توسعة الحرم في عهد عثمان ا من أعظم مناقبه، تفاخر بها ا وشهد له بذلك المؤالف والمخالف، فقد أخرج ابن حبان عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: «قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَجَاءَ عُثْمَانُ فَقِيلَ: هَذَا عُثْمَانُ، وَعَلَيْهِ مُلَيَّةٌ لَهُ صَفْرَاءُ، قَدْ قَنَّعَ بِهَا رَأْسَهُ، قَالَ: هَا هُنَا عَلِيٌّ؟ قَالُوا: نَعَمْ: قَالَ: هَا هُنَا طَلْحَةُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ق، قَالَ: «مَنْ يَبْتَاعُ مِرْبَدَ بَنِي فُلَانٍ غَفَرَ اللهُ لَهُ»، فَابْتَعْتُهُ بِعِشْرِينَ أَلْفًا، أَوْ بخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ق فَقُلْتُ لَهُ: قَدِ ابْتَعْتُهُ، فَقَالَ: «اجْعَلْهُ فِي مَسْجِدِنَا وَأَجْرُهُ لَكَ»؟ قَالَ: فَقَالُوا: اللهُمَّ نَعَمْ»([1]).
فكان هذا من مناقبه ا التي أقر بها أعداؤه بعد أن بيَّنها لهم، وبعد وفاة النبي ق وفي خلافته ا زاد في المسجد النبوي زياداتٍ كثيرة، كما روى البخاري في صحيحه أَنَّ عَبْدَ اللهِ أَخْبَرَ نَافِعًا: «أَنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ق مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ، وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ، وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ، فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ شَيْئًا، وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ وَبَنَاهُ عَلَى بُنْيَانِهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ق بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ، وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا، ثُمَّ غَيَّرَهُ عُثْمَانُ فَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً، وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالْقَصَّةِ، وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ، وَسَقَفَهُ بِالسَّاجِ»([2]).
وهذا في غاية الفضل من أمير المؤمنين عثمان ا، ولا ينكر عليه إلا حاسد أو حاقد أو قليل علم جاهل([3])، وقد أرجف المرجفون في المدينة بنظير ذلك فتكلموا في فعله ا في توسعة المسجد، فبَيَّن لهم أنهم جهلة بالشرع والدين لا يفقهون، وأن لهذا العلم أهله وناسه، فقد جاء في الصحيحين عن عُبَيْدِ اللهِ الْخَوْلَانِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ عِنْدَ قَوْلِ النَّاسِ فِيهِ حِينَ بَنَى مَسْجِدَ الرَّسُولِ ق: «إِنَّكُمْ أَكْثَرْتُمْ، وَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ ق يَقُولُ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا - قَالَ بُكَيْرٌ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: - يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللهِ، بَنَى اللهُ لَهُ مِثْلَهُ»([4]).
فتوسعة أمير المؤمنين عثمان للمسجد النبوي هو أمر ممدوح محمود في الشريعة الغراء، إلا أن قليلي البضاعة في العلوم الشرعية لا يفقهون ذلك.
إن ما نقله الواقدي من هدم المنازل وانتزاع الملكيات ممن رفض البيع يفتقر إلى إسناد صحيح يُقبَلُ به؛ إذ الواقدي حالُه معلوم لأصغر طالب من طلبة علوم الشريعة.
-
- جواز نزع الملكيات الخاصة تغليبًا للمصلحة العامة
وأهل السنة متسالمون على جواز نزع الملكية الخاصة للمصلحة العامة، وهذا مبناه على قواعد مستقرة في الإسلام، منها قاعدة: «يحتمل الضَّرر الخاصُّ لدفع الضَّررُ العامُّ»، وقاعدة: «يحتمل أخف المفسدتين لأجل أعظمها»([5]).
ونصوص الفقهاء كثيرة في تقرير جواز نزع الملكية الخاصة دفعًا للضرر العام، قال الشاطبي: «الْمَصَالِح الْعَامَّة مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ..، وقَدْ زَادُوا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ ق مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا رَضِيَ أَهْلُهُ وَمَا لَا، وَذَلِكَ يَقْضِي بِتَقْدِيمِ مَصْلَحَةِ الْعُمُومِ عَلَى مَصْلَحَةِ الْخُصُوصِ، لَكِنْ بِحَيْثُ لَا يَلْحَقُ الْخُصُوصَ مَضَرَّةٌ»([6]).
وقد قرر ابن القيم أيضًا أنه يجوز إخراج الشيء من ملك صاحبه قهرًا بثمنه للمصلحة الراجحة([7])، وقال الشبلي في حاشيته: «وَلَوْ ضَاقَ الْمَسْجِدُ عَلَى النَّاسِ وَبِجَنْبِهِ أَرْضٌ لِرَجُلٍ تُؤْخَذُ أَرْضُهُ بِالْقِيمَةِ كُرْهًا، وَلَوْ كَانَ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ أَرْضُ وَقْفٍ عَلَى الْمَسْجِدِ فَأَرَادُوا أَنْ يُزِيدُوا شَيْئًا فِي الْمَسْجِدِ مِنَ الْأَرْضِ جَازَ ذَلِكَ بِأَمْرِ الْقَاضِي»([8]).
وعليه فإذا كان عثمان قد أجبر البعض على البيع لتوسعة المسجد فهذا دليل على فقهه وحسن سياسته ا.
هذا المعارِضُ -الأميني- على فعل عثمان ا من أجهل الناس بدينه؛ إذ إن الشيعة لم يختلفُوا في جواز نزع الملكية الخاصة جبرًا لتحقيق المصلحة العامة، قال محمد آصف المحسني: «وإن ألحق الإلزام الضرر ببعض الأفراد؛ لأنّه ضرر خاص فيقدّم عليه الضرر العامّ، فيتحمّل الضرر الخاص لدفع الضرر العامّ»([9]).
وقال محمد السند: «إنَّ الملكية الخاصّة إذَا ما تعارضت مَعَ الصالح العام للمجتمع ولعمران المدن وحاجات العباد فَإنَّها تسقط، كَمَا إذَا استلزمت المصالح المدنية العامة شق طريق يمر عَلَى أرض مملوكة بملكية خاصّة، فَإنَّ الصالح العام يتغلّب عَلَى الملكية الخاصّة، وتزال الأرْض عَنْ صفتها الأولى ويشق الطريق العام»([10]).
وهذه القاعدة تقررها بديهيات العقول والفطر السلمية، بل هي المعمول بها في القوانين الوضعية لمناسبتها لمصالح البلاد والعباد، فهذا شيخهم محمد اليعقوبي ينقل بعض نصوص الدستور العراقي، ويقرر ما نحن بصدده من جواز نزع الملكية الخاصة لدفع الضرر العام، فيقول: «وورد في المادة العاشرة من نفس الباب، الفقرة (ب) ما نصّه: (الملكية الخاصة مصونة، فلا يمنع أحد من التصرف في ملكه إلَّا في حدود القانون، ولا ينتزع عن أحد ملكه إلَّا لأغراض المنفعة العامة)، وهذا مبرر غير كافٍ، فإن وجود منفعة عامة لا تبرر انتزاع الملك الشخصي إلَّا بإذنه. نعم لو توقف دفع ضرر عام على ذلك جاز»([11]).
وأي ضرر إذًا أعظم من ضيق المسجد النبوي على المصلين؟!
وعليه فلم يكن ما فعله عثمان من انتزاع الملكية الخاصة لبعض الأفراد -إن ثبت بنقل صحيح- إلا تطبيقًا لشريعة الإسلام، وإزالة للضرر عن المسلمين، وتوسعة عليهم، فرضي الله على من وسع على المسلمين ورفع درجاته في عليين.
([1]) صحيح ابن حبان (4/186).
([2]) صحيح البخاري (1/97) ط السلطانية.
([3]) أخرج البلَاذُرِي عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: «وَسَّعَ عُثْمَانُ مَسْجِدَ النَّبِيِّ ق فَأَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ النَّاسُ: يُوَسِّعُ مَسْجِدَ رَسُولِ اللهِ وَيُغَيِّرُ سُنَّتَهُ». أنساب الأشراف، البلاذري (5/527).
([4]) صحيح البخاري (1/97) ط السلطانية، صحيح مسلم (4/2287) ت عبدالباقي.
([5]) موسوعة القواعد الفقهية، محمد صدقي الغزي (12/322)، قواعد الفقه، محمد عميم البركتي (ص139).
([7]) الطرق الحكمية (ص217).
([8]) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (3/331).
([9]) الفقه ومسائل طبية (٢/٤٦).
([10]) مقامات فاطمة الزهراء (ع) في الكتاب والسنة (ص٢٧١).
([11]) خطاب المرحلة (٤/١٠٧).