إقرار عمار بمشاركته في قتل عثمان

الشبهة:

أورد ابن عبد ربه الأندلسي في عقده عن سعد بن أبي وقاص أنه قال لعمار بن ياسر ما نصه: «لقد كنتَ عندنا من أفاضل أصحاب محمد، حتى إذا لم يبق من عمرك إلا ظِمِءِ الحمار فعلت وفعلت! يعرض له بقتل عثمان، قال عمار: أي شيء أحب إليك: مودة على دخل أو هجر جميل؟ قال: هجر جميل! قال: فلله عليَّ أن لا أكلمك أبدًا»([1]).

 

([1]) العقد الفريد (5/46).

الرد علي الشبهة:

كتاب العقد الفريد هو كتاب نظمه صاحبه على طريقة الأدباء بلا أسانيد، وضَمَّنَه الأمور الدينية والأدبية والتاريخية والسياسية والحروب والأمثال والمواعظ والمعازي والمراثي وكلام الأعراب والخطب والأنساب والعلوم والآداب والأشعار، ومقصد صاحبه منه هو نقل الطرفة والملحة، فمال فيه إلى الفكاهة والدعابة والقصص والنوادر والنكات بأسلوب أدبي، وليس موضوعه الروايات والأحكام، كما نص صاحبه في مقدمة كتابه([1]).

الخبر الوارد في كتاب ابن عبد ربه بلا سند، فلا يمكن آنذاك أن يكون محل احتجاج لإثبات مثل هذه القضية، فالإسناد من الدين([2])، ولأهمية الإسناد في إثبات النقل وهذا ليس محل اختلاف أو نزاع بين أحد من العالمين- قال شيخ الإسلام في معرض رده على من ادَّعى أن علي بن أبي طالب ا قتل رامي ثنية النبي ق في غزاة بني النضير ما نصه: «لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ إِسْنَادِهِ أَوَّلًا، وَإِلَّا فَلَوْ أَرَادَ إِنْسَانٌ أَنْ يَحْتَجَّ بِنَقْلٍ لَا يُعْرَفُ إِسْنَادُهُ فِي جَزَرَةِ بَقْلٍ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، فَكَيْفَ يَحْتَجُّ بِهِ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ؟!»([3]).

العبارة التي يُفهم منها هذه الشبهة هي قوله: «يعرض له بقتل عثمان» ليست من أصل الخبر، إنما هي زيادة من ابن عبد ربه نفسه على الخبر، ودليل ذلك أن ابن قتيبة الدينوري قد أورد هذا الخبر في المعارف وليس فيه هذه العبارة فقال: «وقال له سعد: إن كنا لنعدك من أفاضل أصحاب سيدنا محمد ق، حتى إذا لم يبق من عمرك إلا ظِمِءِ الحمار أخرجت ربقة الإسلام من عنقك، ثم قال له: أيما أحب إليك: مودة على دخل أو مصارمة جميلة؟ قال: بل مصارمة جميلة، فقال: لله علي أن لا أكلمك أبدًا»([4]).

وأوردها مرة أخرى في عيون الأخبار([5]) وكذلك لم يثبت فيها هذه الزيادة، وابن قتيبة الدينوري أقدم فهو من أعلام القرن الثالث الهجري (ت276هـ) وابن عبد ربه من أعلام القرن الرابع (ت328هـ).

كما أوردها أبو منصور الثعالبي في ثمار القلوب بدون هذه الزيادة كذلك([6])، والثعالبي من أعلام القرن الخامس الهجري (ت419هـ).

فكل من أورد هذا الأثر لا يورد هذه الزيادة التي أوردها ابن عبد ربه! فدل ذلك على أنها من ابن عبد ربه نفسه، وهذا هو فهمه لا نص الخبر، وغاية ما في هذا الخبر على فرض التسليم به- هو العتاب بين الصحابيين الجليلين على اختلاف مواقفهما من أمير المؤمنين عثمان بن عفان ي، بدلالة قول عمار: «أيما أحب إليك؟ مودة على دخنٍ، أو مصارمة جميلة»، والله تعالى أعلى وأعلم.

 

([1]) قال ابن عبد ربِّه في مقدمة الكتاب ما نصه: «وقد ألّفت هذا الكتاب وتخيّرت جواهره من متخيّر جواهر الآداب ومحصول جوامع البيان، فكان جوهر الجوهر ولباب الّلباب؛ وإنّما لي فيه تأليف الأخبار، وفضل الاختيار، وحسن الاختصار، وفرش في صدر كلّ كتاب؛ وما سواه فمأخوذ من أفواه العلماء، ومأثور عن الحكماء والأدباء. واختيار الكلام أصعب من تأليفه ... فتطلّبت نظائر الكلام وأشكال المعاني وجواهر الحكم وضروب الأدب ونوادر الأمثال، ثم قرنت كلّ جنس منها إلى جنسه، فجعلته بابًا على حدته؛ ليستدلّ الطالب للخبر على موضعه من الكتاب، ونظيره في كلّ باب. وقصدت من جملة الأخبار وفنون الآثار أشرفها جوهرًا، وأظهرها رونقًا، وألطفها معنًى، وأجزلها لفظًا، وأحسنها ديباجةً، وأكثرها طلاوةً وحلاوةً». العقد الفريد (1/4: 5)

([2]) عن عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُبَارَكِ قال: «الْإِسْنَادُ مِنَ الدِّينِ، وَلَوْلَا الْإِسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ». مقدمة صحيح مسلم (ص15).

([3]) منهاج السنة النبوية (8/110).

([4]) المعارف، ابن قتيبة (ص550)

([5]) عيون الأخبار (3/128).

([6]) ثمار القلوب في المضاف والمنسوب (ص371).