يكفي في الرد على هذه الدعوى العارية عن أي مستند أن نطالبهم بالدليل الصحيح [ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ] {البقرة:111} فالدعاوى إن لم تُقَمْ عليها بيناتٌ فأصحابها أدعياء، ونحن نجزم أنه لم تصح رواية قط في عدم الصلاة على عثمان ا أو عدم تكفينه أو تأخير دفنه ليومين أو ثلاثة، بل إن الروايات قد جاءت يقوي بعضُها بعضًا أن الصحابة قد صلوا عليه ودفنوه في يوم مقتله.
يقول ابن حزم: «من قَالَ إِنه ا أَقَامَ مطروحًا على مزبلة ثَلَاثَة أَيَّام فكذب بَحت، وإفك مَوْضُوع، وتوليد من لَا حَيَاء فِي وَجهه، بل قُتل عَشِيَّة وَدُفن من ليلته ا، شهد دَفنه طَائِفَةٌ من الصَّحَابَة، وهم: جُبَير بن مطعم وَأَبُو الجهم بن حيفة وَعبد الله بن الزبير ومكرم بن نيار وَجَمَاعَة غَيرهم، هَذَا مِمَّا لَا يتمادى فِيهِ أحد مِمَّن لَهُ علم بالأخبار، وَلَقَد أَمر رَسُول الله ق بِرمْي أجسادِ قَتْلَى الْكفَّار من قُرَيْش يَوْم بدر فِي القليب وَألقى التُّرَاب عَلَيْهِم وهم شَر خلق الله تَعَالَى، وَأمر S أَن يحْفر أخاديد لقتلى يهود قُرَيْظَة وهم شَر من وارته الأَرْض، فمواراة الْمُؤمن وَالْكَافِر فرض على الْمُسلمين، فَكيف يجوز لمن لا حَيَاء فِي وَجهه أَن ينْسب إِلَى عَليٍّ وَهُوَ الإِمَام وَمن بِالْمَدِينَةِ من الصَّحَابَة أَنهم تركُوا رجلًا مَيتًا ملقًى بَين أظهرهم على مزبلة لَا يوارونه؟! وَلَا نبالي مُؤمنًا كَانَ أَو كَافِرًا، وَلَكِن الله يَأْبَى إِلَّا أَن يفضح الْكَذَّابين بألسنتهم، وَلَو فعل هَذَا عَلي لكَانَتْ جرحة؛ لِأَنَّهُ لَا يخلو أَن يكون عُثْمَان كَافِرًا أَو فَاسِقًا أَو مُؤمنا، فَإِن كَانَ كَافِرًا أَو فَاسِقًا عِنْده فقد كَانَ فرضًا على عَليٍّ أَن يفْسخ أَحْكَامه فِي الْمُسلمين، فَإِذ لم يفعل فقد صَحَّ أَنه كَانَ مُؤمنًا عِنْده، فَكيف يجوز أَن ينْسب ذُو حَيَاء إِلَى عَليٍّ أَنه ترك مُؤمنًا مطروحًا مَيتًا على مزبلة لَا يَأْمر بمواراته؟! أم كَيفَ يجوز أَن يَظُنّهُ بِهِ أَنه أنفذ أَحْكَام كَافِر أَو فَاسق على أهل الْإِسْلَام، ومَا أحد أَسْوَأ ثَنَاء على عَليٍّ من هَؤُلَاءِ الكذبة الفجرة»([1]).
ويقول الدكتور عبد الله غبان: «لم يصح مما ورد في الصلاة على عثمان ا، وجنازته، ودفنه إلا نتف من روايات ضعيفة، قوّى بعضها بعضًا، فمما تقوى أنه صُلِّي عليه، وأن مالك بن أبي عامر كان ممن حمل نعشه، وسار في جنازته، وأنه دُفن في حائط من حيطان المدينة يقال له: حَش كوكب، وحَش كوكب: هو بستان بالقرب من بقيع الغَرْقد. هذه المعلومات التي صحت في هذه الموضوعات الثلاث»([2]).
إذا كان قد جاءت روايات لا تثبت تقول بأن عثمان لم يُصل عليه أو لم يكفن فنحن نقول: قد جاءت الروايات متكاثرة -وهي أقوى من تلك- تثبت أن عثمان ا قد صلى عليه المسلمون وكفَّنوه ودفنوه في نفس اليوم الذي قُتل فيه، ومن تلك الروايات:
- ما جاء في تاريخ دمشق بإسناد رجاله ثقات عن عبد الأعلى، أنه سمع سعيد بن عبد العزيز يقول: «صلى جبير بن مطعم على عثمان في ثمانية»([3]).
وقال القاسم بن أمية بن أبي الصلت: «لعمري لبئس الذبح ضحيتم به... خلاف رسول الله يوم الأضاحي.
قال: ودُفن عثمان ليلًا، وصلى عليه جبير بن مطعم، ويقال: حكيم بن حزام، ويقال: المسور بن مخرمة، وكانت ولايته إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرًا وثمانية عشر يومًا، ويقال: أربعة عشر يومًا»([4]).
- وفي مسند أحمد عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: «صَلَّى الزُّبَيْرُ عَلَى عُثْمَانَ، وَدَفَنَهُ، وَكَانَ أَوْصَى إِلَيْهِ»([5]).
- وعند ابن سعد في طبقاته عن عبد الله بن نِيار الأسلمي عن أبيه قال: «لما حج معاوية نظر إلى بيوت أسْلَمَ وشوارع في السوق فقال: أظْلِموا عليهم بيوتهم أظْلَمَ الله عليهم قبورهم؛ قتلة عثمان، قال نِيار بن مُكْرَم: فخرجت إليه فقلت له: إن بيتي يُظْلَمُ عَلَيَّ وأنا رابِعُ أربعة حَمَلنا أميرَ المؤمنين وقبرناه وصلّينا عليه، فعرفه معاوية فقال: اقْطَعوا البناءَ لا تبنوا على وجه داره، قال ثم دعاني خاليًا فقال: متى حملتموه ومتى قبرتموه ومَنْ صلّى عليه؟ فقلت: حملناه V ليلة السّبْت بين المغربِ والعشاء، فكنتُ أنا وجُبير بن مُطْعِم وحَكيم بن حزام وأبو جهم بن حُذيفة العَدَويّ، وتَقَدّم جُبير بن مُطعِم فصلّى عليه، فصَدّقَه معاوية، وكانوا هم الذين نزلوا في حُفرته»([6]).
- وقال الطبري: «وأما الْوَاقِدِي فإنه ذكر أن سعد بن راشد حدثه عن صالح بن كيسان، أنه قال: لما قُتل عثمان ا قَالَ رجل: يدفن بدير سلع مقبرة اليهود، فَقَالَ حكيم بن حزام: وَاللهِ لا يكون هَذَا أبدًا وأحد من ولد قصي حي، حَتَّى كاد الشر يلتحم، فَقَالَ ابن عديس البلوي: أيها الشيخ، وما يضرك أين يدفن! فَقَالَ حكيم بن حزام: لا يدفن إلا ببقيع الغرقد؛ حَيْثُ دفن سلفه وفرطه، فخرج بِهِ حكيم بن حزام فِي اثني عشر رجلًا، وفيهم الزُّبَيْر، فصلى عَلَيْهِ حكيم بن حزام، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: الثابت عندنا أنه صلى عَلَيْهِ جبير ابن مطعم»([7]).
وقال سيف بن عمر: «ودُفن عثمان ا في الليل وصلى عليه مروان بن الحكم، وخرجت ابنته تبكي في أثره ونائلة ابنة الفرافصة X»([8]).
فهذه روايات يشد بعضُها بعضًا في أن الصحابة قد صلَّوْا على عثمان ا وكفنوه ودفنوه في نفس اليوم، وهذا هو اللائق بأصحاب رسول الله ق، بل وبأهل الإسلام.
لا بد للقارئ أن يدرك أننا نتحدث عن وقت فتنةٍ، كان السلاح والدم فيها هما سيدا الموقف؛ إذ كانت الخوارج القتلة لخليفة المسلمين هم المسيطرون على البلاد والعباد بالقوة والسلاح، فكانت بيدهم مقاليد الأمور.
ثم ها هم قد قتلوا أكبر رأس في الدولة بأسرها، خليفة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فالظروف التي أحاطت بمقتله ا كانت حرجة للغاية، فالغوغاء الخوارج كانوا يحيطون بالبيت، ولم يكن الدخول عليه في ذلك الوقت بالأمر الهين؛ مما قد يكون عذرًا لمن لم يُصلِّ عليه أصلًا.
فإن سلَّمنا لهؤلاء جدلًا بصحة ما ذهبوا إليه فإن الذين فعلوا ذلك بأمير المؤمنين هم أولئك الخوارج الذين كان منهم من خرج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ومنهم قَتَلَة الحسين بن علي ب، فمتى كان فعل الخوارج حجة عند أحد من العالمين؟!
ومع ذلك فلم ترد في رواية صحيحة أن أحدًا من الصحابة أو من المسلمين امتنع من الصلاة على ذي النورين ا، وذِكْر بعض الأسماء فيمن حضر للصلاة عليه لا ينفي حضور غيرهم للصلاة عليه ودفنه.
ولم يرد في رواية صحيحة ذكر فرق بين عدد من صلى على عثمان وعدد من صلى على علي بن أبي طالب ب، وكلاهما قد قُتل من الخوارج.
قد جاءت روايات ضعيفة تذكر امتناع الناس من الصلاة عليه أو دفنه أو تكفينه، ونحن نعرض لها باختصار:
-
- الرواية الأولى:
أخرج الطبراني في معجمه الكبير بسنده عن عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَاجِشُون قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: «قُتِلَ عُثْمَانُ ا، فَأَقَامَ مَطْرُوحًا عَلَى كُنَاسَةِ بَنِي فُلَانٍ ثَلَاثًا، فَأَتَاهُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، فِيهِمْ جَدِّي مَالِكُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَائِشَةُ بِنْتُ عُثْمَانَ مَعَهُمْ مِصْبَاحٌ فِي حُقٍّ فَحَمَلُوهُ عَلَى بَابٍ، وَإِنَّ رَأْسَهُ يَقُولُ عَلَى الْبَابِ طَقْ طَقْ حَتَّى أَتَوْا بِهِ الْبَقِيعَ، فَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ أَوْ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى -شَكَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ- ثُمَّ أَرَادُوا دَفْنَهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي مَازِنٍ فَقَالَ: وَاللهِ لَئِنْ دَفَنْتُمُوهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ لَأُخْبِرَنَّ النَّاسَ، فَحَمَلُوهُ حَتَّى أَتَوْا بِهِ إِلَى حَشِّ كَوْكَبٍ، فَلَمَّا دَلُّوهُ فِي قَبْرِهِ صَاحَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ عُثْمَانَ، فَقَالَ لَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ: اسْكُتِي، فَوَاللهِ لَئِنْ عُدْتِ لَأَضْرِبَنَّ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاكِ، فَلَمَّا دَفَنُوهُ وَسَوَّوْا عَلَيْهِ التُّرَابَ قَالَ لَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ: صِيحِي مَا بَدَا لَكِ أَنْ تَصِيحِي، قَالَ مَالِكٌ: وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ ا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّ بِحَشِّ كَوْكَبٍ فَيَقُولُ: لَيُدْفَنَنَّ هَا هُنَا رَجُلٌ صَالِحٌ. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: الْحَشُّ: الْبُسْتَانُ»([9]).
مرسل.
مالك بن أنس لم يدرك الواقعة؛ فمولده في سنة 93هـ ومقتل عثمان بن عفان ا 35هـ، فالفارق الزمني بينهما كبير.
وعبد الملك بن الماجشون كان ضعيفًا في الحديث، قال الحافظ: «صدوق له أغلَاطٌ في الحديثِ، مِن التاسعة»([10]).
وفي تحرير التقريب قالوا: «بل ضعيفٌ يُعتبر به في المتابعات والشواهد، ضعَّفه مصعبُ بن عبد الله الزبيري، وأحمد، وأبو داود، والساجي، وابن البرقي، وما ذكره في «الثقات» سوى ابن حبان»([11]).
وقال الهيثمي في المجمع: «رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَقَالَ: الْحَشُّ: الْبُسْتَانُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ»([12])، وهذا ليس تصحيحًا للحديث، بل هو ذكر لتحقق شرطين من شروط الحديث الصحيح الخمسة، وهما: عدالة الرواة وضبطهم، وبقي اتصال الإسناد وعدم الشذوذ وعدم العلة، وقد سقط شرط اتصال الإسناد بإرسال مالك V.
-
- الرواية الثانية:
ورواية الإمام مالك لها شاهد يرويه أبو نعيم بسنده عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «مَكَثَ عُثْمَانُ فِي حَشِّ كَوْكَبٍ مَطْرُوحًا ثَلَاثًا، لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ حَتَّى هَتَفَ بِهِمْ هَاتِفٌ: ادْفِنُوهُ وَلَا تُصَلُّوا عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ اللهَ D قَدْ صَلَّى عَلَيْهِ»([13]).
ضعيف جدًّا.
عبيد بن الصباح ضعيف الحديث([14])، قال العقيلي: «عُبَيْدُ بْنُ الصَّبَّاحِ الكُوفِيُّ عَنْ كَامِلٍ أَبِي الْعَلَاءِ، وَلَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ، وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ»([15]).
وفيه حفص بن غياث، وتحديث حفص بن غياث في الكوفة وبغداد إنما كان من حفظه، وكان كثير الغلط إذا حدث من حفظه، أما إذا حدث من كتابه فهو صالح، قاله ابن معين وأبو زرعة ويعقوب بن شيبة.
قال الذهبي في ميزانه: «وثقه ابن معين، والعجلي، وقال يعقوب بن شيبة: ثقة ثبت، يتقى بعض حفظه، وإذا حدث من كتابه فثبت، وقال أبو زرعة: ساء حفظه بعد ما استقضى، فمن كتب عنه من كتابه فهو صالح، وقال ابن معين: جميع ما حدث به حفص ببغداد والكوفة إنما هو من حفظه، كتبوا عنه ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف من حفظه، وقال داود بن رشيد: حفص بن غياث كثير الغلط...»([16]).
-
- الرواية الثالثة:
أخرج ابن سعد في طبقاته بإسناده عن الرَّبِيعِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كُنْتُ أَحَدَ حَمَلَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ حِينَ تُوُفِّيَ، حَمَلْنَاهُ عَلَى بَابٍ وإِنَّ رَأْسَهُ لَيَقْرِعُ الْبَابَ لإِسْرَاعِنَا بِهِ، وإِنَّ بِنَا مِنَ الْخَوْفِ لأَمْرًا عَظِيمًا، حَتَّى وَارَيْنَاهُ في قبْرِهِ في حَشِّ كَوْكَبٍ»([17]).
ضعيف.
الربيع بن مالك لم يُروَ عنه عِلمٌ على قلة حديثه! قال أبو حاتم: «لم يرو عنه العلم»([18]).
وغاية ما في هذا النقل هو تشيعهم لجثمانه ا ودفنه على خوف منهم من الخوارج المنتشرين في ربوع المدينة!
-
- الرواية الرابعة:
قال ابن شبة في تاريخ المدينة: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ دَابِهٍ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَزْهَرَ: «لَمْ أَدْخُلْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ عُثْمَانَ ا، فَإِنِّي لَفِي بَيْتِي إِذْ أَتَانِي الْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: عَبْدُ اللهِ يَدْعُوكَ، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ قَاعِدٌ إِلَى جَنْبِ غِرَارَةِ حِنْطَةٍ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ إِلَى دَفْنِ عُثْمَانَ ا؟ فَقُلْتُ: مَا دَخَلْتُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ، وَمَا أُرِيدُ ذَاكَ، فَاحْتَمَلُوهُ، مَعَهُمْ معَبْدُ بْنُ مَعْمَرٍ، فَانْتَهَوْا بِهِ إِلَى الْبَقِيعِ، فَمَنَعَهُمْ مِنْ دَفْنِهِ جَبَلَةُ بْنُ عَمْرٍو السَّاعِدِيُّ، فَانْطَلَقُوا إِلَى حَشِّ كَوْكَبٍ، وَمَعَهُمْ عَائِشَةُ بِنْتُ عُثْمَانَ، مَعَهَا مِصْبَاحٌ فِي حُقٍّ، فَصَلَّى عَلَيْهِ مِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، ثُمَّ حَفَرُوا لَهُ، فَلَمَّا دَلَّوْهُ صَاحَتْ بِنْتُهُ، فَلَمْ يَضَعُوا عَلَى لَحْدِهِ لَبِنًا، وَأَهَالُوا عَلَيْهِ التُّرَابَ، وَانْصَرَفُوا»([19]).
ضعيف جدًّا.
علي بن دابهٍ لم نجد له ترجمة ولا ذكر في كتب الرجال، وشرحبيل بن سعد أبو سعد المدني مولى الأنصار، توفي سنة (123هـ) ضعيف([20]).
-
- الرواية الخامسة:
أخرج الطبري بسنده عن أبي بشير العابدي قَالَ: «نُبِذَ عُثْمَان ا ثلاثة أيام لا يدفن، ثُمَّ إن حكيم بن حزام القرشي ثُمَّ أحد بني أسد بن عبد العزى، وجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف كلَّما عَلِيًّا فِي دفنه، وطلَبَا إِلَيْهِ أن يأذَن لأهله فِي ذَلِكَ، ففعل وأذن لَهُمْ علي، فلما سمع بِذَلِكَ قعدوا لَهُ فِي الطريق بالحجارة، وخرج بِهِ ناس يسير من أهله، وهم يريدون بِهِ حائطًا بِالْمَدِينَةِ، يقال لَهُ: حش كوكب، كَانَتِ اليهود تدفن فِيهِ موتاهم، فلما خرج بِهِ عَلَى الناس رجموا سريره، وهموا بطرحه، فبلغ ذَلِكَ عَلِيًّا، فأرسل إِلَيْهِم يعزم عَلَيْهِم ليَكُفُّنَّ عنه، ففعلوا، فانطلق حَتَّى دُفن ا فِي حش كوكب، فلما ظهر مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَانَ عَلَى الناس أمر بهدم ذَلِكَ الحائط حَتَّى أفضى بِهِ إِلَى البقيع، فأمر الناس أن يدفنوا موتاهم حول قبره حَتَّى اتصل ذَلِكَ بمقابر الْمُسْلِمِينَ»([21]).
موضوع، فيه ضعفاء وكذابون.
قال الدكتور محمد بن عبد الله بن عبد القادر غبان الصبحي في كتابه (فتنة مقتل عثمان بن عفان): «جعفر، هو: جعفر بن عبد الله المحمدي، هكذا جاء اسمه مصرحًا به في غير موضع من تاريخ الطبري([22])، ولم أجد له ترجمة، ولم ينقل عن الطبري إلا في ثلاثة عشر موضعًا كلها في فتنة مقتل عثمان ا، وشيوخه فيها هم عمرو وعلي.
وعمرو هو: عمرو بن حماد بن طلحة القناد الكوفي، وقد يُنسب إلى جده، صدوق رُمي بالرفض، من العاشرة، ت سنة 220 هـ، بخ م د س فق([23]).
وعلي هو: علي بن حسين بن عيسى بن زيد بن علي بن حسين بن علي ابن أبي طالب ا، لم أجد له ترجمة.
وحسين بن عيسى بن زيد بن علي بن حسين بن أبي طالب ا سكت عنه ابن أبي حاتم([24])، وعيسى بن زيد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب ا سكت عنه ابن أبي حاتم([25]).
ومحمد بن السائب بن بشر الكلبي، الكوفي النسابة، المفسر، متهم بالكذب، ورُمي بالرفض، من السادسة، مات سنة ست وأربعين، ت فق (ت سنة 146 هـ)»([26]).([27])
-
- الرواية السادسة:
رواها الطبري بسنده عن مخرمة بن سُلَيْمَانَ الوالبي، قَالَ: «قُتل عُثْمَان ا يوم الجمعة ضحوة، فلم يقدروا عَلَى دفنه، وأرسلت نائلة ابنة الْفُرَافِصَة إِلَى حويطب بن عبد العزى وجبير بن مطعم وأبي جهم بن حُذَيْفَة وحكيم بن حزام ونيار الأسلمي، فَقَالُوا: إنا لا نقدر أن نخرج بِهِ نهارًا وهؤلاء الْمِصْرِيُّونَ عَلَى الباب، فأمهلوا حَتَّى كَانَ بين المغرب والعشاء، فدخل القوم فحيل بينهم وبينه، فَقَالَ أَبُو جهم: وَاللهِ لا يحول بيني وبينه أحد إلا مت دونه، احملوه، فحُمل إِلَى البقيع، قَالَ: وتبعتْهم نائلة بسراج استسرجته بالبقيع وغلام لِعُثْمَانَ، حَتَّى انتهوا إِلَى نخلات عَلَيْهَا حائط، فدقوا الجدار، ثُمَّ قبروه فِي تِلَكَ النخلات، وصلى عَلَيْهِ جبير بن مطعم، فذهبت نائلة تريد أن تتكلم، فزبرها القوم، وَقَالُوا: إنا نخاف عَلَيْهِ من هَؤُلاءِ الغوغاء أن ينبشوه، فرجعت نائلة إِلَى منزلها».
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ الْهُذَلِيّ، عن عَبْد اللهِ بن ساعدة قَالَ: «لبث عُثْمَان بعدمَا قُتل ليلتين لا يستطيعون دفنه، ثُمَّ حمله أربعة:
حكيم بن حزام، وجبير بن مطعم، ونيار بن مكرم، وأبو جهم بن حُذَيْفَة، فلما وُضع ليصلَّى عَلَيْهِ، جَاءَ نفر من الأنصار يمنعونهم الصَّلاة عَلَيْهِ، فِيهِمْ أسلم بن أوس بن بجرة الساعدي، وأبو حية المازني، فِي عدة، ومنعوهم أن يُدفن بالبقيع، فَقَالَ أَبُو جهم: ادفنوه، فقد صلى اللهُ عَلَيْهِ وملائكتُه، فَقَالُوا: لا وَاللهِ، لا يُدفن فِي مقابر الْمُسْلِمِينَ أبدًا، فدفنوه فِي حش كوكب، فلما ملكت بنو أُمَيَّة أدخلوا ذَلِكَ الحش فِي البقيع، فهو الْيَوْم مقبرة بني أُمَيَّة»([28]).
موضوع.
فيه الواقدي كذاب([29])، وفيه عبد الله بن يزيد الهذلي المدني متهم بالزندقة([30]).
وبعد، فهذه هي أشهر الروايات التي ذكرت عدم الصلاة على عثمان أو تأخير دفنه أو دفنه في مقابر اليهود، وكلها بلا استثناء لا تصح كما قد رأيت.
القول بأن عثمان ا قد دُفن في مقبرة اليهود ما هو إلا فهم منكوس لعبارة «دفن في حش كوكب»، فالطبري قد بيَّن معنى الحش بقوله: «البستان».
قال ابن منظور: «والحَشُّ والحُشُّ: جَمَاعَةُ النَّخْلِ، وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: هُمَا النَّخْلُ الْمُجْتَمِعُ، والحشُّ أَيضًا: الْبُسْتَانُ، وفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ: أَنه دُفِنَ فِي حَشِّ كَوْكَبٍ، وَهُوَ بُسْتان بِظَاهِرِ الْمَدِينَةِ خَارِجَ البَقِيع، والحشُّ: الْمُتَوَضَّأُ، سُمِّيَ بِهِ لأَنهم كَانُوا يَذْهبون عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ إِلى البَساتين، وَقِيلَ إِلى النخْل الْمُجْتَمِعِ يَتَغَوَّطُون فِيهَا عَلَى نَحْوِ تَسْمِيَتِهِمُ الْفِنَاءَ عَذِرةً»([31]).
وقال الزمخشري: «والحُش والحَشّ: الْبُسْتَان، وَقيل: هُوَ النّخل النَّاقِص الْقصير...»([32])، وعليه فإن عثمان دفن في بستان قريب من البقيع ثم صار بعدُ جزءًا منه، ولا يصح أنها كانت مقبرة لليهود.
-
- المسلمون لا يُكفَّنون في دين الرافضة
نحن نقول: إن الغوغاء الخوارج هم من كانوا يتحكمون في المدينة في ذلك الوقت، فمهما كان فعلهم بعثمان ا، فهو منسوب إلى أولئك الخوارج المردة الذين خرجوا على إمام المسلمين وخليفتهم وقتلوه، وفعل أولئك ليس بحجة على أحد من العالمين، وإذا كانوا هم سلف الرافضة فإن الرافضة يعتقدون أن المسلم إذا مات لا يُغسل ولا يُكفن ولا يُدفن، بل يُرمى للكلاب!
يقول كاشف الغطاء: «ولا تجهيز وجوبًا ولا ندبًا لغير المؤمن مسلمًا كان أو لا، وبطون الكلاب ومواضع الخلاء أحق به»([33]).
ثم إذا كان الدفن المزعوم في مقبرة اليهود رذيلة، فليعترف الرافضة إذًا بفضيلة أبي بكر وعمر كونهما دُفِنَا في نفس الأرض المباركة التي دُفن فيها رسول الله ق، لكنه العوَر العقدي الذي يُعمي صاحبه عن رؤية الحق والاعتراف به، والحمد لله رب العالمين.
([1]) الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/123).
([2]) فتنة مقتل عثمان بن عفان، محمد بن عبد الله غبّان الصبحي (1/261).
([3]) تاريخ دمشق، ابن عساكر (39/531).
([4]) تاريخ دمشق، ابن عساكر (39/515).
([5]) مسند أحمد (1/555) ط الرسالة، وقال محققو المسند: «رجاله ثقات رجال الشيخين، لكنه منقطع، قتادة لم يدرك عثمان. وهو في «مصنف عبد الرزاق» (6365). وقد وقع في المطبوع منه «عمر» بدل «عثمان». وهو تحريف قطعًا، والذي صلى على عمر باتفاق هو صهيب ب».
([6]) الطبقات الكبير (3/74) ط الخانجي، تاريخ دمشق، ابن عساكر (39/529).
([7]) تاريخ الطبري (4/413).
([8]) الفتنة ووقعة الجمل (ص85)، تاريخ الطبري (4/415).
([9]) المعجم الكبير، الطبراني (1/78)، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (9/95).
([10]) تقريب التهذيب (ص364) (ت4195).
([11]) تحرير تقريب التهذيب (2/386).
([12]) مجمع الزوائد (9/95).
([13]) معرفة الصحابة، أبو نعيم (1/68).
([14]) ديوان الضعفاء (ص267)، الضعفاء والمتروكين، ابن الجوزي (2/159)، المغني في الضعفاء (2/419).
([15]) الضعفاء الكبير، العقيلي (3/117).
([16]) ميزان الاعتدال (1/567).
([17]) الطبقات الكبرى (3/58) ط العلمية.
([18]) الجرح والتعديل (3/469) (ت2098).
([19]) تاريخ المدينة، ابن شبة (1/112).
([20]) انظر: «الطبقات» لابن سعد (5/310)، و«الجرح والتعديل» (4/338 - 339)، و«الكامل» لابن عدي (4/40 - 42)، و«تهذيب الكمال» (12/413 - 417)، و«سنن سعيد بن منصور - تكملة التفسير» (8/255) ط الألوكة.
([21]) تاريخ الطبري (4/412).
([22]) تاريخ الطبري (4/333 – 335- 367 – 381 – 412 – 416 – 427).
([24]) الجرح والتعديل (3/60).
([25]) الجرح والتعديل (6/276)
([27]) فتنة مقتل عثمان بن عفان (2/668).
([28]) تاريخ الطبري (4/413).
([29]) قال ابن الجوزي: «مُحَمَّد بن عمر بن وَاقد أَبُو عبد الله الْأَسْلَمِيّ الْوَاقِدِيّ، قَاضِي بَغْدَاد، قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: هُوَ كَذَّاب، كَانَ يقلب الْأَحَادِيث، يلقِي حَدِيث ابْن أخي الزُّهْرِيّ على معمر وَنَحْو ذَا، وَقَالَ يحيى: لَيْسَ بِثِقَة، وَقَالَ مرّة: لَيْسَ بِشَيْء، لَا يُكْتَب حَدِيثه، وَقَالَ البُخَارِيّ والرازي وَالنَّسَائِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث، وَذكر الرَّازِيّ وَالنَّسَائِيّ أَنه كَانَ يضع الحَدِيث، وَقَالَ الدارقطني: فِيهِ ضعف، وَقَالَ ابْن عدي: أَحَادِيثه غير مَحْفُوظَة، وَالْبَلَاء مِنْهُ». الضعفاء والمتروكين، ابن الجوزي (3/87).
([30]) يقال: هو ابن قنطس، قال البخاري: «يقال: يتهم بالزندقة». وقال مرة: «يتهم بأمر عظيم»، وأما أحمد ويحيى فوثقاه، وقال النسائي: «ليس بثقة». ميزان الاعتدال (2/526) (ت4694).
([31]) لسان العرب (6/286).
([32]) الفائق في غريب الحديث (1/331).
([33]) كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء، جعفر كاشف الغطاء (٢/255).