قد كان عثمان ا من أهل العلم والفتيا والقضاء([1])، وقد استنبط عثمان ا من كتاب الله أنه أحل ذلك بعموم قوله تعالى: [ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ] {المؤمنون:5-6}، وحرم ذلك بعموم قوله تعالى: [ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ] {النساء:23}.
فعموم الآية الأولى يقتضي الحِل، وعموم الثانية يقتضي الحُرمة، وهذا موضع اجتهاد، وذهب إلى حِله داود الظاهري وغيره([2])، وليس قولهم بالباطل قطعًا كما حاول الرافضي أن يصور الأمر.
قال الشنقيطي: «اعْلَمْ أَنَّ (مَا) فِي قَوْلِهِ: [ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ] {المؤمنون:6} مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَالْمُرَادُ بِهَا (مَنْ) وَهِيَ مِنْ صِيغَ الْعُمُومِ، فَآيَةُ [ﭑ ﭒ ﭓ] وَآيَةُ [ﯕ ﯖ] تَدُلُّ بِعُمُومِهَا الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِلَفْظَةِ (مَا) فِي قَوْلِهِ [ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ] فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى جَوَازِ جَمْعِ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فِي التَّسَرِّي بِهِمَا مَعًا لِدُخُولِهِمَا فِي عُمُومِ [ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ] وَبِهَذَا قَالَ دَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ.
وَلَكِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: [ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ] {النساء:23} يَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى مَنْعِ جَمْعِ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْأُخْتَيْنِ صِيغَةُ عُمُومٍ تَشْمَلُ كُلَّ أُخْتَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَتَا بِعَقْدٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ، وَلِذَا قَالَ عُثْمَانُ ا لَمَّا سُئِلَ عَنْ جَمْعِ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا أُخْرَى، يَعْنِي بِالْآيَةِ الْمُحَلِّلَةِ [ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ] وَبِالْمُحَرِّمَةِ [ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ].
وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ الْمَقَامِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، يَظْهَرُ لِلنَّاظِرِ تَعَارُضُهُمَا فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَجْتَمِعَانِ فِيهَا كَمَا قَالَ عُثْمَانُ ا: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا أُخْرَى، وَإِيضَاحُهُ أَنَّ آيَةَ: [ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ] تَنْفَرِدُ عَنْ آيَةِ [ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ] فِي الْأُخْتَيْنِ الْمَجْمُوعِ بَيْنَهُمَا بِعَقْدِ نِكَاحٍ، وَتَنْفَرِدُ آيَةُ [ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ] فِي الْأَمَةِ الْوَاحِدَةِ، أَوِ الْأَمَتَيْنِ اللَّتَيْنِ لَيْسَتَا بِأُخْتَيْنِ، وَيَجْتَمِعَانِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، فَعُمُومُ [ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ] يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ، وَعُمُومُ [ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ] يَقْتَضِي إِبَاحَتَهُ، وَإِذَا تَعَارَضَ الْأَعَمَّانِ مِنْ وَجْهٍ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَجْتَمِعَانِ فِيهَا وَجَبَ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا، وَالرَّاجِحُ مِنْهُمَا يُقَدَّمُ وَيُخَصَّصُ بِهِ عُمُومُ الْآخَرِ»([3]).
وقد بيّن الشنقيطي V وجه القوة في استدلال من قال بحل الجمع بين الأختين بملك اليمين فقال: «وَلَكِنَّ دَاوُدَ يَحْتَجُّ بِآيَةٍ أُخْرَى يَعْسُرُ التَّخَلُّصُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِهَا، بِحَسَبِ الْمُقَرَّرِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ الْمَالِكِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَالْحَنْبَلِيِّ، وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورِينَ أَنَّهُ إِنْ وَرَدَ اسْتِثْنَاءٌ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَةٍ، أَوْ مُفْرَدَاتٍ مُتَعَاطِفَةٍ، أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمَذْكُورَ يَرْجِعُ لِجَمِيعِهَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ يَرْجِعُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، قَالَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ: وَكُلُّ مَا يَكُونُ فِيهِ الْعَطْفُ... مِنْ قَبْلِ الِاسْتِثْنَاء، فَكُلًّا يَقْفُو دُونَ دَلِيلِ الْعَقْلِ أَوْ ذِي السَّمْعِ. إِلَخْ.
وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورِينَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ لِكُلِّ الْمُتَعَاطِفَاتِ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ الْوَاقِفُ فِي صِيغَةِ وَقْفِهِ: هُوَ وَقْفٌ عَلَى بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي زُهْرَةَ وَالْفُقَرَاءِ إِلَّا الْفَاسِقَ مِنْهُمْ، أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الْوَقْفِ فَاسِقُ الْجَمِيعِ لِرُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْجَمِيعِ، وَأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَحْدَهُ هُوَ الْقَائِلُ بِرُجُوعِهِ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقْبَلْ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ، وَلَوْ تَابَ وَأَصْلَحَ، وَصَارَ أَعْدَلَ أَهْلِ زَمَانِهِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: [ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ]{النور: 4 - 5} يَرْجِعُ عِنْدَهُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ لِلْأَخِيرَةِ فَقَطْ وَهِيَ [ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ] أَيْ: فَقَدْ زَالَ عَنْهُمُ اسْمُ الْفِسْقِ، وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى [ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ]، فَاقْبَلُوا شَهَادَتَهُمْ بَلْ يَقُولُ: لَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا مُطْلَقًا بِلَا اسْتِثْنَاءٍ؛ لِاخْتِصَاصِ الِاسْتِثْنَاءِ عِنْدَهُ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، وَلَمْ يُخَالِفْ أَبُو حَنِيفَةَ أُصُولَهُ فِي قَوْلِهِ: [ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ] إِلَى قَوْلِهِ: [ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ] الْآيَةَ {الفرقان:68-70}، فَإِنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ لِجَمِيعِ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ قَبْلَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَغَيْرِهِ.
وَلَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَصْلَهُ؛ لِأَنَّ الْجُمَلَ الثَّلَاثَ الْمَذْكُورَةَ جُمِعَتْ فِي الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، الَّتِي هِيَ [ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ] {الفرقان:68}؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ رَاجِعَةٌ إِلَى الشِّرْكِ، وَالْقَتْلِ وَالزِّنَى فِي الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ قَبْلَهُ فَشَمَلَتِ الْجُمْلَةُ الْأَخِيرَةُ مَعَانِيَ الْجُمَلِ قَبْلَهَا، فَصَارَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ لَهَا وَحْدَهَا، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، عَلَى أَصْلِهِ الْمُقَرَّرِ: مُسْتَلْزِمًا لِرُجُوعِهِ لِلْجَمِيعِ.
وَإِذَا حَقَّقْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ دَاوُدَ يَحْتَجُّ لِجَوَازِ جَمْعِ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَيْضًا بِرُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ [ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ] لِقَوْلِهِ [ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ] فَيَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: [ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ] {النساء:23} وَقَوْلُهُ: [ﭒ ﭓ ﭔ ] {النساء:24} يَرْجِعُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا اسْتِثْنَاءٌ فِي قَوْلِهِ: [ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ] {النساء:24} فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَحَرَّمَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَلَا يُحَرَّمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ، إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، فَلَا يُحَرَّمُ عَلَيْكُمْ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْمُحْصَنَاتِ فِي مَحَلِّهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ احْتِجَاجَ دَاوُدَ بِرُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ [ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ] إِلَى قَوْلِهِ: [ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ] جَارٍ عَلَى أُصُولِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، فَيَصْعُبُ عَلَيْهِمُ التَّخَلُّصُ مِنَ احْتِجَاجِ دَاوُدَ هَذَا»([4]).
ثم شرع الشيخ V في الجواب عن ذلك.
والمقصود: أن هذا الاجتهاد له وجه حتى عند علي بن أبي طالب نفسه، ففي الرواية: «فلقي رجلًا من أصحاب رسول الله ق فسأله عن ذلك؟ فقال: لو كان لي من الأمر شيء ثم وجدت أحدًا فعل ذلك لجعلته نكالًا». قال ابن شهاب: «أراه عليَّ بن أبي طالب»([5]).
قال القرطبي: «قَالَ أَبُو عُمَرَ: (أَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ لَجَعَلْتُهُ نَكَالًا) وَلَمْ يَقُلْ لَحَدَدْتُهُ حَدَّ الزَّانِي، فَلِأَنَّ مَنْ تَأَوَّلَ آيَةً أَوْ سُنَّةً وَلَمْ يَطَأْ عِنْدَ نَفْسِهِ حَرَامًا فَلَيْسَ بِزَانٍ بِإِجْمَاعٍ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا، إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُعْذَرُ بِجَهْلِهِ»([6]).
فلو لم يكن تأويل واجتهاد عثمان بسائغ عند علي ا لكان الواجب إقامة الحد، لكن الحق أنه شبهة يُدرأ بها الحد، وكفى بهذا ردًّا على كل طعن في اجتهاد عثمان ا.
الخطأ في الاجتهاد في مسألة فقهية لا ينقض كون العالم مجتهدًا، فهذا شأن كل من هو غير معصوم، وإلا لما وُجد مجتهد قط على وجه الأرض، وليس من شرط المجتهد الوصول إلى الصواب في كل مسألة باتفاق، فقد أخرج مسلم عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ق يَقُولُ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ»([7]).
فثَبت من ذلك أن عثمان ا مأجورٌ غير مأزور، عالمٌ غير جاهل، وعليه فإنه يجب على المنصف مدحُه لا ذمه، والمجتهد المخطئ مأجور حتى عند الشيعة الإمامية، ففي ميزان الحكمة: «للمخطئ أجر وللمصيب أجران، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «إذا حَكَمَ الحاكمُ فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد»، وعنه صلى الله عليه وآله: «اجتهد، فإذا أصبت فلك عشر حسنات، وإن أخطأت فلك حسنة»، وعنه صلى الله عليه وآله لعقبة بن عامر لما جاءه صلى الله عليه وآله خصمان اقض بينهما، قال: على ماذا يا رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال: «اجتهد، فإن أصبت فلك عشر»»([8]).
-
- هل يؤجر الفضل بن شاذان في رده كلام الأئمة؟
اجتهد الفضل بن شاذان في رد كلام المعصومين فأخطأ، ومع ذلك يقول المجلسي عنه: إنه مثاب على ذلك؛ لأنه ربما ردها لظنه أن فيها غلوًّا، ففي مقدمة المصحح لكتاب الإيضاح قال: «قال المجلسي...: على أنه يمكن أن يكون الفضل مثابًا في رد الأخبار التي نقلوها إليه من المعصومين Q، وردها الفضل لظنه الغلو، وكانوا مثابين لكونهم سمعوها من المعصومين (ع) والجميع مطابق للأخبار التي نقلها مشايخنا المعظمون في كتبهم، ثم نقل رقعة عبد الله بن جبرويه هذا التي ذكره المصنف عن الكشي، وقال في آخرها: فتدبر في هذا الخبر حتى يظهر لك ما ذكرنا.
ثم نقل روايتين متضمنتين؛ لأنه لو عرض علم سلمان على مقداد لكفره، ثم قال: والحق أن مراتب العلوم متفاوتة، فيمكن أن يكون إنكارُ الفضل لأخبارهم لعدم إدراكه، أو لخوف الفضل أن يكفر العوام بالغلو، كما ورد في الأخبار الكثيرة أن حدثوهم بما يعلمون أو بما يفهمون. انتهى كلامه علا مقامه، وهو كلام موجه متين»([9]).
-
- إذا أخطأ الحاكم وجب إنفاذ حكمه ولو عُلم غلطه
قررت الإمامية أن الحاكم إذا اجتهد فأخطأ وجب تنفيذ حكمه، ولا يجوز إعادة رفع القضية مرة أخرى للتحاكم حتى مع العلم بالخطأ.
يقول الخوئي: «وحيث إن المستفاد من الروايات أن حكم الحاكم إذا صدر عن الميزان الصحيح معتبر مطلقًا، وأن اعتباره ليس من جهة الأمارية إلى الواقع، بل إنما هو لأجل أن له الموضوعية التامة في فصل الخصومات وحل المرافعات، فلا مناص من الالتزام بعدم جواز نقضه مطلقًا، سواءً علمنا بعدم مطابقته للواقع أو بالخطأ في طريقه -وجدانًا أو تعبدًا- أم لم نعلم به، بلا فرق في ذلك بين الشبهات الحكمية والموضوعية، فلا يجوز للمتخاصمين إعادة الدعوى عند ذلك الحاكم مرة ثانية أو عند حاكم آخر..، وأن حكم الحاكم نافذ فيها، ولو مع العلم بالمخالفة للواقع أو الخطأ في طريقه، هذا كله إذا صدر الحكم على الميزان الصحيح»([10]).
وعليه فلا بد من القول بأن فتوى عثمان ا كانت اجتهادًا، وهو مأجورٌ عليه.
الصواب في قول عثمان ا هو الكراهة لا الحل كما زعم الرافضي، فقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن عبد الله بن نيار الأسلمي: «أن أباه استسر وليدة له يقال لها: لؤلؤة، وكانت لوليدته ابنة صغيرة، قال: فلما ترعرعت الجارية نزع أمها ونفس فيها، فلبث كذلك حتى شبت الجارية، فأراد أن يستسرها، فكلم عثمان في ذلك في خلافته، فقال: «ما أنا بآمرك، ولا ناهيك عن ذلك، وما كنت لأفعل ذلك أنا»، قال نيار حينئذ: ولا أنا والله لا أفعل ما لا تفعل في ذلك، فباع الجارية بستمائة دينار، ولم يطأها.
قال أبو الزناد: فحدثني عامر الشعبي عن علي بن أبي طالب أنه أفتى بهذا سواء»([11]).
وهذه الرواية قاطعة في قول عثمان بالمنع وترجيحه على الحل، أو على الأقل التوقف في المسألة، وهذا منقول عن علي بن أبي طالب ا، قال ابن حزم: «قال عمرو بن دينار: وكان ابن عباس يعجب من قول علي: حرمتْهما آية وأحلتْهما آية، ويقول: [ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ] {النساء:24} هي مرسلة.
قال علي: وبه يقول أبو سليمان وأصحابنا.
وقال أبو محمد: «فهذا قول من أحلهما، وقول علي في التوقف»([12]).
وقال ابن قدامة: «وكرهه عمر، وعثمان، وعلي، وعمار، وابن عمر، وابن مسعود»([13]).
ويدلك هذا على أن قول عثمان في المسألة قد وافقه عليه بعض الأكابر، وليس في المسألة نص صريح في الكتاب والسنة حتى يقال إن الخليفة قد جهل شيئًا من كتاب الله تعالى.
([1]) هذه الرواية وأمثالها دليل على أن عثمان ا كان متعرضًا للفتيا والقضاء والحكم، وهذا لا يقوم به إلا الكبار من أهل العلم وممن يعرف الناس منه ذلك، وقد كان عثمان ا بارعًا في الفقه والعلم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله ق، ومما يدلل على ذلك ما ثبت عن ابن سيرين انه قال: «كان عثمان أعلمهم بالمناسك وبعده ابن عمر». أنساب الأشراف، البلاذري (5/486).
وعن ابن عون، عن محمد قال: «كانوا يرون أن أعلم الناس بالمناسك ابن عفان، ثم بعده ابن عمر». مصنف ابن أبي شيبة (3/430) ت الحوت.
وعند الدارمي بسند صحيح عن الزهري قال: «لو هلك عثمان وزيد في بعض الزمان، لهلك علم الفرائض، لقد أتى على الناس زمان وما يعلمها غيرهما». مسند الدارمي (4/1886) ت حسين أسد.
وقال الحافظ بن حجر: «روى عنه أولاده أبان وسعيد وعمرو، ومواليه حمران وهانئ البربري وأبو صالح وأبو سهلة ويوسف وابن وارة، وابن عمه مروان بن الحكم بن العاص وابن مسعود وزيد بن ثابت وعمران بن حصين وأبو قتادة وأبو هريرة وأنس والسائب بن يزيد وسلمة بن الأكوع وأبو أمامة الباهلي وأبو أمامة بن سهل بن حنيف وطارق بن شهاب وابن عباس وابن عمر وابن الزبير وعبد الرحمن ابن أبي عمرة وعبيد الله بن عدي بن الخيار وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وأبو عبيد مولى أبي أزهر والأحنف بن قيس وسعيد بن المسيب وأبو ساسان حصين بن المنذر وسعيد بن العاص بن سعيد بن العاص وأبو وائل شقيق بن سلمة وأبو عبد الرحمن السلمي وعلقمة بن قيس وعبيد الله بن شقيق وعمرو بن سعيد بن العاص ومالك بن أوس بن الحدثان ومالك بن أبي عامر الأصبحي ومحمد بن علي ابن أبي طالب ومحمود بن لبيد الأنصاري وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وآخرون». تهذيب التهذيب (7/140).
([2]) وقد ذكر أحد الشيعة أولئك الذين روي عنهم هذا القول فقال: «وروي عن ابن عباس أنه سُئل عن الجمع بين الأختين بملك اليمين فقال: أحلتهما آية وحرمتهما آية أخرى، والتحريم مقدم، وعن عثمان أنه قال: أحلتهما آية وحرمتهما آية أخرى والتحريم أولى، وروي مثل ذلك عن علي S وابن مسعود وابن الزبير وابن عباس وعمار بن ياسر وعائشة، ولا مخالف لهم». الينابيع الفقهية، علي أصغر مرواريد (38/35).
([3]) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، الشنقيطي (5/309- 310).
([4]) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (5/311- 313).
([5]) موطأ مالك - رواية يحيى (2/539) ت عبد الباقي.
([6]) تفسير القرطبي (5/117).
([7]) صحيح مسلم (3/1342).
([8]) ميزان الحكمة، محمد الريشهري (3/2591)، وقد أقره المجلسي في ملاذ الأخيار (10/10: 11).
([9]) الإيضاح - مقدمة المصحح (ص26).
([10]) الاجتهاد والتقليد، الخوئي (ص390).
([11]) مصنف عبد الرزاق (7/190) ت الأعظمي.
([12]) المحلى بالآثار (9/133).
([13]) المغني، ابن قدامة (9/537) ت التركي.