هذه القصة مَنْقَبةٌ مِن مناقب عثمان ا، وذلك أنه كان لا يتقحم المسائل إلا بعد العلم بعدم وجود دليل من كتاب الله أو من سنة رسوله ق، ولا يستنكف أن يسأل عما لا يعلم، ويتعلم حتى لو كان من امرأة، وهذا شأن أهل العلم الكبار.
أضف إلى ذلك أن معصومي الشيعة كانوا يتعلمون من أم المؤمنين عائشة ل ويقتدون بفعلها، ويأمرون الناس بالاقتداء به، فكما في وسائل الشيعة عن الحلبي قال: «سألت أبا عبد الله (ع) عن رجل أهَلَّ بالحج والعمرة جميعًا، ثم قدم مكة والناس بعرفات، فخشي إن هو طاف وسعى بين الصفا والمروة أن يفوته الموقف، قال: يَدَعُ العمرة، فإذا أتم حجه صنع كما صنعَتْ عائشة، ولا هدي عليه»([1]).
بل ذكر المجلسيُّ أن «امرأةً» كانت تؤدب الإمام المعصوم وتضربه فقال: «وفي القوي كالصحيح عن زرارة قال: رَأَيْتُ دَايَةَ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى S تُلْقِمُهُ الْأَرُزَّ وتَضْرِبُهُ عَلَيْهِ، فَغَمَّنِي مَا رَأَيْتُهُ، فَدَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ S فَقَالَ لِي: أَحْسَبُكَ غَمَّكَ مَا رَأَيْتَ مِنْ دَايَةِ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى، قُلْتُ لَهُ: نَعَمْ جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَقَالَ لِي: نِعْمَ الطَّعَامُ الْأَرُزُّ؛ يُوَسِّعُ الْأَمْعَاءَ، ويَقْطَعُ الْبَوَاسِيرَ، وإِنَّا لَنَغْبِطُ أَهْلَ الْعِرَاقِ بِأَكْلِهِمُ الْأَرُزَّ والْبُسْرَ؛ فَإِنَّهُمَا يُوَسِّعَانِ الْأَمْعَاءَ ويَقْطَعَانِ الْبَوَاسِيرَ»([2]).
فها هي الداية تؤدب الكاظم بحضور وإقرار من الصادق V، بل تضربه على أمر لا يعرف مصلحته به، ويقرها الصادق على ذلك.
ثم نقول: هل كان لفاطمة دَوْرٌ في تربية الحسنين أم لا؟
فإن كان لها دورٌ فقد أقروا أن المعصوم يحتاج إلى تربيةِ وتعليمِ امرأة، وإن قالوا لم تربهما ولم تعلمهما شيئًا فقد طعنوا في فاطمة؛ كونها لم تؤدب ولديها ولم تعلمهما، وأنهما مستغنيان تمامًا عن تعليمها وتأديبها بتأديب رسول الله ق لهما.
فمن عاب على عثمان بمثل ذلك إنما هو جاهل لا أكثر، وأراد أن يقلب الموازين الشرعية التي جاءت بطلب العلم وقبوله، ولو من طفل صغير.
إذا كان هذا الحكم معلومًا كما ادعى هذا الرافضي، فلماذا جاءت الروايات الشيعية صريحة في أن المرأة تعتد حيث شاءت؟!
فقد أخرج الكليني في الكافي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سِنَانٍ ومُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ S قَالَ: «سَأَلْتُهُ عَنِ الْمَرْأَةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَتَعْتَدُّ فِي بَيْتِهَا أَوْ حَيْثُ شَاءَتْ؟ قَالَ: بَلْ حَيْثُ شَاءَتْ؛ إِنَّ عَلِيًّا S لَمَّا تُوُفِّيَ عُمَرُ أَتَى أُمَّ كُلْثُومٍ فَانْطَلَقَ بِهَا إِلَى بَيْتِهِ»([3]).
وفي روضة المتقين: «وفي الصحيح عن سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد الله S عن امرأة تُوفي زوجها أين تعتد؟ في بيت زوجها تعتد، أو حيث شاءت؟ قال: حيث شاءت، ثمَّ قال: إن عليًّا S لما مات عمر أتى أم كلثوم فأخذ بيدها فانطلق بها إلى بيته، وفي الموثق كالصحيح، عن عبد الله بن سنان ومعاوية بن عمار عن أبي عبد الله S قال: سألته عن المتوفى عنها زوجها تعتد في بيتها أو حيث شاءت؟ قال: بل حيث شاءت؛ إن عليًّا S لما تُوفي عمر أتى أم كلثوم وانطلق بها إلى بيته»([4]).
فلو كان هذا الحكم في كتاب الله أن المرأة المتوفَّى عنها تعتد في بيت زوجها لأجاب معصومهم بذلك، ولذكر الدليل من كتاب الله، لكن لأن هذا الحكم إنما ثبت بالسنة من حديث الفريعة، فقد عمل عثمان بالسنة، وتركه هؤلاء الشيعة، فكان الأسعد بسنة النبي ق هو عثمان ا.
ظن الرافضي أن من شروط الخليفة أن لا تخفى عليه خافية! فلا بد أن يعلم ما كان وما يكون وما هو كائن! ومن عجبٍ أنه يزعم أن الخليفة يسد فراغ النبي ق! وهذا من سوء أدبه مع مقام النبوة؛ إذ لا يملأ مكان النبي ق أحدٌ كائنًا من كان.
وإنما المطلوب في الخليفة أن يكون عارفًا بأمور الحكم، وأما جزئيات الفقه فوظيفة غيره من المفتين والقضاة، قال ابن تيمية: «وَوَلِيُّ الْأَمْرِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ فِي السِّيَاسَةِ الْعَامَّةِ الْكُلِّيَّةِ أَحْوَجُ مِنْهُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ فِي الْحُدُودِ الْجُزْئِيَّةِ»([5]).
والسبب في ذلك أن المكلف بأمر يجب أن يكون عارفًا به، أما علمه بغيره ففضل، وليس من شأن الخليفة إفتاء الناس في فرعيات الفقه، وإنما هذا شأن أهل العلم المتفرغين لذلك، فإذا عرضت للخليفة مسألة جمعهم فأفتوا، كما يقول الطرسوسي الحنفي (ت ٧٥٨هـ): «ويغني الخليفة معرفة كافية بالشرع، فإذا عرضت له مسألة تقتضي الاجتهاد استعان بمجتهدي رعيته»([6]).
فهذا شأن الخليفة، وإلَّا فإن الشيعة قد قالوا بأن أئمتهم مع كونهم معصومين قد تعرض عليهم المسألة ليس عندهم فيها شيء، فينتظرون الوحي من السماء ليفتيهم.
-
- الإمام يوحى إليه:
ففي بصائر الدرجات عن بشر بن إبراهيم قال: «كنت جالسًا عند أبي عبد الله S؛ إذ جاءه رجل فسأله عن مسألة فقال: ما عندي فيها شيء، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، هذا الإمام المفترض الطاعة سألته عن مسألة فزعم أنه ليس عنده فيها شيء، فأصغى أبو عبد الله S أذنه إلى الحائط كأن إنسانًا يكلمه فقال: أين السائل عن مسألة كذا وكذا؟ وكان الرجل قد جاوز أُسْكُفَّةَ الباب([7]) قال: ها أنا ذا، فقال: القول فيها هكذا، ثم التفت إلي فقال: لولا نزاد لنفد ما عندنا»([8]).
فهذا الإمام الذي من المفترض أنه الخليفة والإمام والمعصوم، يُسأل عن مسألة فيقول: «ما عندي فيها شيء»، فعلى كلامهم تسقط إمامته؛ كونه يجهل الشريعة التي بلغها النبي ق للأمة.
قولهم بأن عثمان قد تعلم منِ امرأة دالٌّ على احتقارهم للنساء، وقد نسبوا لعلي بن أبي طالب قوله: «فاتقوا شرار النساء، وكونوا من خيارهن على حذر، ولا تطيعوهن في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر»([9]).
أما عند المسلمين فقد تشير المرأة بأمر فيه الفَرَجُ للأمة كلِّها، كما في موقف أم سلمة ل يوم الحديبة؛ إذ قالت له ق: «اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً، حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا، فَنَحَرُوا»([10]).
-
- نبي الله سليمان يتعلم من نملة:
بل وجاء في روايات الشيعة أنفسهم أن سليمان بن داود R كان يتعلم من نملة! فعن جعفر الصادق: «....ثم قالت النملة: أنت أكبر أم أبوك داود؟ قال سليمان S: بل أبي داود، قالت النملة: فلِمَ زِيدَ في حروف اسمك حرف على حروف اسم أبيك داود؟ قال سليمان: ما لي بهذا علم، قالت النملة: لأن أباك داود داوَى جرحه بِود فسمي داود، وأنت يا سليمان أرجو أن تلحق بأبيك، ثم قالت النملة: هل تدري لم سُخِّرت لك الريح من بين سائر المملكة؟ قال سليمان: ما لي بهذا علم، قالت النملة: يعني D بذلك: لو سَخَّرتُ لك جميع المملكة كما سَخَّرتُ لك هذه الريح لكان زوالها من يدك كزوال الريح، فحينئذ تبسم ضاحكًا من قولها»([11]).
-
- الأئمة يتعلمون من غير المعصومين:
ورووا عن الحسن أنه كان يتعلم من خالِهِ هنْدِ بن أبي هالة([12])، فَعَنْهُ S قال: «سألت خالي هند بن أبي هالة التميمي عن حلية رسول الله (ص)...»([13]).
وقد كان الصحابة يتعلم بعضهم من بعض، بل لقد تعلم عليٌّ مِنِ ابن عباس كما عند الترمذي عَنْ عِكْرِمَةَ: «أَنَّ عَلِيًّا حَرَّقَ قَوْمًا ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَقَتَلْتُهُمْ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ق: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»، وَلَمْ أَكُنْ لأُحَرِّقَهُمْ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ق: «لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللهِ»، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا، فَقَالَ: صَدَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ»([14]).
وبه يتبين أن الطعن من الروافض بمثل هذا ما هو إلا لشدَّةِ جهلهم بحقائقِ الأمور؛ ولذلك تراهم يقلِبون المدح ذمًّا والذم مدحًا! فيعود ذلك عليهم بأشنع الذم وأفحشِه.
([1]) وسائل الشيعة، الحر العاملي (2/297).
([2]) روضة المتقين، المجلسي (4/166).
([3]) الكافي، الكليني (6/115) وقال المجلسي عن الرواية في مرآة العقول: «موثق» (21/197).
([4]) روضة المتقين، محمد تقي المجلسي (9/90).
([5]) منهاج السنة النبوية، ابن تيمية (6/48).
([6]) تحفة الترك فيما يجب أن يعمل في الملك (ص17).
([7]) الأُسْكُفَّةُ أي: عتبة الباب.
([8]) بصائر الدرجات (ص416).
([9]) نهج البلاغة (1/129).
([10]) صحيح البخاري (3/193).
([11]) علل الشرائع، الصدوق (1/72)، بحار الأنوار، المجلسي (14/92 – 93)، عيون أخبار الرضا، الصدوق (1/84 – 85)، التفسير الصافي، الفيض الكاشاني (4/62)، تفسير نور الثقلين، الحويزي (4/82) قصص الأنبياء، الجزائري (ص416).
([12]) موسوعة أحاديث أهل البيت، هادي النجفي (١/131).
([13]) عيون أخبار الرضا (2/222).
([14]) سنن الترمذي (3/111) وقال: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ»، وقال عنه العلامة الألباني في «صحيح وضعيف سنن الترمذي»: صحيح (3/458).