساب الأشراف، البلاذري (5/515).
([2]) الضعفاء والمتروكين، ابن الجوزي (3/47).
([3]) ملخص طبقات المدلسين - ضمن آثار المعلمي (15/272).
([4]) جاء في تاريخ الخميس: «كثر الخراج على عثمان، وأتاه المال من النواحي، واتخذ الخزائن العظيمة بالمدينة، وكان يقسم بين الناس، فيأمر للرجل بمائة ألف درهم». تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس (2/256).
ولذلك زاد عثمان في أعطيات الناس، فهو أول من سن لهم المائة في العطاء، ثم جرت هذه بعده سنة، جاء في تاريخ الطبري: «أول خليفة زاد الناس في أعطياتهم مائة عثمان، فجَرَت». تاريخ الطبري (4/245).
وكان يصنع الموائد في رمضان للمسلمين من المتعبدين وأبناء السبيل وغيرهم، كما ذكر الطبري: «فوضع طعام رمضان، فقال: للمتعبد الذي يتخلف في المسجد وابن السبيل والمعترين بالناس في رمضان». تاريخ الطبري (4/246).
وروى أبو عمر ابن عبد البر عن الحسن قال: «سمعت عثمان يخطب وهو يقول: يا أيها الناس، ما تنقمون عليَّ؟! وما من يوم إلا وأنتم تقسمون فيه خيرًا. قال الحسن: وشهدت مناديًا ينادي: يا أيها الناس، اغدوا على أعطياتكم، فيغدون ويأخذونها وافية. يا أيها الناس، اغدوا على أرزاقكم، فيأخذونها وافية، حتى والله سمعته أذناي يقول: اغدوا على كسواتكم، فيأخذون الحلل، واغدوا على السمن والعسل. قال الحسن: أرزاق دارَّة وخير كثير، وذات بين حسن، ما على الأرض مؤمن إلا يوده وينصره ويألفه، فلو صبر الأنصار على الأثرة لوسعهم ما كانوا فيه من العطاء والرزق، ولكنهم لم يصبروا، وسلوا السيف مع من سل، فصار عن الكفار مغمدًا، وعلى المسلمين مسلولًا إلى يوم القيامة». الاستيعاب في معرفة الأصحاب (3/1042).
([5]) تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس (2/258).
([6]) صحيح مسلم (4/1806).
([7]) بحوث في تاريخ السنة المشرفة (ص211).
([8]) منهاج السنة النبوية (6/268).
([9]) العواصم من القواصم (ص89) ط دار الجيل.
([10]) تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل (ص536).
([11]) بحث مختصر على موقع الإسلام سؤال وجواب https://2u.pw/u6x11
([12]) الإصابة في تمييز الصحابة (2/91).
([13]) تاريخ الإسلام (3/366) ت تدمري.
([14]) سير أعلام النبلاء (2/108) ط الرسالة.
([15]) جامع المسانيد والسنن (2/512).
([16]) المنار المنيف في الصحيح والضعيف (ص117) ت أبي غدة.
([17]) صح في مسند أحمد عَنْ حُمْرَانَ قَالَ: «كَانَ عُثْمَانُ يَغْتَسِلُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ، فَوَضَعْتُ وَضُوءًا لَهُ ذَاتَ يَوْمٍ لِلصَّلاةِ، فَلَمَّا تَوَضَّأَ قَالَ: إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أُحَدِّثَكُمْ بِحَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ق، ثُمَّ قَالَ: بَدَا لِي أَلَّا أُحَدِّثَكُمُوهُ. فَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ كَانَ خَيْرًا فَنَأْخُذُ بِهِ، أَوْ شَرًّا فَنَتَّقِيهِ. قَالَ: فَقَالَ: فَإِنِّي مُحَدِّثُكُمْ بِهِ». مسند أحمد (1/521) ط الرسالة.
فهذا كلام رجل حريص على تطبيق السنةِ، فلئن كان قد ورد في لعنه رواياتٌ فليس فيها دليل على تأبيد ذلك اللعن؛ إذ قد يكون اللعن قبل إسلامه كونه كان ممن يصدون الناس عن دين الله تعالى.
([18]) عن حنظلة بن أبي سفيان قال: سمعت سالم بن عبد الله يقول: «كان رسول الله ق يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، فنزلت: [ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ] إلى قوله: [ﮱ ﯓ ] {آل عمران:128}». صحيح البخاري (5/99) ط السلطانية.
قال البيهقي معلقًا: «وكان هذا من رسول الله ق في غزوةِ أُحد، ففي رواية عمر بن حمزة، عن سالم، عن ابن عمر قال: صلى رسول الله ق صلاة الصبح يوم أحد، فلما رفع رأسه من الركعة الثانية قال: «سمع الله لمن حمده» وقال: «اللهم العن ...»، فذكرهم، إلا أنه ذكر أبا سفيان بدل سهيل، فنزلت: [ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ] {آل عمران:128}، فتاب الله عليهم، فأسلموا فحسن إسلامهم». معرفة السنن والآثار (3/118).
وعند الترمذي عن عبد الله بن عمر: «أن رسول الله ق كان يدعو على أربعة نفر»، فأنزل الله تبارك وتعالى: [ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ] {آل عمران:128} فهداهُم اللهُ للإسلام». رواه الترمذي وقال: «هذا حديث حسن صحيح غريب». (5/228) ت شاكر، قال الألباني في الحاشية: «حسن صحيح».
([19]) الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/120).
([20]) منهاج السنة النبوية (2/266).