الرواية الأولى عِلَّتها الانقطاع بين أبي قلابة وحذيفة، فإن أبا قلابة لم يدرك حذيفةَ، قاله الحافظ الدمشقي([1]) ...................................
والذهبي([2]) والحافظ ابن حجر([3])، بل ومن تأخرت وفاته بعد حذيفة ا بأكثر من ثلاثين سنة، فرواية أبي قلابة عنهم مرسلة، يقول الذهبي: «عبد الله بن زيد أبو قلابة الجرمي من أئمة التابعين، حديثه عن عمر وأبي هريرة وعائشة ومعاوية وسمرة في سنن النسائي، وتلك مراسيل»([4]).
وأما الرواية الثانية فعلَّتها عنعَنَةُ الأعمش، وهو مدلس باتفاق أهل العلم، وتدليسه غير مقبول إلا أن يصرح بالتحديث، قال الخطيب: «لَا نَقْبَلُ مِنَ الْأَعْمَشِ تَدْلِيسَهُ؛ لِأَنَّهُ يُحِيلُ عَلَى غَيْرِ مَلِيءٍ»([5]).
وقال ابن حبان: «وأما المدلسون الذين هم ثقات وعدول، فإنا لا نحتج بأخبارهم إلا ما بينوا السماع فيما رووا مثل الثوري، والأعمش...»([6]).
لو أننا تنزلنا وقبلنا هذه الرواية –مع عدم ثبوتها كما مضى بيانه في الوجه الأول- فلا تُثْبِت أي طعن من حذيفة في عثمان؛ لأنها مبهمة وليس فيها تفصيل ما قال حذيفة في عثمان، ونحن لا نقبل تأويل متأول يذكر كلامًا لم تصرح به الروايات.
✍ ونقول: إن حذيفة كان يوالي عثمان ولو كان ذلك في حضوره فقط، والرافضة أقرت أن حذيفة لم يوال ظالِمًا قط، فقد جاء في رجال الكَشي عن أبي الحسن الرضا قال: «ذكر أن حذيفة لما حضرته الوفاة وكان آخر الليل، قال لابنته: أية ساعة هذه؟ قالت: آخر الليل، قال: الحمد لله الذي بلغني هذا المبلغ ولم أوالِ ظالِمًا على صاحب حق، ولم أُعادِ صاحب حق»([7]).
جعل بعض أهل العلم ذلك من باب المعاريض، فقال الشيباني: «وإن حذيفة ا من كبار الصحابة، وكان بينه وبين عثمان ا بعض المداراة، فكان يستعمل معاريض الكلام فيما يخبره به ويحلف له عليه، فلما أشكل ذلك على السامع سأله عن ذلك، فقال: إني أشتري ديني بعضه ببعض، يعني أستعمل معاريض الكلام على سبيل المداراة، وكأنه كان يحلف ما قلتها ويعني ما قلتها في هذا المكان، أو في شهر كذا، أو يعني «الذي»، فإن «ما» قد تكون بمعنى «الذي»، فهذا ونحوه من باب استعمال المعاريض»([8]).
ويقول ابن قتيبة: «وَأَرَادَ بِيَمِينِهِ اسْتِلَالَ سَخِيمَتِهِ، وَإِطْفَاءَ سَوْرَةِ غَضَبِهِ، وَكَرِهَ أَنْ يَنْطَوِيَ عَلَى سُخْطِهِ عَلَيْهِ، وَسُخْطُ الْإِمَامِ عَلَى رَعِيَّتِهِ كَسُخْطِ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ، وَالسَّيِّدِ عَلَى عَبْدِهِ، وَالْبَعْلِ عَلَى زَوْجِهِ، بَلْ سُخْطُ الْإِمَامِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ حُوبًا، فَاشْتَرَى الْأَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ بِالْأَصْغَرِ، وَقَالَ: أَشْتَرِي بَعْضَ دِينِي بِبَعْضٍ»([9]).
وكل هذه التأويلات على القول بصحة الرواية تنزلًا، وإلا فنحن لا نحتاج للتأويل إلا بعد إثبات الأصل، ولم يثبت كما قررنا.
ولا يمكن لشيعي بحال أن يطعن في فعل حذيفة، فهذه فاطمة ارتكبت المحظورات في الشريعة، وخطبت أمام الرجال من باب الضرورات التي تبيح المحظورات.
يقول التبريزي: «[دفع إشكالين]..، وهي المخدَّرة العظمى، ومحل العصمة الكبرى، فكيف يصح لشأنها في شرع أبيها أن تخرج من خدرها، وتدخل المسجد الغاص بالمهاجرين والأنصار، والأخيار والأشرار وهم أجانب عنها، تسمعهم صوتها، وتتكلم معهم ويتكلمون معها؟! وكيف رضي أمير المؤمنين S بذلك منها، مع أنه كان يمكنه أن يطلب حقَّها الذي كانت تطلبه بالوكالة عنها؛ حتى لا يسمع الأجانب كلامها؟!
الثاني: أنها كانت من أهل بيت العصمة والطهارة،.. فما وجه هذا الإصرار في خصوص فدَك على هؤلاء الكفار الفجار، حتى انتهى الأمر إلى الخروج إلى مجامع المهاجرين والأنصار، ومحضر الشهود والنظار، والمكالمة مع الفجار والأبرار، وكذا البكاء والأنين عند جماعة الموافقين والمنافقين، وخطاب المعاتبة على أمير المؤمنين، وغير ذلك مما يأتي تفصيله في محله؟! والجواب عن الأمرين معًا كما يظهر من الروايات: أن الضرورات تبيح المحظورات»([10]).
بل كان الواحد من الأئمة ينفي الإمامة عن نفسه تقيَّةً وخوفًا على نفسِهِ، فقد جاء في الأخبار: «جعلت فداك، مضى أبوك؟ قال: نعم، قال، قلت: جعلت فداك، مضى في موت؟ قال: نعم، قلت: جعلت فداك، فمن لنا بعده؟ فقال: إن شاء الله يهديك هداك، قلت: جعلت فداك، إن عبد الله يزعم أنه من بعد أبيه، فقال: يريد عبد الله ألا يعبد الله، قال: قلت له: جعلت فداك، فمن لنا من بعده؟ فقال: إن شاء الله أن يهديك هداك أيضًا. قلت: جعلت فداك، أنت هو؟ قال: ما أقول ذلك»([11]).
وقد صرح المرتضى أن هذا كان ديدن الأئمة عمومًا، فقال: «فإن قيل: إن كان الخوف أحوجه إلى الاستتار، فقد كان آباؤه عندكم في تقيَّةٍ وخوفٍ من أعدائهم، فكيف لم يستتروا؟! قلنا: ما كان على آبائهم Q خوف من أعدائهم مع لزومهم التقية، والعدول عن التظاهر بالإمامة، ونفيها عن نفوسهم»([12]).
بل هذا الحسن كان معه أربعون ألفًا يقاتلون معه([13]) فسلَّم معاويةَ رقاب الناس ودماءهم وأموالهم، وكانت العلة في هذا الفعل هو خوفه على نفسه! يقول الطبرسي عن صلح الحسن: «وإنما هادنه S خوفًا على نفسه»([14]).
وهذا عينُ الطعن في الحسن بن عليٍّ وفي أهل بيت نبينا رضوان عليهم، فإن دفعوا ذلك عنهم بكل دافعٍ، فإنا ندفع بمثله وأبلغ منه ما شغبوا به على ذي النورين ا وعن سائر الصحابة أجمعين.
([1]) قال الحافظ المنذري في مختصر سنن أبي داود: «أبو قلابة: عبد الله بن زيد الجَرْمي البصري، ذكر الحافظ أبو القاسم الدمشقي في الأطراف أنه لم يسمع منهما -يعني حذيفة وأبا مسعود ب». مختصر سنن أبي داود، المنذري (3/362) ت حلاق.
([2]) قال الذهبي وهو يترجم لأبي قلابة ومن روى عنه: «وَعَنْ حُذَيْفَةَ فِي (سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ) وَلَمْ يَلْحَقْهُ». سير أعلام النبلاء (4/468) ط الرسالة.
([3]) قال الحافظ ابن حجر: «لأن أبا قلابة لم يدرك حذيفة». الإصابة في تمييز الصحابة (7/216).
([5]) الكفاية في علم الرواية، الخطيب البغدادي (ص362).
([6]) صحيح ابن حبان، محمد بن حبان البستي (1/161).
([7]) اختيار معرفة الرجال = رجال الكشي (١/٢٠١).
([8]) المخارج في الحيل، محمد بن الحسن الشيباني (ص100) ط الثقافة الدينية.
([9]) تأويل مختلف الحديث (ص89).
([10]) اللمعة البيضاء، التبريزي الأنصاري (ص٣٢١).
([11]) اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشي (2/566).
([12]) المقنع في الغيبة، المرتضى (ص54).
([13]) عن حمران عن أبي جعفر S قال: قلت له: «يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله، زعم ولد الحسن S أن القائم منهم، وأنّهم أصحاب الأمر، ويزعم ولد ابن الحنفية مثل ذلك، فقال: رحم الله عمي الحسن S؛ لقد غمد الحسن S أربعين ألف سيف حين أصيب أمير المؤمنين S وأسلمها إلى معاوية». مسند الباقر، عزيز الله العطاردي (٣/186).
([14]) إعلام الورى بأعلام الهدى (1/402).