تناقض رأي عثمان في القصاص والدية

الشبهة:

ذكرت الشيعة أن عثمان ا كان يرى قتل المسلم بالكافر بلا دليل، وكان يرى أن دية الكافر مثل دية المسلم، مخالفًا بذلك كثيرًا من الروايات، واستدلوا على ذلك بما رواه البيهقي عَنِ الزُّهْرِيِّ: «أَنَّ ابْنَ شَاسٍ الْجُذَامِيَّ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ أَنْبَاطِ الشَّامِ، فَرُفِعَ إِلَى عُثْمَانَ ا فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَكَلَّمَهُ الزُّبَيْرُ ا وَنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ق ي فَنَهَوْهُ عَنْ قَتْلِهِ. قَالَ: فَجَعَلَ دِيَتَهُ أَلْفَ دِينَارٍ»([1]).

قال الأميني: «إن عجبي مقسم بين إرادة الخليفة قتل المسلم بالكافر، وبين جعل عقل الكافر مثل دية المسلم، فلا هذا مدعوم بحجة، ولا ذلك مشفوع بسنة، وأي خليفة هذا الذي يزحزحه مثل الزبير المعروفة سيرته، والمكشوفة سريرته عن رأيه في الدماء، وينهاه عن فتياه؟

غير أنه يفتي بما هو لدة رأيِه الأول في البعد عن السنة، ويسكت عنه الزبير وأناس نهوا الخليفة عما ارتآه أولًا، واكتفوا بحقن دم المسلم، وما راقهم مخالفة الخليفة مرة ثانية، وهذه النصوص النبوية صريحة في أن المسلم لا يقتل بالكافر، وإن عقل الكتابي الذمي نصف عقل المسلم»([2]).

 

([1]) السنن الكبرى، البيهقي (8/61) ط العلمية.

([2]) الغدير، الأميني (8/168).

الرد علي الشبهة:

الرواية التي استدلوا بها منقطعة لا تصح عن عثمان ا؛ فالزهري وُلد سنة ٥٠ هـ أو ٥١هـ كما يقول الذهبي([1])، وعثمان توفي باتفاق سنة ٣٥هـ، وهذا انقطاع مسقط للرواية، ولو كان من إنصاف عند هؤلاء لما أثاروا تلك الشبهة، وذلك أن الرافضي صاحب الشبهة قد نقل عن البيهقي، وأشار إلى أن الشافعي ذكر نفس الرواية في كتابه «الأم»، وعند الرجوع لكلا الكتابين نجد أن البيهقي قد نقل كلام الشافعي في تضعيف الرواية([2])، وأشار إلى ضعفه أيضًا محمد بن مبارك حكيمي([3])، وأعله الطريفي بالانقطاع([4]).

الثابت عن عثمان ا بالإسناد الصحيح أنه يرى عدم قتل المسلم بالكافر، ففي مصنف عبد الرزاق عن ابن عمر: «أن رجلًا مسلمًا قتل رجلًا من أهل الذمة عمدًا، فرُفع إلى عثمان فلم يقتله، وغلظ عليه الدية مثل دية المسلم»([5])، قال ابن حزم: «هَذَا فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ عَنْ عُثْمَانَ»([6]).

وبه يتبين جهلُ الرافضة بفقهِ عثمان في المسألة، وليس المجال للترجيح بين أقوال مَن قال بالقصاص مِن عدمه، لكن المقصود بيان أن الشيعة يرون جواب الشبهة أمام أعينهم ويجحدونها، هذا فضلًا عن جهلهم بفقه ذي النورين ا.

وأما قوال الرافضي: إن عثمان يسوي بين المسلم والكافر في الدية

فنقول: هذا انتكاس في فهم الروايات؛ إذ إن الأميني نفسه قد ذكر رواية عبد الرزاق الصحيحة التي فيها: «عن ابن عمر أن رجلًا مسلمًا قَتَل رجلًا من أهل الذمة عمدًا، فرُفع إلى عثمان فلم يقتله، وغلظ عليه الدية مثل دية المسلم»([7]).

وذلك أن فقه الأثر واضح أنه ليس الأصل عند عثمان أن دية الكافر كدية المسلم، إلا أنها تكون مغلظةً في حال القتل العمد، ويدل على أن عثمان كان يرى أن دية الكافر على النصف من دية المسلم ما جاء عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أنَّهُ قَالَ: «قَضَى عُثْمَانُ فِي دِيَةِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ»([8])، قال ابن قدامة في مثله: «كانت الدِّيَةُ ثمانيةَ آلافٍ، فأوْجَبَ فيه نِصْفَها أرْبعةَ آلافٍ»([9]).

على أننا لو قلنا بأن دية الكافر مثل دية المسلم فهو مذهب بعض أهل العلم، ويروون عليه أدلته من الكتاب والسنة، فأما دليلهم من الكتاب فقوله تعالى: [ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ] {النساء:92}.

فالآية تدل على وجوب الدية كاملة في قتل الذمي؛ لأن الدية المعهودة هي دية المؤمن، قال الجصاص في وجه دلالة الآية على ذلك: «وَالدِّيَةُ اسْمٌ لِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ مِنَ الْمَالِ بَدَلًا مِنْ نَفْسِ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ الدِّيَاتِ قَدْ كَانَتْ مُتَعَالِمَةً مَعْرُوفَةً بَيْنَهُمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ، فَرَجَعَ الْكَلَامُ إلَيْهَا فِي قَوْلِهِ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ خَطَأً، ثُمَّ لَمَّا عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: [ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ] {النساء:92} كَانَتْ هَذِهِ الدِّيَةُ هِيَ الدِّيَةُ الْمَذْكُورَةُ بَدِيهِيًّا؛ إذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَمَا كَانَتْ دِيَةً؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ اسْمٌ لِمِقْدَارٍ مَعْلُومٍ مِنْ بَدَلِ النَّفْسِ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، وَقَدْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَعْرِفُونَ مَقَادِيرَ الدِّيَاتِ وَلَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ الْفَرْقَ بَيْنَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الدِّيَةُ الْمَذْكُورَةُ لِلْكَافِرِ هِيَ الَّتِي ذُكِرَتْ لِلْمُسْلِمِ، وَأَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى: [ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ] {النساء:92} رَاجِعًا إلَيْهَا، كَمَا عَقَلَ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ أَنَّهَا الْمُعْتَادُ الْمُتَعَارَفُ عِنْدَهُمْ، وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَكَانَ اللَّفْظُ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ»([10])، وهناك أدلةٌ أخرى كثيرة من السنة ومن غيرها([11])، وليس هنا محل تقَصيها، وعليه فالقول بأنها مثل دية المسلم قول له وجه، لكن الأقوى منه ما فعله عثمان ا، وهو أنه كان يقضي بنصف الدية.

إن عابت الشيعةُ على عثمان ا في ذلك بالباطل فنحن نعيب عليهم بالحق، وذلك أنهم رووا عن أئمتهم أن ديةَ الكافر كدية المسلم سواءً بسواء، ففي كتاب الجعْفَريات عن جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيٍّ (ع) قَالَ: «دِيَةُ الْيَهُودِيِّ والنَّصْرَانِيِّ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ»([12]).

ومن هنا تناقضت أقوال الشيعة في هذا، فمِن قائل بتلك الروايات وأن دية الذمي كدية المسلم، ومِن قائل بأن تقديرها إلى الحاكم، ومِن قائل بأنها للذَّكر منهم ثمانمائة درهم، والأنثى أربعمائة درهم([13]).

يقول المدرسي: «وفي أكثر من رواية أنها مثل دية المسلم إن كانوا قد وفوا بشرائط الذمة، وقد يقال: إن الإمام هو الذي يحدد الدية حسب الشروط الموضوعة؛ حيث جاء في موثقة سماعة: «سألت أبا عبد الله S عن مسلم قتل ذميًّا فقال: هذا شيء شديد لا يحتمله الناس، فليعط أهله دية المسلم حتى ينكل عن قتل أهل السواد وعن قتل الذمي، ثم قال: لو أن مسلمًا غضب على ذمي فأراد أن يقتله ويأخذ أرضه ويؤدي إلى أهله ثمانمائة درهم إذًا يكثر القتل في الذميين»([14]).

فإن كان من تناقض فهو عند الرافضة لا عند عثمان ا.

 

([1]) سير أعلام النبلاء (5/326) ط الرسالة.

([2]) الأم، الشافعي (7/342) ط الفكر، وقال: «قلت: لا، ولا حرف، وهذه أحاديث منقطعات أو ضعاف أو تجمع الانقطاع والضعف جميعًا. قال: فقد رُوينا فيه أن عثمان بن عفان ا أمر بمسلم قَتل كافرًا أن يُقتل، فقام إليه ناس من أصحاب رسول الله ق فمنعوه، فوداه بألف دينار ولم يقتله، فقلت: هَذَا مِنْ حَدِيثِ مَنْ يَجْهَلُ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثَابِتٍ فَدَعِ الِاحْتِجَاجَ بِهِ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فَعَلَيْك فِيهِ حُكْمٌ وَلَك فِيهِ آخَرُ فَقُلْ بِهِ حَتَّى نَعْلَمَ أَنَّك قَدِ اتَّبَعْته عَلَى ضَعْفِهِ، قَالَ: وَمَا عَلَيَّ فِيهِ؟ قُلْنَا: زَعَمْت أَنَّهُ أَرَادَ قَتْلَهُ فَمَنَعَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ق فَرَجَعَ إلَيْهِمْ، فَهَذَا عُثْمَانُ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ق مُجْتَمَعِينَ أَلَّا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ». ونقله البيهقي في السنن الكبير (16/189) ت التركي.

([3]) العتيق مصنف جامع لفتاوى أصحاب النبي ق (32/148) بترقيم الشاملة آليًّا.

([4]) التحجيل في تخريج ما لم يخرج من الأحاديث والآثار في إرواء الغليل (ص491).

([5]) مصنف عبد الرزاق (6/212) ط التأصيل الثانية.

([6]) المحلى بالآثار (10/223).

([7]) الغدير، الأميني (8/167).

([8]) مصنف ابن أبي شيبة (5/407) ت الحوت، السنن الكبرى، البيهقي (8/175) ط العلمية.

([9]) المغني (12/53) ت التركي.

([10]) أحكام القرآن، الجصاص (2/298) ط العلمية.

([11]) ينظر: دية غير المسلم، الدكتور عبد الله العلي الركبان (ص١٣٢- ١٣٦).

([12]) الجعفريات الأشعثيات (1/124).

([13]) الانتصار في انفرادات الإمامية، الشريف المرتضى (1/545).

([14]) «الفقه الإسلامي - تعليقات على العروة الوثقى ومهذب الأحكام»، محمد تقي المدرسي (٤/461).