قد كانت الفتيا عند عثمان وعلي والزبير وطلحة وأبي بن كعب الوضوء عند الإكسال، ثم لما علموا الناسخ لهذا أفتوا به، فوردت روايات صحيحة الأسانيد دلت على أن عثمان ا أفتى بالغسل لمجرد التقاء الختانين.
روى مالكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وعَائِشَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ، كَانُوا يَقُولُونَ: إِذَا مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ»([1]).
وفي مصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: «اجْتَمَعَ الْمُهَاجِرُونَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، إِنَّ مَا أَوْجَبَ الْحَدَّيْنِ، الْحَدَّ وَالرَّجْمَ، أَوْجَبَ الْغُسْلَ»([2]).
وفي مصنف عبد الرزاق عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: «كَانَ عُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَائِشَةُ، وَالْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ: إِذَا مَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ»([3]).
قال الحافظ: «وَأَمَّا كَوْنُهُمْ أَفْتَوْا بِخِلَافِهِ فَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي صِحَّتِهِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ نَاسِخُهُ فَذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَكَمْ مِنْ حَدِيثٍ مَنْسُوخٍ وَهُوَ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ الصِّنَاعَةِ الْحَدِيثِيَّةِ»([4]).
-
- الدليل على نسخ الفتيا
وأما كون تلك الفتوى منسوخةً بالفتوى الأخرى التي ثبتت عنهم أن أحد المذكورين في رواية البخاري -وهو أبي بن كعب- قد ثبت عنه أنه قال بالنسخ، فقد روى أحمد بسنده عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قَالَ سَهْلٌ الْأَنْصَارِيُّ
- وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ ق وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فِي زَمَانِهِ - حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ الْفُتْيَا الَّتِي كَانُوا يَقُولُونَ: «الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ رُخْصَةٌ كَانَ رَسُولُ اللهِ ق رَخَّصَ بِهَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أَمَرَنَا بِالِاغْتِسَالِ بَعْدَهَا»([5]).
ولذلك رجع من كان يقول بعدم الغسل من الإكسال لَمَّا علم الناسخ.
قال الحافظ: «وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْبَابِ مِنَ الِاكْتِفَاءِ بِالْوُضُوءِ إِذَا لَمْ يُنْزِلِ الْمُجَامِعُ مَنْسُوخٌ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ الْمَذْكُورَانِ فِي الْبَابِ قَبْلَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى النَّسْخِ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ الْفُتْيَا الَّتِي كَانُوا يَقُولُونَ الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ رُخْصَةٌ كَانَ رَسُولُ اللهِ ق رَخَّصَ بِهَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَمَرَ بِالِاغْتِسَالِ بَعْدُ، صَححهُ ابن خُزَيْمَة وابن حِبَّانَ، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: هُوَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، كَذَا قَالَ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى عِلَّتِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِ الزُّهْرِيِّ سَمِعَهُ من سهل، نعم أخرجه أَبُو دَاوُد وابن خُزَيْمَةَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ، وَلِهَذَا الْإِسْنَادِ أَيْضًا عِلَّةٌ أُخْرَى ذَكَرَهَا ابنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَفِي الْجُمْلَةِ هُوَ إِسْنَادٌ صَالِحٌ لِأَنْ يُحْتَجَّ بِهِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي النَّسْخِ»([6]).
وعليه فإن الآثار المروية عن عثمان أنه كان لا يوجب الغسل بالتقاء الختانين إنما هو على المذهب القديم قبل أن يبلغه الناسخ، وقد كان يفتي ا بعد أن بلغه الناسخ بما استقرت عليه الفتوى وأجمعت عليه الأمة، وهو وجوب الغسل بالتقاء الختانين، وهو ما ثبت عنه بالأسانيد الصحيحة كما سبق.
استدل الأميني بقوله تعالى: [ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ] {النساء:43} على أنها دليل على الغسل من الإكسال.
الآية ليست نصًّا في حصول الجنابة بمجرد الإدخال، حتى ولو كان العرب يطلقون الجنابة على مجرد الإدخال، فإن ألفاظ اللغة خصصها الشارع فنقلها من عموم حقيقتها اللغوية إلى خصوص معين، كلفظ الصلاة التي هي في لغة العرب مطلق الدعاء، فجاء الشرع فخصصها بأقوال وأفعال مخصوصة، وعليه فإن لفظ الجنابة حينما نقله الشارع إلى خصوص الإنزال لم يصح ساعتها الاستدلال بالعموم اللغوي، وهذا معلوم بلا خلاف بين السنة والشيعة، وعليه فإن الاستدلال المجرد بالآية في مقابل حديث: «إنما الماء من الماء» لا يصلح دليلًا إلا بانضمام حديث: «إذا التقى الختانان...».
قالت طائفة من علماء الشيعة بعدم الغسل من جماع المرأة في دبرها، واستدلوا على ذلك برواية الكافي عن البرقي رفعه قال: «إذا أتى الرجل المرأة في دبرها فلم ينزل فلا غسل عليهما، وإن أنزل فعليه الغسل، ولا غسل عليها»([7]).
يقول المجلسي: «واختلف الأصحاب في وجوب الغسل بوطء دبر المرأة، فالأكثرون ومنهم السيد، وابن الجنيد، وابن حمزة، وابن إدريس، والمحقق والعلامة في جملة من كتبه على الوجوب، والشيخ في الاستبصار والنهاية، وكذا الصدوق وسلار إلى عدم الوجوب، وأما دبر الرجل ففيه أيضًا خلاف، والسيد قائل هنا أيضًا بالوجوب، وتردد الشيخ في المبسوط، وذهب المحقق هنا إلى عدم الوجوب، وكذا في وطئ البهيمة، ذهب السيد (ره) إلى وجوب الغسل، بل ادَّعى السيد على الجميع إجماع الأصحاب»([8]).
بل إنه ردوا الأخبار التي جاءت بوجوب الغسل من إتيان المرأة في الدبر وأوَّلوها، يقول الطوسي: «فأما ما رواه الحسين بن سعيد عن ابن أبي عمير عن حفص بن سوقه عمن أخبره قال: سألت أبا عبد الله S عن رجل يأتي أهله من خلفها، قال: هو أحد المأتيين فيه الغسل.
فلا ينافي الأخبار الأولى؛ لأن هذا الخبر مرسل مقطوع مع أنه خبر واحد، وما كان هذا حكمه لا يعارض به الأخبار المسندة، على أنه يمكن أن يكون ورد مورد التقية؛ لأنه موافق لمذاهب بعض العامة، ولأن الذمة بريئة من وجوب الغسل، فلا يعلق عليها وجوب الغسل إلا بدليل يوجب العلم، وهذا الخبر من أخبار الآحاد التي لا يوجب العلم ولا العمل، فلا يجب العمل به»([9]).
فالطوسي يرى أن الأصل براءة الذمة، ويرد الرواية التي توجب الغسل لموافقتها مذهب أهل السنة([10]).
✍ ونقول: إن الجهل بمسألة فقهية كهذه لا يقدح في الخليفة؛ إذ لا يشترط أن يكون فقيهًا ملمًّا بكل مسألة فقهية.
([2]) مصنف عبد الرزاق (1/499) ط التأصيل الثانية، مصنف ابن أبي شيبة (1/85) ت الحوت.
([3]) مصنف عبد الرزاق (1/245) ت الأعظمي.
([4]) فتح الباري، ابن حجر (1/397).
([5]) مسند أحمد (27/35) ط الرسالة.
([6]) فتح الباري (1/397).
([7]) الكافي، الكليني (5/145) دار الحديث، الاستبصار، الطوسي (١/١٥٢).
([8]) مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، المجلسي (13/142).
([9]) الاستبصار، الطوسي (١/١٥٢).
([10]) قال النووي: «قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ الْإِيلَاجَ فِي فَرْجِ الْمَرْأَةِ وَدُبُرِهَا وَدُبُرِ الرَّجُلِ وَدُبُرِ الْبَهِيمَةِ وَفَرْجِهَا يُوجِبُ الْغُسْلَ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ، وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ». المجموع شرح المهذب (2/136) ط المنيرية.