طلَبُ أبي بكر الإقالةَ لا يصح مع نكارة في متنه، قال الحافظ: «حَدِيثُ: «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: أَقِيلُونِي مِنَ الْخِلَافَةِ»، رَوَاهُ أَبُو الْخَيْرِ الطَّالَقَانِيُّ فِي السُّنَّةِ، مِنْ طَرِيقِ شَبَابَةَ بْنِ سَوَّارٍ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بُكَيْرٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ مُنْكَرٌ مَتْنًا، ضَعِيفٌ مُنْقَطِعٌ سَنَدًا»([1]).
وقد ذكرنا ذلك تفصيلًا في كتاب «الصِّدِّيق» وهنا يسقط البحث والشبهة أصلًا؛ إذ لا تعارض بين ثابت صحيح وسراب لا يصح.
وعلى فرض صحته فعين الفعل وقع من علي.
ونقول: لو صحت الرواية لكانت منقبةً للصديق ا وهضمًا لحق نفسه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية V: «وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ كَانَتْ إِمَامَتُهُ حَقًّا كَانَتِ اسْتِقَالَتُهُ مِنْهَا مَعْصِيَةً، فَيُقَالُ: إِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ، فَإِنَّ كَوْنَهَا حَقًّا إِمَّا بِمَعْنَى كَوْنِهَا جَائِزَةً، وَالْجَائِزُ يَجُوزُ تَرْكُهُ، وَإِمَّا بِمَعْنَى كَوْنِهَا وَاجِبَةً إِذَا لَمْ يُوَلُّوا غَيْرَهُ، وَلَمْ يُقِيلُوهُ، وَأَمَّا إِذَا أَقَالُوهُ وَوَلَّوْا غَيْرَهُ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ، وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَعْقِدُ بَيْعًا أَوْ إِجَارَةً، وَيَكُونُ الْعَقْدُ حَقًّا، ثُمَّ يَطْلُبُ الْإِقَالَةَ وَهُوَ لِتَوَاضُعِهِ وَثِقَلِ الْحِمْلِ عَلَيْهِ قَدْ يَطْلُبُ الْإِقَالَةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْهُ، وَتَوَاضُعُ الْإِنْسَانِ لَا يُسْقِطُ حَقَّهُ»([2]).
وقد طلب علِيٌّ ا الاستعفاء من الخلافةِ، بل وأمر الناس أن يبايعوا غيرَهُ، قال الشريف الرضي: «ومن كلامٍ له S لَمَّا أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان: دَعُوني وَالْتَمِسُوا غَيْرِي؛ فإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْرًا لَهُ وُجُوهٌ وَأَلْوَانٌ؛ لَا تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ، وَلَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ، وَإِنَّ الْآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ، وَالْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ، وَاعْلَمُوا أَنِّي إنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، وَلَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَعَتْبِ الْعَاتِبِ، وَإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ؛ وَلَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وَأَطْوَعُكُمْ لِمنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ، وَأَنَا لَكُمْ وَزِيرًا، خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيرًا!»([3]).
وقال أيضًا: «وَاللهِ مَا كَانَتْ لِي فِي الْخِلَافَةِ رَغْبَةٌ، وَلَا فِي الْوِلَايَةِ إِرْبَةٌ، وَلكِنَّكُمْ دَعَوْتُمُونِي إِلَيْهَا، وَحَمَلْتُمُونِي عَلَيْهَا»([4]).
للخليفة أن يتنازل عن الخلافة إذا رأى المصلحة في ذلك.
قال الشيخ الشنقيطي: «إن كان عزله لنفسه لموجب يقتضي ذلك كإخماد فتنةٍ كانت ستشتعل لو لم يعزل نفسه، أو لعلمه من نفسه العجز عن القيام بأعباء الخلافة، فلا نزاع في جواز عزله نفسَه؛ ولذا أجمع جميع المسلمين على الثناء على سبط رسول الله ق الحسن بن علي ب بعزله نفسه وتسليمه الأمر إلى معاوية بعد أن بايعه أهل العراق؛ حقنًا لدماء المسلمين، وأثنى عليه بذلك قبل وقوعه جدُّه رسول الله ق بقوله: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين»، أخرجه البخاري وغيره من حديث أبي بكرة ا»([5]).
فلو ثبت هذا القول عن الصديق لما كان فيه أي إشكال شرعي، ويدلك عليه فعل علي والحسن ب.
أما عدم استسلام عثمانَ للمنافقين الذين خرجوا عليه فهذا واجب شرعي؛ حيث لا يجوز له النزول على رأيهم فالنبي ق أمره بذلك، فقد صَحَّ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ ق إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ق، فَلَمَّا رَأَيْنَا رَسُولَ اللهِ ق أَقْبَلَتْ إِحْدَانَا عَلَى الْأُخْرَى، فَكَانَ مِنْ آخِرِ كَلَامٍ كَلَّمَهُ، أَنْ ضَرَبَ مَنْكِبَهُ وَقَالَ: «يَا عُثْمَانُ، إِنَّ اللهَ D عَسَى أَنْ يُلْبِسَكَ قَمِيصًا، فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى خَلْعِهِ، فَلَا تَخْلَعْهُ حَتَّى تَلْقَانِي. يَا عُثْمَانُ، إِنَّ اللهَ عَسَى أَنْ يُلْبِسَكَ قَمِيصًا، فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى خَلْعِهِ، فَلَا تَخْلَعْهُ حَتَّى تَلْقَانِي» ثَلَاثًا...»([6]).
فهذا أمر النبي ق لعثمان ألَّا يخلع نفسه من الخلافة.
وهؤلاء الثائرون ما كانوا إلا مجرد مجموعةٍ من «المنافقين» لا يدخلون قط تحت أهل الحل والعقد حتى يكون لقولهم اعتبار، فإن أحدًا من أصحاب رسول الله ق لم يشترك معهم قط، وفي الحديث السابق وَسَمَهم النبي ق بتلك السمة: «فَإِنْ أَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ عَلَى خَلْعِهِ فَلَا تَخْلَعْهُ»، فكيف يُقبل أن يقضي على الخليفة والناس حفنة من المنافقين؟!
ولو تنازل لهم عن الخلافة لسقطت هيبة الدولة والخلافة والخليفة، وقد لخَّص عبد الله بن عمر ذلك كما في تاريخ دمشق عن أبي القاسم الشنوي، عن نافع قال: ورافقني بالساحل فسألته عن أمر عثمان فقال: سمعت عبد الله ابن عمر يقول: «أرسل إليَّ وهو محصور وقد فتح الباب ودخل عليه الناس، فقال: ما ترى فيما يعرض هؤلاء، وهؤلاء الذين يأمرونه بالاستقتال، والذين يحصرونه على الخلع أو القتل؟
فقال: وما يعرضون عليك؟
فقال: أما هؤلاء فالاستقتال، ووالله ما أجد ما أمتنع به ولا أمنعهم منه، وأما هؤلاء فإنهم يعرضون عليَّ أن أخلعها وألحق بمنزلي، فوالله لهيَ أهون عليَّ إن لم أؤجر عليها من قتالي.
فقلت له: إن يستقتل يقتل أعلام الدين ولا يبقى أحد فلا يفعل، وأما ما عرض هؤلاء فلا يفعل، أمخلد أنت إذا خلعتها؟ قال: لا.
فقاتِلوك إن أنت لم تخلعها؟ قال: زعموا ذلك.
قلت: يملكون تعجيل يومك أو تأخيره؟ قال: لا.
قلت: أيملكون لك جنة أو نارًا؟ قال: لا.
قلت: فلا أرى أن تخلع قميصًا قمَّصَكَه الله فتكون سنة، كلما كره قوم خليفتهم أو إمامهم خلعوه، حتى لا يقوم لله دين ولا للمسلمين نظام، وأدخل معي في ذلك غيري، ففعل فأدخل في ذلك من شهده أو غاب عنه، فأجمع الملأ أن الخير في الصبر»([7]).
فالاستسلام لأمثال هؤلاء الغوغاءِ فيه تضييع للدين والدنيا معًا على السواء.
بل إن أهل الحل والعقد إذا أرادوا خلعَ الإمامِ بلا سبب فلا يجُوز لهم ذلك:
جاء في موسوعة الإجماع: «لا يجوز لأهل الحل والعقد خلع الإمام ما دام لم يأت بما يستحق عزله، قال أبو المعالي الجويني (478هـ) وقد نقل الإجماع في المسألة: «من انعقدت له الإمامة بعقد واحد فقد لزمت، ولا يجوز خلعه من غير حدث وتغير أمر، وهذا مجمع عليه»، ونقله القرطبي (ت671هـ) والمرداوي (ت885هـ): «وهل لهم عزله إن كان بسؤاله؟ فحكمه حكم من عزل نفسه، وإن كان بغير سؤاله لم يجز بغير خلاف»، وقال الحجاوي (ت960هـ): «ولهم عزله إن سأل العزل؛ لقول الصديق: (أقيلوني أقيلوني)، وإلا حرم إجماعًا»، وقال البهوتي (ت1051هـ): «وإن لم يسأل العزل حرم عزله إجماعًا».
• الموافقون على الإجماع: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
..، ويستدل على ذلك يلي:
1. لأنا لو جوَّزْنا ذلك لأدى إلى الفساد؛ لأن البشر تتغير أحوالهم في كل وقت، فيعزلون واحدًا ويولُّون آخر، وفي كثرة العزل والتوليةِ زوالُ الهيبة، وفوات الغرض من انتظام الأمر.
2. ولأنه الحافظ الأمين، فخلعه بغير ذنب جنته يداه مخالفة لهدي رسول الله ق.
النتيجة: صحة الإجماع على أنه لا يجوز عزل الإمام بغير عذر»([8]).
بل حتى في حال الفسق اختلف أهل العلم في جواز عزله من أهل الحل والعقد، فقال بعضهم بجواز عزله وصحته، وقال بعضهم بعدم جواز ذلك، وهو الأقوى لما علِمْتَ، فقد جاء في موسوعة الإجماع ما نصه: «لا ينعزل الإمام بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق:
• المراد بالمسألة: اختلف أهل العلم فيما إذا انعقدت الإمامة لعدل ثم طرأ عليه فسق، فمن قائل باستدامةِ العقد ما لم يصل به الفسق إلى ترك الصلاة أو الكفر، ومن قائل بأنه يستحق العزل وتنتقض بيعته، وفصل آخرون في قول ثالث.
بَيْدَ أنه من المستقر عليه أنه ليس كل من استحق العزل يُعزل، وإنما مدار الأمر على فقه السياسة الشرعية، والمصالح المبتغاة من ذلك، وعظيم الأضرار التي ستنجم بالبلاد والعباد فيما لو فشلت محاولة عزله، وبالأحرى فإن كانت ثمة فتنة أكبر لم يجز عزله، ألَا ترى أنه لا يجوز إنكار المنكر بمنكر أعظم منه؟
أما إذا أُمنت الفتنة، وقدر على عزله بوسيلة لا تؤدي إلى فتنة، فَحَالَئِذٍ يتولى أهل الحل والعقد القيام بعزله، أليسوا هم الذين دشنوا معه عقد الإمامة؟ فهم الذين يملكون نقضه.
• من نقل الإجماع: أبو اليسر البزدوي (ت493هـ) قال: «وجه قول أهل السنة والجماعة في أن الإمام إذا جار أو فسق لا ينعزل إجماع الأمة؛ فإنهم رأوا الفساق أئمة». النووي (ت676هـ) قال: «أجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق»، وقال أيضًا: «قال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين: لا ينعزل بالفسق، والظلم، وتعطيل الحقوق»، نقل المباركفوري (ت1353هـ) وملا علي القاري (ت1014هـ) قالا: «أجمع أهل السنة على أن السلطان لا يُعزل بالفسق؛ لتهييج الفتن في عزله، وإراقة الدماء، وتفريق ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه».
• الموافقون على الإجماع: الحنفية، والمالكية، وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي، ومذهب الحنابلة، والظاهرية إِنْ كفَّ وَآبَ إلى الحق.
ونُسب إلى الصحابة الذين اعتزلوا الفتنة التي حدثت بين علي ومعاوية ب، وهم: سعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، وابن عمر، ومحمد بن مسلمة، رضي الله عنهم وأرضاهم، وهو قول الحسن البصري، ومذهب عامة أهل الحديث»([9]).
وبه تبين الفرق بين قول أبي بكر: «أقيلوني» -على فرض صحته- وبين رفض عثمان أن يخلع الخلافة؛ إذ إن الذين ثاروا على عثمان لم يكونوا أهل حلٍّ وعقد، ولم يثوروا بالحق، بل بالباطل، وقد رد عليهم عثمان أباطيلهم واتهاماتهم، وردهم علِي بن أبي طالب ا وناظرهم، وقام الصحابة الذين هم أهل الحل والعقد قومة رجل واحد دفاعًا عن عثمان، لكنه رفض؛ لمسوغاتٍ شرعيةٍ مُفصلةٍ في جوابنا على شبهة: (زعم الشيعة أن الصحابة أجمعوا على قتل عثمان ا، وأنه حلال الدم).
فكان رفضُ عثمان ا أن ينزع قميصًا قمَّصه الله إياه حقًّا من كل وجه.
([1]) التلخيص الحبير (4/128) ط العلمية.
([2]) منهاج السنة النبوية (5/496).
([3]) نهج البلاغة، الشريف الرضي (1/181 – 182).
([4]) نهج البلاغة، الشريف الرضي (1/184).
([5]) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/85) ط عطاءات العلم.
وقد اختلف أهل العلم في عزل الإمام نفسَه بلا مسوغ شرعي، لكن طلبًا للراحة من أعبائها على قولين، قال القلقشندي: «إِذا عزَلَ نَفسه لغير عجز وَلَا ضعف بل آثر التّرْك طلبًا للتَّخْفِيف حَتَّى لَا تكْثر أشغاله فِي الدُّنْيَا ويتسعَ حسابه فِي الْآخِرَة فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا الشَّافِعِيَّة وَجْهَان فِي التَّتِمَّة: أَحدهمَا: الانعزالُ؛ لِأَنَّهُ كَمَا لم تلْزمِ الْإِجَابَة إِلَى الْمُبَايعَة لَا يلْزمه الثَّبَات، وَالثَّانِي: لَا يَنْعَزِل؛ لِأَن الصّديق ا قَالَ: أقيلوني، وَلَو كَانَ عزل نَفسه مؤثرًا لما طلب الْإِقَالَة». مآثر الإنافة في معالم الخلافة (1/65). مع تَبيِنِنَا أن طلب أبي بكر للإقالة لم يثبت أصلًا.
([6]) مسند أحمد (41/113) ط الرسالة.
([7]) تاريخ دمشق، ابن عساكر (39/358).
([8]) موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي (5/249) بتصرف .
([9]) موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي (5/254).