جميع الروايات التي جاءت في ذلك عن عثمان لم تصح، وما ذكره الحافظ ابن حجر عن الحسن البصري ليس تصحيحًا للرواية، بل هو تصحيح الإسناد إلى الحسن البصري، وأما ما بعد الحسن ففيه انقطاع، وذلك أن الحسن لم يسمع من عثمان.
قال العلائي: «الحسن بن أبي الحسن البصري، واسم أبيه يسارٌ، أحدُ الأئمة الأعلام، تقدم أنه كثير التدليس، وهو مكثر من الإرسال أيضًا، ولد لسنتين بقِيَتَا من خلافة عمر ا، ونشأ بوادي القرى، ورأى عثمانَ وعليًّا وطلحةَ والزبير ي، وحضر يوم الدار وهو ابن أربع عشرة سنة، فروايته عن أبي بكر وعمر وعثمان ي مرسلةٌ بلا شك»([1]).
وفي المراسيل: «سُئِلَ أَبُو زُرْعَةَ: لَقِيَ الْحَسَنُ أَحَدًا مِنَ الْبَدْرِيِّينَ؟ قَالَ: رَآهُمْ رُؤْيَةً، رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَعَلِيًا، قْلُتُ: سَمِعَ مَنْهُمْا حَدِيثًا؟ قَالَ: لَا»([2]).
وقال البزار: «ولم يسمع من ابن عباس، ولا الأسود بن سريع، ولا عبادة، ولا سلمة بن المحبق، ولا عثمان»([3]).
فرواية الحسن عن عثمان منقطعة بلا شك.
وقد قرر عدمَ صحة جميع ما ورد في ذلك عدةٌ من أهل العلم:
* قَالَ الْعِرَاقِيُّ: «إنَّ تَقْدِيمَ الصَّلَاةِ عَلَى الْخُطْبَةِ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً، وَقَالَ: إنَّ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُمْ..، وأَمَّا رِوَايَةُ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ فَلَمْ أَجِدْ لَهَا إسْنَادًا، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: يُقَالُ: إنَّ أَوَّلَ مَنْ قَدَّمَهَا عُثْمَانُ، وَهُوَ كَذِبٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ. انْتَهَى. ويَرُدُّهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُثْمَانَ كَمَا تَقَدَّمَ»([4]).
* وقال ابن قدامة: «وَرُوِيَ عن عثْمَانَ، وابنِ الزُّبَيْرِ، أنَّهما فَعَلَاهُ، ولم يَصِحَّ ذلك عنهما»([5]).
ولو صح لَمَا قَوِيَ ا على معارضة الثابت عنه، فقد روى البخاري في صحيحه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ق وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ ي، فَكُلُّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ»([6]).
فعند التعارض باتفاق أهل العلم تُقَدَّم رواية البخاري.
ثبت عند البخاري أن أول من فعل ذلك هو مروانُ بن الحكم، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ق يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى إِلَى الْمُصَلَّى، فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الصَّلَاةُ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَيَقُومُ مُقَابِلَ النَّاسِ، وَالنَّاسُ جُلُوسٌ عَلَى صُفُوفِهِمْ، فَيَعِظُهُمْ وَيُوصِيهِمْ وَيَأْمُرُهُمْ، فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَقْطَعَ بَعْثًا قَطَعَهُ، أَوْ يَأْمُرَ بِشَيْءٍ أَمَرَ بِهِ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ.
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى خَرَجْتُ مَعَ مَرْوَانَ، وَهُوَ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، فِي أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ، فَلَمَّا أَتَيْنَا الْمُصَلَّى إِذَا مِنْبَرٌ بَنَاهُ كَثِيرُ بْنُ الصَّلْتِ، فَإِذَا مَرْوَانُ يُرِيدُ أَنْ يَرْتَقِيَهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَجَبَذْتُ بِثَوْبِهِ، فَجَبَذَنِي، فَارْتَفَعَ فَخَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَقُلْتُ لَهُ: غَيَّرْتُمْ وَاللهِ، فَقَالَ: أَبَا سَعِيدٍ، قَدْ ذَهَبَ مَا تَعْلَمُ، فَقُلْتُ: مَا أَعْلَمُ وَاللهِ خَيْرٌ مِمَّا لَا أَعْلَمُ، فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَجْلِسُونَ لَنَا بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَجَعَلْتُهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ»([7]).
فهذا نصٌّ من أبي سعيدٍ الخدري مؤيدٌ لكلام ابن عباس أن عثمان لم يفعل ذلك، وإنما الذي فعله هو مروان بن الحكم.
اختلفت الشيعة في تقديم الخطبة على الصلاة في الاستسقاء، وأجاز الحلي كلا الأمرين، فقال: «واختلف علماؤنا في استيجاب تقديم الخطبة على هذه الأذكار وتأخيرها، فقال المرتضى بالأول وتبعه ابن إدريس، وقال الشيخ بالثاني، وكلاهما عندي جائز»([8]).
فكل ما تقوله الشيعة في عثمان –مع عدم ثبوته- يُقال في علمائهم.
هذا الصدوق يعتقد بأن الصواب في خطبة الجمعة والعيدين أن تكون بعد الصلاة، مخالفًا بذلك الأمة بأسرها، فقال في كتابيه «العلل» و«العيون»: «وَالْخُطْبَتَانِ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ، وَأَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَدَّمَ الْخُطْبَتَيْنِ عُثْمَانُ»([9]).
واعتمد في ذلك على رواية رواها عن أبي عبد الله فقال: «وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (ع): أَوَّلُ مَنْ قَدَّمَ الْخُطْبَةَ عَلَى الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عُثْمَانُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى لَمْ يَقِفِ النَّاسُ عَلَى خُطْبَتِهِ وَتَفَرَّقُوا، وَقَالُوا: مَا نَصْنَعُ بِمَوَاعِظِهِ وَهُوَ لَا يَتَّعِظُ بِهَا، وَقَدْ أَحْدَثَ مَا أَحْدَثَ؟ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَدَّمَ الْخُطْبَتَيْنِ عَلَى الصَّلَاةِ»([10]).
وهذا الذي ذهب إليه مخالف لفعل الشيعة والسنة على مر العصور!!
والسؤال الآن: «هل الشيعة حين جعلوا الخطبة قبل الصلاة قلَّدوا عثمان وتركوا كبيرهم الصدوق الذي يرى الخطبة بعد الصلاة؟!».
-
- الصدوق والشيعة في زمانه لم يصلوا الجمعة
ومن هنا ظهرت المضحكات المبكيات، فهذا أحد أكابرهم يستدل بكلام الصدوق هذا على أن الصدوق والشيعة في زمانه لم يكونوا يصلون الجمعة قط، فقد نص محققهم الشّوشتري على أنَّ الذي ذكره الصدوق آنفًا يعتبر شاهدًا لمن قال بعدم وجوب صلاة الجمعة تعيينًا؛ وذلك لإجماع الإماميَّة العملي على تركهم لصلاة الجمعة، وأن نقلهم لرواياتها لا يختلف عن نقلهم لروايات الجهاد؛ وإلَّا «فإنَّ الصدوق لو كان صلَّى هو أو غيره من الشيعة في عصره الجمعة لما توهَّم هذا التوهُّم»([11]).
فهؤلاء الشيعةُ تركوا فريضةً من أعظم الفرائض على الإطلاق، وهي الجمعة، حتى أن صدوقهم الأكبر لم يكن يعرف أن إجماع الإمامية فضلًا عن إجماع المسلمين هو تقديم الخطبة على الصلاة في الجمعة، فما حكم الشيعة على صدوقهم إذًا؟
([1]) جامع التحصيل في أحكام المراسيل (ص162).
([2]) المراسيل، ابن أبي حاتم (ص31).
([3]) تهذيب التهذيب (2/269).
([4]) نيل الأوطار (3/349-350).
([5]) المغني، ابن قدامة (3/276) ت التركي.
([6]) صحيح البخاري (2/18) ط السلطانية.
([7]) صحيح البخاري (2/18) ط السلطانية، صحيح مسلم (2/605).
([8]) تذكرة الفقهاء، الحلي (١١٦٨)، ط. ق، وانظر مجموعة فتاوى ابن الجنيد، محمد التيجاني السماوي (1/74).
([9]) علل الشرائع، الصدوق (1/265)، عيون أخبار الرضا، الصدوق (1/119).
([10]) من لا يحضره الفقيه، الصدوق (1/433)
([11]) الأخبار الدخيلة (1/98).