القصة بهذا السياق -رجم المرأة- لم ترد عن عثمان بإسناد صحيح، بل ورد ما يدل على أنه همَّ برجمها، لكنه لم يفعل بعد مشاورته لأصحاب النبي ق، ولم يثبت في خبر واحد صحيح أن هذه المرأة رُجمت.
وأصل الرواية التي اعتمد عليها الأميني في الموطأ بلاغًا: «أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ قَدْ وَلَدَتْ فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فأَمَرَ بِهَا أَنْ تُرْجَمَ، فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: لَيْسَ ذلِكَ عَلَيْهَا؛ إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: [ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ] {الأحقاف:15} وَقَالَ: [ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ] {البقرة:233} فَالْحَمْلُ يَكُونُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ، فلَا رَجْمَ عَلَيْهَا، فَبَعَثَ عُثْمَانُ فِي أَثَرِهَا، فوَجَدَهَا قَدْ رُجِمَتْ»([1]).
وقد رواها من طريقه البيهقي([2])، وهذا الطريق ضعيف باتفاق أهل العلم؛ إذ لم يوقف عليه موصولًا من طريق آخر بهذا السياق، إلا من طريق ابن إسحاق([3]) وهو مشهور بالتدليس([4]) وقد عنعن فيه، فلا يُحتج به إلا إذا صرح بالسماع([5]).
أخرج عبد الرزاق في مصنفه عن عبد الرحمن بن عوف قال: «رُفعت إلى عثمان امرأة ولدت لستة أشهر، فقال: إنها رُفعت إليَّ امرأة لا أراه إلا قال: وقد جاءت بشرٍّ أو نحو هذا، ولدت لستة أشهر، فقال له ابن عباس: إذا أتمت الرضاع كان الحمل ستة أشهر، قال: وتلا ابن عباس: «[ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ] {الأحقاف:15} فإذا أتمت الرضاع كان الحمل ستة أشهر»([6]).
قال ابن عبد البر: «وهذا الإسناد لا مدفع فيه من رواية أهل المدينة»([7]).
وأخرج أيضًا عن قائد لابن عباس قال: «كنت معه فأُتي عثمان بامرأة وضعت لستة أشهر فأمر عثمان برجمها، فقال له ابن عباس: «إن خاصمتكم بكتاب الله فخصمتكم، قال الله D: [ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ] {الأحقاف:15} فالحمل ستة أشهر والرضاع سنتان، قال: فدُرئ عنها»([8]).
ويزيده قوةً ما ذكره ابن الملقن؛ حيث قال: «ورواه ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب قال: أخبرني أبو عبيد مولى عبد الرحمن بن أزهر: (أن عثمان بن عفان خرج يومًا فصلى الصلاة، ثم جلس على المنبر، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد: فإن ها هنا امرأة، إِخَالها قد جاءت بشيء، ولدت في ستة أشهر، فما ترون فيها؟
فناداه ابن عباس فقال: إن الله قال: [ﭑ ﭒ ..] إلى قوله: [ﭞ ﭟ ﭠ] {الأحقاف:15}، وقال: [ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ] {البقرة:233} الآية، فأقل الحمل ستة أشهر، فتركها عثمان، ولم يرجمها»([9])، وصححه الحافظ في تلخيصه([10])، وهو صريح بعدم وقوع الرجم.
أفتى عثمان ا بالرجم؛ لأن المسألة لا نص فيها، بل هي من مسائل الاجتهاد التي للمصيب فيها أجران وللمخطئ أجر، قال الطريفي: «وقد يوجد من يولد لأقل من ستة أشهر، لكنه لا يعيش غالبًا بعد ولادته إلا بمنقذ من الآلات والأجهزة الحديثة، والنادر لا حكم له في أبواب الإطلاق، وإلا لم يصح إطلاق ولا عموم ولا قاعدة، وليس في إثبات الولادة لأقل من ست ما يشكك في الوحي كما يزعم أهل الباطل، وذلك أن القرآن لم يصرح بذلك، وإنما جعله تقريبًا، لا حدًّا فاصلًا لا يستأخر ولا يستقدم»([11]).
وهذه المسألة من النادر الذي يقع فيه الخطأ، فإذا وقع فالقاضي به معذور ومأجور كما وقع لداود S قال تعالى: [ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ] {الأنبياء:78-79} قال الحسن: «لولا هذه الآية لرأيت القضاة قد هلكوا، ولكنه تعالى أثنى على سليمان بصوابه، وعذر داود باجتهاده»([12]).
ومع اجتهاد عثمان هذا، إلا أنه لما ظهر له الصواب في المسألة رجع، وما استنكف أن يرجع في حكمه واجتهاده، وهذا لا يقوى عليه إلا الكبار، جاء عند الطبري عن بعجة بن زيد الجهني: «أن امرأة منهم دخلت على زوجها، وهو رجل منهم أيضًا، فولدت له في ستة أشهر، فذكر ذلك لعثمان بن عفان ا فأمر بها أن ترجم، فدخل عليه علي بن أبي طالب ا فقال: إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: [ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ] {الأحقاف:15} وقال: [ﭾ ﭿ ﮀ ] {لقمان:14} قال: فوالله ما عَبِدَ عثمان أن بعث إليها ترد»، قال يونس: قال ابن وهب: عبد: استنكف»([13]).
ورد في كتب الشيعة أن علي بن أبي طالب قطع يد رجل لم يسرق، ولم يعلم بأن الشاهدين أخطآ واشتبه عليهما، روى الكليني بسند حسنه المجلسي([14]) عن أبي جعفر قال: «قضى أمير المؤمنين ع في رجل شهد عليه رجلان بأنه سرق، فقطع يده، حتى إذا كان بعد ذلك جاء الشاهدان برجل آخر، فقالا: هذا السارق وليس الذي قطعت يده، إنما شبهنا ذلك بهذا، فقضى عليهما أن غرمهما نصف الدية، ولم يجز شهادتهما على الآخر»([15]).
فأين تحري علي وسؤال الناس عن الشهود، فهذا تسرع منه في قطع يد الرجل، علمًا أنهم يقولون بأن عليًّا يعلم ما في الضمائر والنفوس ومع ذلك ترك الرجل لتقطع يده بعد ظلمًا!
فينال علي بن أبي طالب -المعصوم في عقيدة الشيعة والعالم بالغيب!- ما نال عثمان من اعتراضاتهم، بل وأشد وآكد، قال الكرجي القصاب: «ومن لم ينصف خصومه في الاحتجاج عليهم لم يقبل بيانه وأظلم برهانه»([16]).
([1]) موطأ مالك (5/1204) ت الأعظمي.
([2]) السنن الكبرى، البيهقي (7/727) ط العلمية.
([3]) تفسير ابن أبي حاتم (10/3893)، وتفسير ابن كثير (7/280).
([4]) قال الحافظ ابن حجر: «محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي المدني، صاحب المغازي: صدوق، مشهور بالتدليس عن الضعفاء والمجهولين، وعن شر منهم، وصفه بذلك أحمد والدارقطني وغيرهما». طبقات المدلسين، ابن حجر (1/51).
([5]) ذكره الحافظ في المرتبة الرابعة في المدلسين، وقد قال عن هذه المرتبة: «الرابعة: من اتفق على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم، إلا بما صرحوا فيه بالسماع؛ لكثرة تدليسهم على الضعفاء والمجاهيل؛ كبقية بن الوليد». طبقات المدلسين (1/13).
([6]) مصنف عبد الرزاق (7/351) ت الأعظمي.
([8]) مصنف عبد الرزاق (7/351) ت الأعظمي.
([9]) البدر المنير (8/132).
([10]) التلخيص الحبير (3/219).
([11]) التفسير والبيان لأحكام القرآن (4/2039).
([12]) أحكام القرآن، ابن العربي (3/270) ط العلمية.
([13]) تفسير الطبري، (20/657) ط هَجَر.
([14]) مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، المجلسي (24/228).
([15]) الكافي، الكليني (7/384) .
([16]) النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام (2/113).