لا خلاف أن عثمان ا كان يقصر الصلاة في السفر، ويرى مشروعيته، وقد ظل على ذلك إلى وفاته، ولم يتغير فقهه في المسألة قط، وتصوير الشيعة في كتبهم أنه ا كان يرى عدم مشروعية القصر في السفر فهذا محض كذب وافتراء، أخرج البخاري عنِ ابْنِ عُمَرَ قال: «صَحِبْتُ رَسُولَ اللهِ ق، فَكَانَ لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَذَلِكَ ي»([1]).
وفي مسلم من حديث عاصم بن عبد الله بن عمر قَالَ: «صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، قَالَ: فَصَلَّى لَنَا الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَقْبَلَ وَأَقْبَلْنَا مَعَهُ، حَتَّى جَاءَ رَحْلَهُ، وَجَلَسَ وَجَلَسْنَا مَعَهُ، فَحَانَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ نَحْوَ حَيْثُ صَلَّى، فَرَأَى نَاسًا قِيَامًا، فَقَالَ: «مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟» قُلْتُ: يُسَبِّحُونَ، قَالَ: «لَوْ كُنْتُ مُسَبِّحًا لَأَتْمَمْتُ صَلَاتِي، يَا بْنَ أَخِي، إِنِّي صَحِبْتُ رَسُولَ اللهِ ق فِي السَّفَرِ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ، وَصَحِبْتُ أَبَا بَكْرٍ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ، وَصَحِبْتُ عُمَرَ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ، ثُمَّ صَحِبْتُ عُثْمَانَ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ» وَقَدْ قَالَ اللهُ: [ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ] {الأحزاب:21}»([2]).
فهذان الأثران يدلان على أن عثمان كان يقصر الصلاة في كل سفر حتى توفَّاه الله.
ووقع الخلاف فقط في قصره الصلاةَ بمنًى، فالمسألة لا تتعلق بقصر الصلاة في السفر أصالة، وإنما هي مخصوصة بزمان أو مكان أو حدث ما، فعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قالَ: «صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ ا بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ»([3])، وهذه الرواية مطلقة من ناحية الوقت الذي بدأ فيه عثمان القصر بمنًى، وقد جاء التقييد والتحديد لذلك الزمن في رواية عَبْدِ اللهِ بن عمر ب قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ ق بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَمَعَ عُثْمَانَ صَدْرًا مِنْ إِمَارَتِهِ ثُمَّ أَتَمَّهَا»([4]).
وفي رواية أخرى قَالَ: «صَلَّى النَّبِيُّ ق بِمِنًى صَلَاةَ الْمُسَافِرِ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ ثَمَانِيَ سِنِينَ» أَوْ قَالَ: «سِتَّ سِنِينَ»([5]).
وفي رواية سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِيهِ: «أنَّ رَسُولَ اللهِ ق صَلَّى صَلَاةَ الْمُسَافِرِ بِمِنًى وَغَيْرِهِ رَكْعَتَيْنِ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ رَكْعَتَيْنِ صَدْرًا مِنْ خِلَافَتِهِ، ثُمَّ أَتَمَّهَا أَرْبَعًا»([6]).
وعليه فإن عثمان كان يصلي بمنًى قصرًا من غير إتمام إلى وقت متأخر، فدل ذلك على سبب يتعلق بمنى أو بما حصل لعثمان بها، لا بمشروعية قصر الصلاة في السفر كما يزعم الشيعة.
ذكر أهل العلم أسبابًا لإتمام عثمان ا الصلاة في منًى، بعضها منصوص عليه في روايات، وبعضها استنباطٌ من الروايات ومن واقع الحال الذي كان عليه، ومجال سرد الأسباب ليس هذا بحثه([7])، ولكننا ننقل منها ما لا يقوى الشيعة ولا غيرهم على رده أو الاعتراض عليه، إلا إذا كان تشغيبًا لا يدفع القول:
-
- السبب الأول: تأهله بمكة
روى الإمامُ أحمد في مسنده عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ: «أَنَّ عُثْمَانَ ابْنَ عَفَّانَ صَلَّى بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَأَنْكَرَهُ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ مُنْذُ قَدِمْتُ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ق يَقُولُ: «مَنْ تَأَهَّلَ فِي بَلَدٍ فَلْيُصَلِّ صَلَاةَ الْمُقِيم»([8]).
ومن تأهل في بلد صار مقيمًا عند كثير من أهل العلم، ولا يحل له القصر، ووجب في حقه الإتمام، وهو قول الحنابلة([9]) وظاهر قول الأحناف([10]).
وأما قول الأميني: «إنه لا يجوز لعثمان أن ينكح وهو محرم، ولو كان الأمر متعلقًا بالنكاح لوجب أن يتم من حيث أحرم من مسجد الشجرة قبل أعمال الحج والعمرة»([11]).
فنقول: لعل الأميني لا يعلم أن التحلل يبدأ من يوم النحر، فيبقى عند عثمان ثلاثة أيام «أيام التشريق» فضلًا عن يوم النحر.
-
- السبب الثاني: المقيم يتم الصلاة والمسافر يقصرها
قال الحافظ ابن حجر: «وَالْمَنْقُولُ أَنَّ سَبَبَ إِتْمَامِ عُثْمَانَ أَنَّهُ كَانَ يَرَى الْقَصْرَ مُخْتَصًّا بِمَنْ كَانَ شَاخِصًا سَائِرًا، وَأَمَّا مَنْ أَقَامَ فِي مَكَانٍ فِي أَثْنَاءِ سَفَرِهِ فَلَهُ حُكْمُ الْمُقِيمِ فَيُتِمُّ»([12]).
وأخرج عبد الرزاق الصنعاني بإسناد صحيحٍ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: «أَنَّ عُثْمَانَ كَتَبَ إِلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ، أَنَّهُ لَا يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ الْمُقِيمُ، وَلَا النَّائِي، وَلَا التَّاجِرُ، إِنَّمَا يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ مَنْ مَعَهُ الزَّادُ وَالْمَزَادُ»([13]).
وعَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ قَرَأَ كِتَابَ عُثْمَانَ، أَوْ قُرِئَ عَلَيْهِ، أَنَّ عُثْمَانَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْبَصرَةِ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَكُمْ يَكُونُ فِي جَشَرِهِ، أَوْ فِي تِجَارَتِهِ، أَوْ يَكُونُ جَابِيًا فَيَقْصُرُ الصَّلَاةَ، إِنَّمَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ مَنْ كَانَ شَاخِصًا أَوْ بِحَضْرَةِ عَدُوٍّ»([14]).
-
- السبب الثالث: فعله لبيان الحكم
قد أتم عثمان ا ليُبَين للناس جواز القصر وجواز الإتمام في السفر، قَالَ ابنُ بَطَّالٍ: «الْوَجْهُ الصَّحِيحُ فِي ذَلِكَ أَنَّ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ كَانَا يَرَيَانِ أَنَّ النَّبِيَّ ق إِنَّمَا قَصَرَ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِالْأَيْسَرِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أُمَّتِهِ، فَأَخَذَا لِأَنْفُسِهِمَا بِالشِّدَّةِ، وَهَذَا رَجَّحَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ آخِرِهِمُ الْقُرْطُبِيُّ»([15]).
قال النووي: «قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ الْقَصْرَ وَالْإِتْمَامَ جَائِزَانِ، وَأَنَّ الْقَصْرَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِتْمَامِ، وَبِهَذَا قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَائِشَةُ وَآخَرُونَ، وَحَكَاهُ الْعَبْدَرِيُّ عَنْ هَؤُلَاءِ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَدَاوُد، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ فِي اثْنَيْ عَشْرَ مِن الصَّحَابَةِ، وَعَنْ أَنَسٍ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي قِلَابَةَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَآخَرُونَ: الْقَصْرُ وَاجِبٌ، قَالَ الْبَغَوِيُّ: وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وُجُوبَ الْقَصْرِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسِ وَجَابِرٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَرِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ»([16]).
وجواز القصر والإتمام هو مذهب جماهير العلماء، جاء في الموسوعة الفقهية ما نصه: «ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقَصْرَ جَائِزٌ تَخْفِيفًا عَلَى الْمُسَافِرِ؛ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ مَشَقَّةِ السَّفَرِ غَالِبًا، وَاسْتَدَلُّوا بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: [ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ] {النساء:101} فَقَدْ عَلَّقَ الْقَصْرَ عَلَى الْخَوْفِ؛ لأَنَّ غَالِبَ أَسْفَارِ النَّبِيِّ ق لَمْ تَخْلُ مِنْهُ، وَنَفْيُ الْجُنَاحِ فِي الْآيَةِ يَدُل عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ، لَا عَلَى وُجُوبِهِ، وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِحَدِيثِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ»([17]).
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ فَرْضَ الْمُسَافِرِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ رَكْعَتَانِ لَا غَيْرُ، فَلَيْسَ لِلْمُسَافِرِ عِنْدَهُمْ أَنْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعًا؛ لِقَوْل عَائِشَةَ ل: «فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ»([18]) وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا تَوْقِيفًا، وَقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ ب: «إِنَّ اللهَ D فَرَضَ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ ق عَلَى الْمُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ وَعَلَى الْمُقِيمِ أَرْبَعًا، وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً»([19]).
وَالرَّاجِحُ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ الْقَصْرَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنِ النَّبِيِّ ق أَنَّهُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ، بَلِ الْمَنْقُولُ عَنْهُ الْقَصْرُ فِي كُلِّ أَسْفَارِهِ، وَمَا كَانَ هَذَا شَأْنُهُ فَهُوَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ.
وَهُنَاكَ أَقْوَالٌ أُخْرَى فِي الْمَذْهَبِ؛ فَقِيل: إِنَّهُ فَرْضٌ، وَقِيل: إِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، وَقِيل: إِنَّهُ مُبَاحٌ»([20]).
وعليه فلا حرج على الخليفة أن يفعل فعلًا يبين به فقه مسألة ما([21])؛ ليعلم الناس الحكم الشرعي فيها، قال القاضي ابن العربي: «وأما ترك القصر فاجتهاد؛ إذ سمع الناس افتتنوا بالقصر، وفعلوا ذلك في منازلهم، فرأى أن السنة ربما أدت إلى إسقاط الفريضة، فتركها مصلحة خوف الذريعة»([22]).
وعلى كل حال فهذا اجتهاد من عثمان قد يصيب فيه ويخطئ، ولم يكن تغييرًا لسنة القصر في السفر، بل ثبت عنه ا أنه كان يقصر الصلاة في السفر إلى أن قُبض كما مر بيانه، وإذا ثبت هذا فلا ريب أن عثمان مأجور على اجتهاده في الإتمام بمنًى إما أجرًا واحدًا أو أجرين.
تكفير عثمان لمجرد مخالفة سنة مما لا يتفوه به عاقل، واستدلالهم بحديث ابن عمر حين سُئِلَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ؟ فَقَالَ: «رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ، مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ فَقَدْ كَفَر»([23]) فهذا الحديث قد أعله الأئمة وضعفوه.
قال الدارقطني: «يرويه قتادة، واختلف عنه؛ فرواه هشام الدستوائي، وأبو عوانة، وعبد الحميد بن الحسين، عن قتادة، عن صفوان بن محرز، عن ابن عمر، وقال شعبة: عن قتادة قال: سأل صفوان ابن عمر... كأنه جعله مما لم يسمعه قتادة، من صفوان»([24]).
وفي تعليق الشيخ العدوي عليه قال: «رجاله ثقات: إلا أن قتادة مدلس، وقد عنعن»([25]).
ونقول: إنه لو صح الحديث فلا بد من فهمه على الوجه الصحيح، وهو أنه «أراد به -والله أعلم- من خالف حكم الله تعالى في هذا متعمدًا وعنادًا، لا متأولًا»([26]).
فهذا حكم من يَرُدُّ السنة عنادًا، لا من اجتهد في مسألة فقهية يسوغ فيها الاجتهاد بالاتفاق.
العجيب من الشيعة أنهم لمجرد اتهام عثمان بمخالفة السنة يقررون بإطلاق وجوب القصر في كل سفر وفي كل مكان! فأورد الأميني عدة روايات ثم علق عليها قائلًا: «أترى مع هذه الأحاديث مجالًا للقول بأن القصر في السفر رخصة لا عزيمة؟ ولو كان يسوغ الإتمام في السفر لكان رسول الله ص يعرب عنه بقول أو بفعل، ولو بإتيانه في العمر مرة لبيان جوازه»([27]).
فهذا تقرير بأن الإتمام في السفر لا يجوز بإطلاق زمانًا ومكانًا، ومع ذلك ترى الشيعة يروون عن جعفر الصادق أنه قال: «تتم الصلاة في أربعة مواطن: في المسجد الحرام، ومسجد الرسول ص، وفي مسجد الكوفة، وحرم الحسين S»([28]).
وقال الخوئِي: «يتخيرُ المسافر بين التقصير والإتمام في مواضع أربعة: مكة المعظمة، والمدينة المنورة، ومسجد الكوفة، وحرم الحسين S، فللمسافر السائغ له التقصير أن يتم صلاته في هذه المواضع، بل هو أفضل وإن كان التقصير أحوط، وذكر جماعة اختصاص التخيير في مكة والمدينة بالمسجدين، ولكنه لا يبعد ثبوت التخيير في البلدين مطلقًا، والظاهر أن التخيير ثابت في تمام حرم الحسين S، ولا يختص بما تحت القبة المطهرة وحواليه»([29]).
فمِن أين لهم عدم قصر الصلاة للمسافر إذا دخل هذه الأماكن الأربعة؟! وتأمل هذا مع ما قال الأميني من أن النبي ق لم يتم الصلاة في السفر ولو مرة واحدة، وهذا يشمل جميع الأماكن، فمن أين لهم التخصيص إذًا؟! أحرَامٌ على عثمان الاجتهادُ في أمور فقيهة سائغٌ فيها الاجتهاد، وحلال لهم تشريع دين لم يشرعه الله ولا رسوله ق؟!
وهذا التخريج الفقهي الشيعي يلزم منه أن عثمان لم يكن مخطئًا عندما أتم في الحرم المكي؛ إذ إن الحرم المكي هو أحد الأماكن الأربعة التي تتم الصلاة فيها عندهم.
ومن تخصيصهم الصلاة في السفر الذي يبطل الإطلاق الذي زعموه بعدم قصر الصلاة في سفر المعصية، يقول علَّامتهم الحلي: «واختلف المسلمون أيضًا في تحريم القصر في سفر المعصية؛ فذهب قوم إلى تحريمه، وقال آخرون: إنَّه جائز وليس واجبًا بالإجماع، والحقُّ الأوَّل؛ لأن التقصير رخصة، والمعاصي لا يناط بها الرخص»([30]).
ومنه يظهر لكل منصف براءة أمير المؤمنين عثمان بن عفان ا من التهمة، والحمد لله رب العالمين.
([1]) صحيح البخاري (2/45) ط السلطانية.
([3]) صحيح البخاري (2/43) ط السلطانية، صحيح مسلم (1/483) ت عبد الباقي.
([4]) صحيح البخاري (2/43) ط السلطانية.
([5]) صحيح مسلم (1/483) ت عبد الباقي.
([6]) صحيح مسلم (1/482) ت عبد الباقي.
([7]) ذكر ابن القيم تلك الأسباب في كتابه القيم «زاد المعاد» - ط عطاءات العلم (1/592- 595).
([8]) مسند أحمد (1/496) ط الرسالة.
ورغم ضعف إسناد الحديث إلا أنه من ناحية جواز الوقوع لا إشكال فيه، فإن عقد النكاح بعد التحلل من الإحرام جائز. جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: «الْمُرَادُ بِالتَّحَلُّل هُنَا الْخُرُوجُ مِنَ الْإِحْرَامِ وَحِلُّ مَا كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ.
وَهُوَ قِسْمَانِ: تَحَلُّلٌ أَصْغَرُ، وَتَحَلُّلٌ أَكْبَرُ، فالتَّحَلُّل الْأَصْغَرُ يَكُونُ بِفِعْل أَمْرَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةٍ: رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَالنَّحْرِ، وَالْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ... أما التَّحَلُّل الأَكْبَرُ فهُوَ التَّحَلُّل الَّذِي تَحِلُّ بِهِ جَمِيعُ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ دُونَ اسْتِثْنَاءٍ، وَيَبْدَأُ الْوَقْتُ الَّذِي تَصِحُّ أَفْعَال التَّحَلُّل الأَكْبَرِ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ مِنْ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ مِنْ مُنْتَصَفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ... وَبِهِ تَحِل جَمِيعُ مَحْظُورَاتِ الإِحْرَامِ بِالإِجْمَاعِ». الموسوعة الفقهية الكويتية (2/175 – 176) بتصرف.
وعليه فإنه يجوز أن يكون عثمان قد تحلل التحلل الأصغر، بل الأكبر من يوم النحر وهو في منى، وهذا جائز باتفاق كما مر، وبه يحل عقد النكاح بلا خلاف.
([9]) جاء في شرح المنتهى: «(أو) مَرَّ (ببلد له به امرأة) أي: زوجة، وإن لم يكن وطنه لزمه أن يتم حتى يفارقه (أو) مر ببلد (تزوج فيه) لزمه أن يتم حتى يفارقه؛ لأنه صار في صورة المقيم». شرح منتهى الإرادات، البَهُوتي (1/294) ط عالم الكتب.
وقال صاحب الإنصاف: «ولو مر ببلد له فيه امرأة، أو تزوج فيه، أتم على الصحيح من المذهب». الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف (2/331) ت الفقي.
([10]) جاء في شرح البحر الرائق ما نصه: «وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا دَخَلَ الْمُسَافِرُ مِصْرًا وَتَزَوَّجَ بِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَصِيرُ مُقِيمًا؛ لِحَدِيثِ عُمَرَ ا، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ تَزَوَّجَ فِي بَلْدَةٍ فَهُوَ مِنْهَا» وَالْمُسَافِرَةُ تَصِيرُ مُقِيمَةً بِنَفْسِ التَّزَوُّجِ عِنْدَهُمْ كَذَا فِي الْقُنْيَةِ». البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (2/142).
([11]) الغدير، الأميني (٨/١٠٤).
([12]) فتح الباري، ابن حجر (2/571).
([13]) مصنف عبد الرزاق (3/235) ط التأصيل الثانية.
([14]) مصنف عبد الرزاق (3/236) ط التأصيل الثانية.
([15]) فتح الباري، ابن حجر (2/571).
([16]) المجموع شرح المهذب، النووي (4/337).
([17]) صحيح مسلم (1/478) برقم (686).
([18]) صحيح مسلم (1/478) برقم (685).
([19]) صحيح مسلم (1/479) برقم (687).
([20]) الموسوعة الفقهية الكويتية (27/274).
([21]) وهذا الفعل معروف عند العلماء من الصحابة ي، فهذا عبد الله بن عباس ب جهر بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة ليعلم الناس أن القراءة فيها سنة، ولم يكن الجهر هو السنة، فعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: «صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنِ عَبَّاسٍ ب عَلَى جِنَازَةٍ، فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. قَالَ: لِيَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ». صحيح البخاري (2/89) ط السلطانية.
([22]) العواصم من القواصم (ص90) ط دار الجيل.
([23]) المنتخب من مسند عبد بن حميد، ت مصطفى العدوي (2/49).
([24]) العلل الواردة في الأحاديث النبوية، الدارقطني (13/160)، أخرجه عبد الرزاق في المصنف (4281)، وابن المنذر في الأوسط (4/333)، وصحح إسناده ابن حجر. ينظر: المطالب العالية (5/99).
([25]) المنتخب من مسند عبد بن حميد، ت مصطفى العدوي (2/49).
([26]) البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج، هامش (15/19).
([27]) الغدير، الأميني (8/115).
([28]) جامع أحاديث الشيعة، البروجردي (7/83).
([29]) المسائل المنتخبة، الخوئي (ص١٦١) وبمثله قال السيستاني والروحاني.
([30]) الرسالة السعدية، الحلي (1/121).