الذي ثبت عن عثمان ا بالأسانيد الصحيحة أنه لم يترك تكبيرات الانتقال في الصلوات، فإذا عارض أحد ذلك قلنا: أنت نافٍ وغيرك مثبت، والمثبت مقدم على النافي؛ إذ إن معه زيادة علم؛ ويحتمل أن الذي نفى كان يصلي بعيدًا عن الإمام فلم يسمع منه التكبير وقد سمع غيره، أو أنه فعله مرة لبيان الجواز، وقد تكلم النووي عن حديث ابن أبزى([1]) فقال:
«والجواب عن حديث ابن أبزَى من أوجه أحدها: أنه ضعيف؛ لأن راويه الحسن بن عمران ليس معروفًا.
والثاني: أنه محمول على كونه لم يسمع التكبير وسمعه غيره، فقدمت رواية المثبت.
والثالث: لعله ترك التكبيرات أو نحوها؛ لبيان الجواز، وهذان الجوابان ذكرهما البيهقي، والجواب الأول جواب محمد بن جرير الطبري وغيره»([2]).
وبذلك فإن ما قيل في حديث ابن أبزى هو بعينه ما يُقال في حديث ابن نجيد، ودليل ذلك أن الثابت عن عثمان تكبيره في كل خفض ورفع، كما جاء في المسند عن أنس قال: «كان النبي ق، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، يتمون التكبير إذا رفعوا وإذا وضعوا»([3]).
وفي لفظ عبد الرحمن بن الأصم قال: «سئل أنس عن التكبير في الصلاة وأنا أسمع، فقال: يكبر إذا ركع، وإذا سجد، وإذا رفع رأسه من السجود، وإذا قام بين الركعتين، قال: فقال له حكيم: عمن تحفظ هذا؟ قال: عن رسول الله ق، وأبي بكر، وعمر، ثم سكت، قال: فقال له حكيم: وعثمان؟ قال: وعثمان»([4]).
وقال الشوكاني: «وَقَدْ حَكَى مَشْرُوعِيَّةَ التَّكْبِيرِ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ، قَالَ: وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ وَالْعُلَمَاءِ»([5]).
ورواية ابن الجنيد التي احتج بها الأميني ذُكر فيها ما يؤيد ما ذهبنا إليه، وهو قوله: «حين كبر وضعف صوته تركه»، فهذه قرينة قوية على عدم الترك، بل ضعف الصوت، الذي لا يسمعه إلا من قرب، فيظن البعيد أنه تركه، لكنه لم يتركه، بل غاية ما فيه أنه لم يسمعه؛ ولذا عقب الحافظ ابن حجر على هذا الخبر بقوله: «قلت: يعني ترك الجَهْر»([6]).
التكبير للركوع والسجود ليس ركنًا ولا واجبًا، ومن تركه عمدًا فصلاته صحيحة عند جمهور أهل العلم، قال الحافظ: «..، وفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْمُنْفَرِدِ وَغَيْرِهِ، وَوَجَّهَهُ بِأَنَّ التَّكْبِيرَ شُرِعَ لِلْإِيذَانِ بِحَرَكَةِ الْإِمَامِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُنْفَرِدُ، لَكِنِ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّكْبِيرِ فِي الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ لِكُلِّ مُصَلٍّ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى نَدْبِيَّةِ مَا عَدَا تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ»([7]).
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: «يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ تَكْبِيرَاتِ الاِنْتِقَالَاتِ سُنَّةٌ، قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: بِهَذَا قَال أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَعُمَرُ وَجَابِرٌ وَقَيْسُ بْنُ عُبَادَةَ وَالشَّعْبِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَطَّالٍ أَيْضًا عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَمَكْحُولٍ وَالنَّخَعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ»([8]).
وقد صح أن النبي ق لما علّم المسيء صلاته لم يذكر له تكبيرات الانتقال، ومن هذا الحديث ومن غيره أخذ العلماء سُنِّيَّة التكبيرات.
قال ابن عبد البر -بعد ذكره عدة روايات في ذلك-: «وهذا كله يدل على أن التكبير في الخفض والرفع لم يكن مستعملًا عندهم، ولا ظاهرًا فيهم ولا مشهورًا من فعلهم في صلاتهم، ولو كان كذلك ما كان أبو هريرة يفعله ويقول: إنه أشبههم صلاة برسول الله ق، ولا أنكر عكرمة على الشيخ ما قال له ابن عباس فيه: إنه السنة، ولا قال عمران بن حصين في مثل ذلك من صلاة علي: لقد ذكرني هذا صلاة محمد S.
ومثل هذا وأبين حديث أبي إسحاق السبيعي، عن يزيد بن أبي مريم، عن أبي موسى الأشعري قال: صلى بنا عليٌّ يوم الجمل صلاةً أذكرنا بها صلاة رسول الله، كان يكبر في كل خفضٍ ورفعٍ وقيامٍ وقعودٍ، قال أبو موسى: فإما نسيناها وإما تركناها عمدًا.
وروى الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال: حدثني أبو سلمة قال: رأيت أبا هريرة يكبِّر هذا التكبير الذي ترك الناس، قال: فقلت: يا أبا هريرة، ما هذا التكبير؟ فقال: إنها لصلاة رسول الله ق.
وقد ذكرنا أسانيد هذه الأحاديث كلها في التمهيد.
وهذا يدلك على أن التكبير في غير الإحرام لم ينقله السلف من الصحابة والتابعين على الوجوب، ولا على أنه من مؤكدات السنن، بل قد قال قوم من أهل العلم: إن التكبير إنما هو إِذْنٌ بحركات الإمام وشعار الصلاة، وليس بسنة إلا في الجماعة، وأما من صلى وحده فلا بأس عليه ألا يكبر»([9]).
وقال البغوي: «اتفقت الأمة على هذه التكبيرات، وهي ثنتان وعشرون تكبيرة في أربع ركعات، وكلها سنة إلا التكبيرةَ الأولى، فإنها فريضة لا تنعقد الصلاة إلا بها»([10]).
نقول: إن شنعتم على عثمان في ذلك، فهل تشنعون على مَن ذهب مِن الشيعة إلى عدم التكبير بعد السجدة الثانية حين ينهض؟ فبدل التكبير يقول: «بحول الله وقوته أقوم وأقعد»([11]).
وقد وقع الخلاف في ذلك بين علماء الإمامية، فسُئل علَّامتهم الحلي: «مسألة (114): ما يقول سيدنا في التكبير للقيام عقيب التشهد الأولى، هل هو واجب أم لا؟ وفي الفرق بين القراءة ودعاء القنوت بالتكبير، هل هو كذلك أم لا؟ وهل يجمع المصلي بين تكبيرة الفصل بين القراءة وبين القنوت وبين تكبيرة القيام عقيب التشهد، أم إذا أتى بالتكبيرة للقنوت قام عقيب التشهد من غير تكبير قائلًا: «بحول الله وقوته أقوم وأقعد»؟ بيّن لنا ذلك مفصلًا.
الجواب: لا شيء من تكبيرات الصلاة بواجب سوى تكبيرة الإحرام، وأصحابنا اختلفوا، فبعضهم يكبِّر للقنوت ويقوم إلى الثالثة ويقول: «بحول الله وقوته» وهو مذهب الشيخ، والمفيد يقول بالضد، ولم أعرف قائلًا يقول بالجمع بينهما»([12]).
([1]) عبد الرحمن بن أبْزَى، عن أبيه قال: «صليت خلف النبي ق فكان لا يتم التكبير». سنن أبي داود (1/222) ت محيي الدين عبد الحميد، مسند أحمد (24/70) ط الرسالة، مصنف ابن أبي شيبة (1/218) ت الحوت.
والحديث حكم عليه أهل العلم بالضعف، ومع ذلك فقد ثبت مثلُه عن عمر بن عبد العزيز، وعن سعيد بن جبير. مصنف ابن أبي شيبة (1/218) ت الحوت.
([2]) المجموع شرح المهذب (3/398).
([3]) مسند أحمد (21/294) ط الرسالة، مصنف عبد الرزاق (2/349) ط التأصيل الثانية، وأخرجه الطحاوي (1/221)، والبيهقي (1/68) من طرق عن سفيان الثوري به، والحديث إسناده صحيح على شرط مسلم كما قال محققو المسند.
([4]) مسند أحمد (21/230 - 231) ط الرسالة، بإسناد صحيح على شرط مسلم، وينظر: المسند الموضوعي الجامع للكتب العشرة (11/75- 74) بترقيم الشاملة آليًّا.
([5]) نيل الأوطار (2/278).
([6]) إتحاف المهرة (12/51).
([7]) فتح الباري، ابن حجر (2/270).
([8]) الموسوعة الفقهية الكويتية، مجموعة من المؤلفين (13/207).
([10]) شرح السنة (3/91).
وقد انفرد الإمام أحمد بالقول بالوجوب، قال الكشميري: «وأما القول عن أحمد بوجوبها فيرد عليه أن النبي S لمَّا علَّم الرجل المسيء صلاته الصلاة لم يأمره بغير تكبيرة الإحرام، وهو قد علمه الفرائض، فلو كانت تكبيرات الانتقال فرضًا لدخلت فيما نص عليه مما علمه إياه، لكنها لم تدخل فليست فرضًا، ويجاب عن حديث ابن أبزى بوجوه، منها: أن من أثبت حجة على من نفى ولا ينعكس، الثاني: أن رواة التكبير أكثر وهو أشهر، وقد قلنا: إنه سنة، فلعل هذا كان مرة لبيان الجواز». النفح الشذي شرح جامع الترمذي (4/383) ط الصميعي.
([11]) إجماعات فقهاء الإمامية، أحمد الموسوي الروضاتي (4/١٠٥).
([12]) أجوبة المسائل المهنائية، الحلي (ص٧٨).