لم يصحَّ قطُّ في أي رواية أن عثمان ا أعطى خمس إفريقية لرجل واحد، والتشغيب على مَن هو في مقام ذي النورين لا يُقبل إلا بإسناد صحيح لا مطعن فيه، فلما تصفحنا ما ذكروه وجدناه لا يثبت له أي إسناد، ونحن نستعرض باختصار أشهر ما ورد في ذلك:
-
- أولاً: روايات البلاذُري
أخرجها البلاذري عَن عَبْدِ اللهِ بْن الزُّبَيْرِ قَالَ: «أَغْزَانَا عُثْمَانُ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ إِفْرِيقِيَّةَ، فَأَصَابَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ غَنَائِمَ جَلِيلَةً، فَأَعْطَى عُثْمَانُ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ خُمُسَ الْغَنَائِمِ».
وأخرج روايةً أخرى عن لُوطِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي مِخْنَفٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ قَالَ: «كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ أَخَا عُثْمَانَ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَعَامِلَهُ عَلَى الْمَغْرِبِ، فَغَزَا إِفْرِيقِيَّةَ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، فَافْتَتَحَهَا وَكَانَ مَعَهُ مَرْوانُ بْنُ الحَكَمِ، فابْتَاع خُمُسَ الْغَنِيمَةِ بِمِائَةِ أَلْفِ أَوْ مِائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ، فَكَلَّمَ عُثْمَانَ فَوَهَبَهَا لَهُ، فَأَنْكَرَ النَّاسُ ذَلِكَ عَلَى عُثْمَانَ»([1]).
والروايتان من طريق الواقدي وقد أجمعوا على تركه([2]).
وفي الرواية الأولى أسامة بن زيد بن أسلم ضعيف([3])، وفي الرواية الثانية الكلبي متروك([4])، وأبوه مثله([5])، وأما أبو مِخْنف فأسوأ حالًا من الجميع؛ إذ ليس هو بثقة بالمرة([6])، ومِن بعده جهالةٌ وانقطاعٌ واضح.
وروى في أنسابه بسنده عن مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: «لَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ عَاشَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً أَمِيرًا، فَمَكَثَ سِتَّ سِنِينَ لا يَنْقِمُ النَّاسُ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَإِنَّهُ لأَحَبُّ إِلَى قُرَيْشٍ مِنْ عُمَرَ؛ لِشِدَّةِ عُمَرَ وَلِينِ عُثْمَانَ لَهُمْ وَرِفْقِهِ بِهِمْ، ثُمَّ تَوَانَى فِي أَمْرِهِمْ، وَاسْتَعْمَلَ أَقَارِبَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ فِي السِّتِّ الأَوَاخِرِ وَأَهْمَلَهُمْ، وَكَتَبَ لِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بِخُمْسِ إِفْرِيقِيَّةَ، وَأَعْطَى أَقَارِبَهُ الْمَالَ، وَتَأَوَّلَ فِي ذَلِكَ الصِّلَةَ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا، وَاتَّخَذَ الأَمْوَالَ وَاسْتَسْلَفَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَالًا، وَقَالَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ تَرَكَا مِنْ هَذَا الْمَالِ مَا كَانَ لَهُمَا، وَإِنِّي آخُذُهُ فَأَصِلُ بِهِ ذَوِي رَحِمِي، فَأَنْكَرَ النَّاسُ ذَلِكَ عَلَيْهِ»([7]).
والرواية ساقطة بالواقدي مع إرسالها؛ فالزهري ولد في خمسين أو واحد وخمسين للهجرة([8]).
وأخرج كذلك في أنسابه بسنده عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أُمِّ بَكْر بنت المسور قَالَتْ: «لما بَنَى مَرْوَانُ دارَهُ بالمدينة دعَا النَّاس إِلَى طعامِه، وَكَانَ المسور فيمن دعا، فَقَالَ مَرْوَان وَهُوَ يحدثهم: والله مَا أنفقت فِي داري هذه من مال الْمُسْلِمِينَ درهمًا فَمَا فوقه، فَقَالَ المسور: لو أكلتَ طعامك وسكتَّ لكان خيرًا لَك، لَقَدْ غزوت معنا إفريقية، وإنك لأقلُّنا مالًا ورقيقًا وأعوانًا، وأخَفُّنَا ثِقَلًا، فأعطاك ابْن عَفَّان خُمْسَ إفريقية، وعملت عَلَى الصدقات فأخذت أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ، فشكاه مَرْوَان إِلَى عروة وَقَالَ: يغلظ لي وأنا لَهُ مكرم مُتَّقٍ»([9]).
والرواية ساقطة كسوابقها بالواقدي، وأما أم بكر بنت المسور بن مخرمة فهي ضعيفة([10]).
-
- ثانيًا: روايات الطبري
روى الطبري عن الواقدي بسنده إلى ابْنِ كَعْبٍ قَالَ: «لَمَّا وَجَّهَ عُثْمَانُ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَعْدٍ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ، كَانَ الَّذِي صَالَحَهُمْ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ إِفْرِيقِيَّةَ جِرْجِيرُ أَلْفَيْ أَلْفِ دينار وخمسمائة أَلْفِ دِينَارٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَبَعَثَ مَلِكُ الروم رسولًا، وأمره أن يأخذ منهم ثلاثمائة قِنْطَارٍ، كَمَا أَخَذَ مِنْهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدٍ، فَجَمَعَ رُؤَسَاءُ إِفْرِيقِيَّةَ، فَقَالَ: إِنَّ الْمَلِكَ قد أمرني أن آخذ منكم ثلاثمائة قنطار ذهب مِثْلَ مَا أَخَذَ مِنْكُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدٍ، فَقَالُوا: مَا عِنْدَنَا مَالٌ نُعْطِيهِ، فَأَمَّا مَا كَانَ بِأَيْدِينَا فَقَدِ افْتَدَيْنَا بِهِ أَنْفُسَنَا، وَأَمَّا الْمَلِك فَإِنَّهُ سَيِّدُنَا فَلْيَأْخُذْ مَا كَانَ لَهُ عِنْدَنَا مِنْ جَائِزَةٍ كَمَا كُنَّا نُعْطِيهِ كُلَّ سَنَةٍ.
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَمَرَ بِحَبْسِهِمْ، فَبَعَثُوا إِلَى قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِهِمْ، فَقَدِمُوا عَلَيْهِ، فَكَسَرُوا السِّجْنَ فَخَرَجُوا، وَكَانَ الَّذِي صَالَحَهُمْ عَلَيْهِ عَبْد اللهِ بْن سَعْدٍ ثلَاثمائِة قِنْطَار ذَهَب، فَأَمَرَ بِهَا عُثْمَانُ لِآلِ الْحَكَمِ، قُلْتُ: أَوْ لِمَرْوَانَ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي»([11]).
والخبر ساقط بالواقدي، وأما أسامة بن يزيد الليثي فضعيف تركوا حديثه بأخرة([12]).
وروى الطبري فقال: «وَكَتَبَ إِلَيَّ السَّرِيُّ، عنْ شُعَيْبٍ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ أبِي حَارِثَةَ وَأَبِي عُثْمَانَ قَالَا: لَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ أَقَرَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَلَى عَمَلِهِ، وَكَانَ لا يَعْزِلُ أَحَدًا إِلَّا عَنْ شَكَاةٍ أَوِ اسْتِعْفَاءٍ مِنْ غَيْرِ شَكَاةٍ، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدٍ مِنْ جُنْدِ مِصْرَ، فَأَمَّرَ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَعْدٍ عَلَى جُنْدِهِ، وَرَمَاهُ بِالرِّجَالِ، وَسَرَّحَهُ إِلَى إِفْرِيقِيَّةَ وَسَرَّحَ مَعَهُ عَبْدَ اللهِ بْنَ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْقَيْسِ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ نَافِعِ بْنِ الْحُصَيْنِ الْفِهْرِيَّيْنِ، وَقَالَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدٍ: إِنْ فَتَحَ اللهُ D عَلَيْكَ غَدًا إِفْرِيقِيَّةَ، فَلَكَ مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ خُمُسُ الْخُمُسِ مِنَ الْغَنِيمَةِ نَفْلًا.
وَأَمَرَ الْعَبْدَيْنِ عَلَى الْجُنْدِ، وَرَمَاهُمَا بِالرِّجَالِ، وَسَرَّحَهُمَا إِلَى الأَنْدَلُسِ، وَأَمَرَهُمَا وَعَبْدَ اللهِ بْنَ سَعْدٍ بِالاجْتِمَاعِ عَلَى الأجل، ثُمَّ يُقِيمُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدٍ فِي عَمَلِهِ وَيَسِيرَانِ إِلَى عَمَلِهِمَا فَخَرَجُوا حَتَّى قَطَعُوا مِصْرَ، فَلَمَّا وَغَلُوا فِي أَرْضِ إِفْرِيقِيَّةَ فَأَمْعَنُوا انْتَهَوْا إِلَى الأجل، وَمَعَهُ الأَفْنَاءُ، فَاقْتَتَلُوا، فَقُتِلَ الأجل، قَتَلَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدٍ وَفَتَحَ إِفْرِيقِيَّةَ سَهْلَهَا وَجَبَلَهَا ثُمَّ اجْتَمَعُوا عَلَى الإِسْلامِ، وَحَسُنَتْ طَاعَتُهُمْ، وَقَسَمَ عَبْدُ اللهِ مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِمْ عَلَى الْجُنْدِ، وَأَخَذَ خُمُسَ الْخُمُسِ، وَبَعَثَ بِأَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ إِلَى عُثْمَانَ مَعَ ابْنِ وَثِيمَةَ النَّصْرِيِّ، وَضَرَبَ فُسْطَاطًا فِي مَوْضِعِ الْقَيْرَوَانِ، وَوَفَدَ وَفْدًا، فَشَكَوْا عَبْدَ اللهِ فِيمَا أَخَذَ، فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا نَفَلْتُهُ -وَكَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ- وَقَدْ أَمَرْتُ لَهُ بِذَلِكَ، وَذَاكَ إِلَيْكُمُ الآنَ، فَإِنْ رَضِيتُمْ فَقَدْ جَازَ، وَإِنْ سَخِطْتُمْ فَهُوَ رَدٌّ قَالُوا: فَإِنَّا نَسْخَطُهُ، قَالَ: فَهُوَ رَدٌّ، وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بِرَدِّ ذَلِكَ وَاسْتِصْلاحِهِمْ، قَالُوا: فَاعْزِلْهُ عَنَّا، فَإِنَّا لا نُرِيدُ أَنْ يَتْأَمَّرَ عَلَيْنَا، وَقَدْ وَقَعَ مَا وَقَعَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنِ اسْتَخْلِفْ عَلَى إِفْرِيقِيَّةَ رَجُلا مِمَّنْ تَرْضَى وَيَرْضَوْنَ وَاقْسِمِ الْخُمُسَ الَّذِي كُنْتُ نَفَلْتُكَ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ سَخِطُوا النَّفْلَ، فَفَعَلَ، وَرَجَعَ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَعْدٍ إِلَى مِصْرَ وَقَدْ فَتَحَ إِفْرِيقِيَّةَ»([13]).
رواية ساقطة بمرة، فسيف بن عمر الضَّبِّي وضاع([14])، وشعيب بن إبراهيم الكوفي فيه جهالة([15])، وأبو حارثة لم أعرفه([16])، وأبو عثمان لم أعرفه كذلك([17]).
فتلك هي الروايات التي وردت بأسانيد في المسألة، ولا طريق للمؤرخين إلا من خلال تلك الأسانيد، وحالها كما قد رأيت، فلا عبرة بها ولا بأمثالها! ولذلك قال ابن العربي المالكي: «وأما إعطاؤه خُمس إفريقية لواحد فلم يصح»([18]).
قال الشيخ محب الدين الخطيب تعليقًا على كلام ابن العربي الماضي آنفًا: «والذي صح هو إعطاؤه خمس الخمس لعبد الله بن أبي سرح جزاء جهاده المشكور، ثم عاد فاسترده منه. جاء في حوادث سنة 27 من تاريخ الطبري([19]) أن عثمان لما أمر عبد الله بن سعد بن أبي سرح بالزحف من مصر على تونس لفَتْحِهَا قال له: «إن فتحَ الله عليك غدًا إفريقية فلك مما أفاء الله على المسلمين خمس الخمس من الغنيمة نفلًا».
فخرج بجيشه حتى قطعوا أرض مصر وأوغلوا في أرض إفريقية وفتحوها سهلها وجبلها، وقسم عبد الله على الجند ما أفاء الله عليهم، وأخذ خمس الخمس وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان مع وثيمة النصري.
فشكا وفد ممن معه إلى عثمان ما أخذه عبد الله بن سعد، فقال لهم عثمان: أنا أمرت له بذلك، فإن سخطتم فهو رد، قالوا: إنا نسخطه، فأمر عثمان عبد الله بن سعد بأن يرده فرده، ورجع عبد الله بن سعد إلى مصر وقد فتح إفريقية، وقد ثبت في السنة تنفيل أهل الغناء والبأس في الجهاد، كما فعل النبي ق في مكافأة سلمة بن الأكوع في إغارة عبد الرحمن الفزاري على سرح النبي ق»([20]).
✍ قلت: والإسناد المذكور قد سبق بيان ضعفه، ومع ذلك فلو ثبت لكان حجة عليهم؛ إذ الذي كان أعطاه عثمان لعبد الله بن سعد بن أبي السرح إنما كان خمس الخمس، ومع أن هذا جائز أن يعطيه إياه كما دلل عليه الشيخ محب الدين الخطيب([21])، إلا أنه لما رأى سخط الناس رده، فما عليه أن يكون قد أخذ حقًّا -تنزلًا- ثم رده لأصحابه مرة أخرى؟! فلا يُثَرِّب على عثمان بذلك إلا حاقد لا يعرف دين الله تعالى.
رَدَّ عثمان على كل تلك الدعاوى كما في رواية تاريخ دمشق؛ حيث قال ا: «وقالوا: إني أعطيت ابن أبي سرح ما أفاء الله عليه، وإني إنما نفلته خمس ما أفاء الله عليه من الخمس فكان مائة ألف، قد نفل مثل ذلك أبو بكر وعمر، فزعم الجند أنهم يكرهون ذلك فرددته عليهم، وليس ذلك أكذاك؟ فقالوا: نعم، وقالوا: إني أحب أهل بيتي وأعطيهم، فأما حبي فإنه لم يمل معهم على جور، بل أحمل الحقوق عليهم، وأما إعطاؤهم فإني إنما أعطيهم من مالي، ولا أستحل أموال المسلمين لنفسي ولا لأحد من الناس، ولقد كنت أعطي العطية والرغيبة من صلب مالي أزمان رسول الله ق وأبي بكر وعمر، وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي وفني عمري ووزعت الذي لي في أهلي قال الملحدون ما قالوا؟»([22]).
والواجب قبول قول عثمان ا؛ لأن الأصل حمل أفعال الحاكم على ما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين، ولا ينتقل عن هذا الأصل إلا بدليل، والثابت أن عثمان ا إنما اشترى منه مروان الأموال التي يصعب نقلها إلى دار الخلافة.
يقول محمد صالح الغرسي: «وكان قد بقي من الأخماس والحيوان في فتح إفريقية ما يشقُّ حمله إلى المدينة، فاشتراه مروان بمئة ألف درهمٍ، ونقد أكثرها، وبقيت منه بقيَّة، وسبق إلى عثمان مبشِّرًا بالفتح، وكانت قلوب المسلمين في غاية القلق خائفةً من أن يصيب المسلمين نكبةٌ من أمر إفريقية، فوهب له عثمان ما بقي جزاء بشارته، وللإمام أن يعطي البشير ما يراه لائقًا بتعبه، وخطر بشارته، هذا هو الثَّابت في عطيَّة عثمان لمروان، وأما ما ذكروه من إعطائه خمس إفريقية فكذبٌ»([23]).
وإما إعطاؤه أقاربه فقد كان ذلك من ماله الخاص، لا من أموال الدولة كما مرَّ، قال الإمام الطبري: «وكان عثمان قد قسم ماله وأرضه في بني أمية، وجعل ولده كبعض من يُعطي، فبدأ ببني أبي العاص، فأعطى آل الحكم رجالهم عشرة آلاف، عشرة آلاف، فأخذوا مائة ألف، وأعطى بني عثمان مثل ذلك، وقسم في بني العاص وفي بني العيص وفي بني حرب»([24]).
وليس في تقريب عثمان لمروان بن الحكم منقصة أو مذمة، بل هو من صلة الرحم وتقريب ذوي المروءات، بل هو فعل علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ب كذلك.
قال الإمام ابن كثير: «وقال أبو الْحَكَمِ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: كَانَ عَلِيٌّ يَوْمَ الْجَمَلِ حِينَ انْهَزَمَ النَّاسُ يُكْثِرُ السُّؤَالَ عَنْ مَرْوَانَ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّهُ يعطفني عَلَيْهِ رَحِمٌ مَاسَّةٌ، وَهُوَ سَيِّدٌ مِنْ شَبَابِ قُرَيْشٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: مَنْ تَرَكْتَ لِهَذَا الأمْرِ مِنْ بَعْدِك؟ فقال: أَمَّا الْقَارِئُ لِكِتَابِ اللهِ، الْفَقِيهُ فِي دِينِ اللهِ، الشَّدِيد فِي حُدُودِ الله، مروانُ بْنُ الْحَكَمِ»([25]).
يقول ابن الوزير: «وليس من رقَّ لرحم من أرحامه ممن غضب عليه رسول الله ق يعد مخالفًا له S، فقد رق العباس عمُّ رسول الله ق لقريش في قصَّة الفتح، وخاف أن تستأصل شأفتهم، فسار الليل إليهم وأخبر أبا سفيان بخبر رسول الله ق، وجاء به، وأقرّه رسول الله ق على ذلك، وقد كان عثمان شفيقًا رحيمًا، وقد فعل مثل هذا في حياة رسول الله ق فلم ينكر عليه، وذلك أنَّه شفع يوم الفتح في أخيه من الرَّضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح بعد أن أمر النّبيُّ ق بقتله، وقد عفا علي S عن مروان بن الحكم يوم الجمل وقال: أدركتني عليه رحم ماسَّة، بل قد قال نوح S: [ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ] {هود:45}، مع أنه الذي قال: [ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ] {نوح:26} فما خص ولده إلا لرحامته.
وأمَّا صلة عثمان للحكم ولغيره من قرابته بالأموال الكثيرة، فلا شكَّ أنَّه ابتلي بقرابة سوء، فكان يتألَّفهم، وله حجَّة واضحة في فعل رسول الله ق يوم حنين، وإعطائه المنافقين دون المؤمنين، فإنَّ مئة ناقة لواحد من المنافقين في زمانه S أكثر مما أعطاهم عثمان بالنّظر إلى زمانه، فإنَّ الأموال في زمانه كانت قد كثرت كثرة عظيمة»([26]).
لو صح أن عثمان قد أعطى فلانًا أرضًا أو أقطعه شيئًا فلا بُدَّ أن يُعلم أن ذلك كان لمصلحة الإسلام والمسلمين، لا لمجرد مصالح شخصية، فإن تعمير الأرض الموات لينتفع المسلمون من خراجها خيرٌ من تركها خرابًا لا ينتفعون بها.
قال ابن رجب الحنبلي: «وممن قال: إن عثمان ا إنما أقطع من الصوافي أبو عبيد أيضًا؛ لأنه يرى أن أرض السواد كالوقف، قال: وهذه الصوافي كان أهلها قد جلسوا عنها، فلم يبق بها ساكنٌ ولا لها عامرٌ، فكان حكمها إلى الإمام كالموات، قال: فأقطعها عثمان ا لمن يَعْمُرُهَا ويقوم بخراجها، وهذا بناء منه على أن موات أرض السواد لا يملك إلا بالإحياء، فيكون فيه الخراج على من عمره»([27]).
ولو كان الإقطاع وتخصيص فرد من الأمة حرامًا لما أقطع عمر عليًّا أرضًا، فقد روى يحيى بن آدم في الخراج بسنده عن الْحَسَنِ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ الْحَسَنِ يَقُولُ: «إِنَّ عَلِيًّا ا سَأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ا فَأَقْطَعَهُ يَنْبُعَ»([28]).
فلو كان حرامًا لسرى الحكم إلى مَن قَبِلَ الحرام، وهو علي بن أبي طالب، وحاشاهم جميعًا من قبول الحرام، والحمد لله رب العالمين.
([1]) أنساب الأشراف، البلاذري (5/514).
([2]) قال الذهبي: «... صَاحب التصانيف مجمع على تَركه، وَقَالَ ابْنُ عدي: يروي أَحَادِيث غير مَحْفُوظَة وَالْبَلَاء مِنْهُ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: كَانَ يضع الحَدِيث، ...». المغني في الضعفاء، الذهبي (2/619).
([3]) قال ابن الجوزي: «... يروي عن أبيه عن جده، قال أحمد: منكر الحديث ضعيف، وترك يحيى بن سعيد حديثه، وقال يحيى بن معين: ليس بشيء، وقال في رواية: بنو زيد بن أسلم ليسوا بشيء، أسامة وعبد الله وعبد الرحمن، قال علي: ليس في ولد زيد بن أسلم ثقة، وفي رواية عن علي أنه ضعف عبد الرحمن بن زيد، وذكر عن إخوته أسامة وعبد الله صلاحًا، وقال ابن حبان كان أسامة يهِمُ في الأخبار، فيرفع الموقوف، ويصل المقطوع، وقال ابن عدي: لم أجد له حديثًا منكرًا لا إسنادًا ولا متنًا، وأرجو أنه صالح». الضعفاء والمتروكين، ابن الجوزي (1/95).
([4]) قال الذهبي: «قال أحمد بن حنبل: إنما كان صاحب سمر ونسب، ما ظننت أن أحدًا يحدِّثُ عنه، وقال الدارقطني وغيره: متروك. وقال ابن عساكر: رافضي، ليس بثقة». ميزان الاعتدال، الذهبي (4/304).
([5]) قال البخاري: «... الكَلبِيُّ، تركه يَحيى بْنُ سَعِيد، وابْنُ مَهديّ. وقَالَ لنا عليٌّ: حدَّثنا يَحيى بْن سَعِيد، عَنْ سُفيان قَالَ: قَالَ لي الكَلبيُّ: قَالَ لي أَبو صالح: كل شيءٍ حدَّثتُكَ فهو كَذِبٌ...». التاريخ الكبير، البخاري، بحواشي محمود خليل (1/101).
قال ابن حبان: «أخبرنَا عبد الملك بن مُحَمَّد قَالَ: حَدثنَا عَليّ بن الْمَدِينِيّ قَالَ: يحيى بَان سعيد الْقطَّان، عَن سُفْيَان قَالَ: قَالَ لي الْكَلْبِيّ: قَالَ لي أَبُو صَالح: كل مَا حدثتك فَهُوَ كذب، قَالَ أَبُو حَاتِم الْكَلْبِيّ: هَذَا مذْهبه فِي الدَّين، ووضوح الْكَذِب فِيهِ أظهر من أَن يحْتَاج إِلَى الإغراق فِي وَصفه، يروي عَن أبي صَالح عَن ابن عَبَّاس التَّفْسِير، وَأَبُو صَالح لم يرَ ابن عَبَّاس، وَلَا سمع مِنْهُ شَيْئا، وَلَا سمع الْكَلْبِيُّ من أبي صَالح إِلَّا الْحَرْف بعد الْحَرْف، فَجعل لَمَّا احْتِيجَ إِلَيْهِ تخرج لَهُ الأَرْض أفلاذ كَبِدهَا لَا يحل ذكره فِي الْكتب، فَكيف الِاحْتِجَاج بِهِ؟». المجروحين، ابن حبان (2/255).
([6]) قال ابن الجوزي: «لوط بن يحيى أبو مخنف، قال يحيى: ليس بثقة، وقال مرة: ليس بشيء، وقال أبو حاتم الرازي: متروك الحديث، وقال الدارقطني: ضعيف». الضعفاء والمتروكين، ابن الجوزي (3/28).
وقال الذهبي: «لوط بن يحيى أبو مخنف ساقط، تركه أبو حاتم، وقال الدارقطني: ضعيف». المغني في الضعفاء، الذهبي (2/535)
([7]) أنساب الأشراف 5/512 والرواية منقولة عن الطبقات الكبرى، ابن سعد (3/47) ط العلمية.
([8]) قال الذهبي: «فَإِنَّ مَوْلِدَه فِيْمَا قَالَهُ دُحَيْمٌ وَأَحْمَدُ بنُ صَالِحٍ: فِي سَنَةِ خَمْسِيْنَ، وَفِيْمَا قَالَهُ خَلِيْفَةُ بنُ خَيَّاطٍ: سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِيْنَ». سير أعلام النبلاء (5/326) ط الرسالة.
([9]) أنساب الأشراف، البلاذري (5/515).
([10]) قال الحافظ: «مقبولة من الرابعة». تقريب التهذيب (ص755).
«وهذه المرتبة حديثها ضعيفٌ عند جمهور أهل العلم، فحكم حديث الراوي المقبول هو الضعف؛ لأنه كحكم حديث الراوي المجهول، والجمهور على رده وتضعيفه». مصطلح «مقبول» عند ابن حجر، وتطبيقاته على الرواة من الطبقتين الثانية والثالثة في كتب «السنن الأربعة»، محمد راغب راشد الجيطان (ص277) رسالة ماجستير 2010م.
([11]) تاريخ الطبري (4/256).
([12]) قال ابن الجوزي: «يروي عن سعيد بن المسيب، قال أحمد: روى عن نافع أحاديث مناكير، ترك يحيى بن سعيد حديثه، وقال النسائي: ليس بالقوي، واختلفت الرواية عن يحيى، فقال مرة: ثقة صالح، وقال مرة: ليس به بأس، وقال مرة: ترك حديثه بأخره. وقال (أي: ابن الجوزي) قلت: واعلم أن أسامة بن زيد في الحديث ستة، ليس فيهم مطعون سوى هذين». الضعفاء والمتروكين، ابن الجوزي (1/96).
([13]) تاريخ الطبري (4/252: 254).
([14]) قال ابن الجوزي: «قَالَ يحيى: ضَعِيف الحَدِيث، فلْسٌ خَيرٌ مِنْهُ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث، وَقَالَ النَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ: ضَعِيف، وَقَالَ ابْن حبَان: يروي الموضوعات عَن الْأَثْبَات، وَقَالَ: إِنَّه يضع الحَدِيث». الضعفاء والمتروكين، ابن الجوزي (2/35).
([15]) قال الذهبي: «راوية، كتب سيف عنه، فيه جهالة». ميزان الاعتدال (2/275). وتبعه ابن حجر. لسان الميزان (4/247) ت أبي غدة، وقال ابن عدي: «لَهُ أَحَادِيثُ وَأَخْبَارٌ، وَهو ليس بذلك المعروف ومقدار ما يروي من الحديث وَالأَخْبَارِ لَيْسَتْ بِالْكَثِيرَةِ وَفِيهِ بَعْضُ النَّكِرَةِ لأَنَّ فِي أَخْبَارِهِ وَأَحَادِيثِهِ مَا فِيهِ تَحَامُلٌ عَلَى السَّلَفِ». الكامل في ضعفاء الرجال (5/7).
([16]) قال الباحث «محمد بن عبد الله بن عبد القادر غبان الصبحي» في رسالة ماجستير له بعنوان «فتنة مقتل عثمان بن عفان» (2/727): «لم أجد له ترجمة».
([17]) قال الباحث أكرم الفالوجي في كتابه «المعجم الصغير لرواة الإمام ابن جرير الطبري» (2/733(: «أبو عثمان يزيد بن أسيد، الغساني من السابعة، فما فوقها، لم أعرفه».
([18]) العواصم من القواصم (1/100) ط الأوقاف السعودية.
([19]) انظر: تاريخ الطبري (5/49) مصر (1/2814 – 2815) أوربا.
([20]) انظر: المنتقى، المجد ابن تيمية (4314) وفي غزوات أخرى (4319، 4320، 4321)، العواصم من القواصم (1/100).
([21]) «على أنه قد ذهب مالك وجماعة إلى أن الإمام يرى رأيه في الخمس، وينفذ فيه ما أداه إليه اجتهاده، وإن أعطاه لواحد جائز» انظر: العواصم من القواصم (ص112) ط دار الجيل.
([22]) تاريخ دمشق، ابن عساكر (39/313).
([23]) فصل الخطاب في مواقف الأصحاب، محمَّد صالح الغرسي (ص84).
([24]) تاريخ الطبري (4/348).
([25]) البداية والنهاية (8/283) ت شيري.
([26]) الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم ق (1/284).
([27]) الاستخراج لأحكام الخراج، ابن رجب الحنبلي (ص١٣٢).
([28]) الخراج، يحيى بن آدم (ص٧٣).