وُلد محمد بن أبي بكر فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ وَقْتَ الإِحْرَامِ([1])، وأمثال هذا لا يعدُّون في الصحابة ي، قال العراقي: «..، وهم جماعة أُتِي بهم النبي ق وهم أطفال فحنكهم ومسح وجوههم، أو تفل في أفواههم، فلم يُكْتَبْ لهم صحبة»([2]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية V عن محمد بن أبي بكر: «إِنَّمَا وُلِدَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ..، ولَمْ يُدْرِكْ مِنْ حَيَاةِ النَّبِيِّ ق إِلَّا خَمْسَ لَيَالٍ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، وَذَا الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ، وَصَفَرًا، وَأَوَائِلَ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَلَا يَبْلُغُ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ..، ولَمْ يَكُنْ لَهُ صُحْبَةٌ مَعَ النَّبِيِّ ق وَلَا قُرْبُ مَنْزِلَةٍ مِنْ أَبِيهِ...»([3]).
وقال: «وَإِنْ أَرَادَ عِظَمَ شَأْنِهِ لِسَابِقَتِهِ وَهِجْرَتِهِ وَنُصْرَتِهِ وَجِهَادِهِ، فَهُوَ لَيْسَ مِنَ الصَّحَابَةِ: لَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَلَا الْأَنْصَارِ، وإِنْ أَرَادَ بِعِظَمِ شَأْنِهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ وَأَدْيَنِهِمْ، فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَلَيْسَ هُوَ مَعْدُودًا مِنْ أَعْيَانِ الْعُلَمَاءِ وَالصَّالِحِينَ الَّذِينَ فِي طَبَقَتِهِ»([4]).
وعليه فإن الصحبة لم تثبت له، وأيضًا لا يمكن الطعن على أبيه لما فعله ابنه -على فرض ثبوته- وإلا لزم الطعن على نوح بما فعل ابنه، ولا قائل به.
ثبت أن محمد بن أبي بكر لم يشترك في قتل عثمان ا، فقد أخرج ابن عبد البر بسند حسن عن مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ قَال: حَدَّثَنَا كِنَانَةُ مَوْلَى صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ، وَكَانَ شَهِدَ يَوْمَ الدَّارِ: «إِنَّهُ لَمْ يَنَلْ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ دَمِ عُثْمَانَ بِشَيْءٍ. قال مُحَمَّد بْن طَلْحَة: فقلت لكنانة: فلم قيل إنه قتله؟ قَالَ: مُعَاذ الله أن يكون قتله، إنما دخل عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَان: يَا بْن أخي، لست بصاحبي، وكلمه بكلام، فخرج ولم ينل من دمه بشيء، فقلت لكنانة: فمن قتله؟ قَالَ: رجل من أهل مصر يقال لَهُ: جبلة بْن الأيهم»([5]).
وروى خليفة بن خياط عَن الْحسن: «أَن ابْن أَبِي بَكْر أَخذ بلحيته -أي بلحية عثمان ا- فَقَالَ عُثْمَان: لقد أخذت مني مأخذًا، أَو قعدت مني مقْعدًا، مَا كَانَ أَبوك ليقعدَهُ، فَخرج وَتَركه»([6]).
وقال الحافظ ابن كثير: «وَيُرْوَى أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ طَعْنَهُ بِمَشَاقِصَ فِي أُذُنِهِ حَتَّى دَخَلَتْ حَلْقَهُ، والصَّحِيحُ أَنَّ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُهُ، وَأَنَّهُ اسْتَحْيَى وَرَجَعَ حِينَ قَالَ لَهُ عُثْمَانُ: لَقَدْ أَخَذْتَ بِلِحْيَةٍ كَانَ أَبُوكَ يُكْرِمُهَا، فتَذَمَّمَ مِنْ ذَلِكَ وَغَطَّى وَجْهَهُ وَرَجَعَ وَجَاحَفَ دُونَهُ فَلَمْ يُفِدْ، وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا»([7]).
جميع الروايات التي تذكر مشاركة محمد بن أبي بكر في قتل عثمان ا لا تصح، ومنها:
-
- الرواية الأولى:
أخرج الطبري في تاريخه بسنده عن وثاب قَالَ -وَكَانَ فيمن أدركه عتق أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عمر ا، قَالَ: ورأيت بحلقه أثر طعنتين، كأنهما كتبان طعنهما يَوْمَئِذٍ يوم الدار- قَالَ: «بعثني عُثْمَانُ، فدعوت لَهُ الأَشْتَر، فَجَاءَ..، ثم جَاءَ رويجل كأنه ذئب، فاطلع من باب، ثُمَّ رجع وجاء مُحَمَّد بن أبي بكر وثلاثة عشر حَتَّى انتهى إِلَى عُثْمَانَ، فأخذ بلحيته، فَقَالَ بِهَا حَتَّى سمعت وقع أضراسه، وَقَالَ: مَا أغنى عنك مُعَاوِيَة، مَا أغنى عنك ابن عَامِر، مَا أغنت عنك كتبك! قَالَ: أرسل لحيتي يا بن أخي، أرسل لحيتي قَالَ: وأنا رأيته استعدى رجلًا من القوم بعينه، فقام إِلَيْهِ بمشقص حَتَّى وجَأَ بِهِ فِي رأسه، قلت: ثُمَّ مه، قَالَ: تغاووا عَلَيْهِ حَتَّى قتلوه»([8]).
ضعيف، وثاب مجهول الحال([9]).
-
- الرواية الثانية:
أخرج الطبراني في معجمه بسنده عن مُبَارَكٍ، عَنِ الْحَسَنِ، حَدَّثَنِي سَيَّافُ عُثْمَانَ ا: «أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: ارْجِعِ ابْنَ أَخِي فَلَسْتَ بِقَاتِلِي، قَالَ: وَكَيْفَ عَلِمْتَ ذَاكَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ «أُتِيَ بِكَ النَّبِيَّ ق يَوْمَ سَابِعِكَ فَحَنَّكَكَ، وَدَعَا لكَ بِالْبَرَكَةِ»، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: ارْجِعِ ابْنَ أَخِي فَلَسْتَ بِقَاتِلِي، قَالَ: بِمَ تَدْرِي ذَلِكَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ «أُتِيَ بِكَ النَّبِيَّ ق يَوْمَ سَابِعِكَ فَحَنَّكَكَ وَدَعَا لكَ بِالْبَرَكَةِ» قَالَ: ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ ابْنُ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: أَنْتَ قَاتِلِي، قَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ يَا نَعْثَلُ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ «أُتِيَ بِكَ النَّبِيَّ ق يَوْمَ سَابِعِكَ لَيُحَنِّكَكَ وَيَدْعُو لَكَ بِالْبَرَكَةِ فَخَرَيْتَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ق» قَالَ: فَوَثَبَ عَلَى صَدْرِهِ وَقَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ: إِنْ تَفْعَلْ كَانَ يَعِزُّ عَلَى أَبِيكَ أَنْ تَسُوءَهُ، قَالَ: فَوَجَأَهُ فِي نَحْرِهِ بِمَشَاقِصَ كَانَتْ فِي يَدِهِ»([10]).
منكر.
مبارك بن فضَالة ضعيف مدلس([11])، وقد عنعن في هذا الخبر، وسياف عثمان لم أجد له ترجمة في كتب الرجال.
قال الحافظ ابن كثير: «هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا وَفِيهِ نَكَارَةٌ»([12]).
-
- الرواية الثالثة:
أخرج خليفة بن خياط في تاريخه قال: حَدَّثَنَا أَبُو الْحسن، عَن أَبِي زَكَرِيَّا الْعجْلَاني، عَنْ نَافِع، عَنِ ابْن عُمَر قَالَ: «ضربه ابْن أَبِي بَكْر بمشاقص فِي أوداجه، وبعَجَه سودان بْن حمْرَان بِحَرْبَة»([13]).
ضعيف.
أبو زكريا العجلاني لم نجد له ترجمة([14]).
-
- الرواية الرابعة:
أخرج ابن أبي شبة في تاريخ المدينة قال: «حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَزْمُ بْنُ أَبِي حَزْمٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ مِخْرَاقٍ، عَنْ طَلْقِ بْنِ خُشَّافٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ ل: «فِيمَ قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ ا؟ قَالَتْ: «قُتِلَ مَظْلُومًا، لَعَنَ اللهُ قَتَلَتَهُ، أَقَادَ اللهُ ابْنَ أَبِي بَكْرٍ بِهِ»([15]).
ومدار الخبر على حزم القطعي، وهو صدوق يهم([16])، ومتن الخبر التام عند الطبراني فيه نكارة؛ إذ جاء فيه: «وَفَدْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَنَنْظُرَ فِيمَ قُتِلَ عُثْمَانُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَرَّ مِنَّا بَعْضٌ إِلَى عَلِيٍّ، وَبَعْضٌ إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ ب، وَبَعْضٌ إِلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ K، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَتَيْتُ عَائِشَةَ»([17]).
والثابت تاريخيًّا أن عائشة وعليًّا لم يجتمعا في المدينة بعد مقتل عثمان، يقول ابن عساكر تعليقًا على الخبر: «المحفوظ أن عائشة لم تكن وقت قتل عثمان بالمدينة، وإنما كانت حاجة»([18]).
وهذا إعلال للخبر في المتن يسقط به، وهناك روايات أخرى ذكرها الطبري من طريق الواقدي وهي ساقطة به([19]).
([1]) سير أعلام النبلاء (3/482) ط الرسالة.
([2]) التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح (ص292).
وقال الحافظ العلائي في ترجمة عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب: «وُلد على عهد النبي ق فأُتي به فحنكه ودعا له، ذكره بن عبد البر في الصحابة كذلك، ولا صحبة له، بل ولا رؤية، وحديثه مرسل قطعًا». جامع التحصيل في أحكام المراسيل (ص208).
وقال في ترجمة عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري: «أخو أنس لأمه، حنَّكه النبيُّ ق ودعا له، ولا يُعرف له رؤية، بل هو تابعي وحديثه مرسل». جامع التحصيل في أحكام المراسيل (ص213).
([3]) منهاج السنة النبوية (4/374).
([4]) منهاج السنة النبوية (4/377).
([5]) الاستيعاب في معرفة الأصحاب (3/1367).
([6]) تاريخ خليفة بن خياط (ص174). وحسنه الدكتور محمد بن عبد الله بن عبد القادر غبان الصبحي في كتابه «فتنة مقتل عثمان بن عفان» (1/483).
([7]) البداية والنهاية (10/308) ت التركي.
([8]) تاريخ الطبري (4/371).
([9]) ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، وذكره البخاري في تاريخه وسكت عنه. انظر الجرح والتعديل، ابن أبي حاتم (9/48)، التاريخ الكبير، البخاري (10/85) ت الدباسي والنحال.
قال الدكتور أكرم ضياء العمري وهو يتكلم عن سكوت البخاري عن الراوي في تاريخه: «وقد عد البعض سكوته عن الراوي توثيقًا له، ولا يسلم له ذلك على إطلاقه، بل قد ذهب الحافظ ابن حجر وهو أحسن من استقرأ البخاري إلى عدم اعتبار سكوته عن الراوي توثيقًا له فقال عند الكلام عن يزيد بن عبد الله بن مغفل: «قد ذكره البخاري في تاريخه فسماه يزيد، ولم يذكر فيه هو ولا ابن أبي حاتم جرحًا فهو مستور». بحوث في تاريخ السنة المشرفة (ص114).
([10]) المعجم الكبير، الطبراني (1/83).
([11]) قال ابن الجوزي: «كَانَ يحيى بن سعيد لَا يرضاه، وَضَعفه أَحْمد بن حَنْبَل، وَقَالَ لرجل سَأَلَهُ عَن مبارك: (دع مبارك)، وَلم يعبأ بِهِ، وَقَالَ يحيى بن معِين وَالنَّسَائِيّ: ضَعِيف الحَدِيث، وَقَالَ السَّعْدِيّ: يضعف، وَقَالَ أَبُو زرْعَة: يُدَلس». الضعفاء والمتروكين، ابن الجوزي (3/33).
قال الحافظ ابن حجر: «ومبارك بن فضالة مشهور بالتدليس، وصفه به أبو زرعة وأبو داود والدارقطني». طبقات المدلسين (ص43).
([12]) البداية والنهاية (10/309) ت التركي.
([13]) تاريخ خليفة بن خياط (ص175).
([14]) قال أكرم العمري: «أبو زكريا العَجلانِي، من السادسة فما دونها، لم أعرفه، ولم أجد له ترجمة». المعجم الصغير لرواة الإمام ابن جرير الطبري (2/704).
([15]) تاريخ المدينة، ابن شبة (4/1244).
ورواها الطبراني من طريق حَزْمٍ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ قَالَ: «سَمِعْتُ طَلِيقَ بْنَ خَشَّافٍ، يَقُولُ: «وَفَدْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَنَنْظُرَ فِيمَ قُتِلَ عُثْمَانُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَرَّ مِنَّا بَعْضٌ إِلَى عَلِيٍّ، وَبَعْضٌ إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ ب، وَبَعْضٌ إِلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ K، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَتَيْتُ عَائِشَةَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهَا فَرَدَّتِ السَّلَامَ، فَقَالَتْ: وَمَنِ الرَّجُلُ؟ قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَقَالَتْ: مِنْ أَيِّ أَهْلِ الْبَصْرَةِ؟ قُلْتُ: مِنْ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، قَالَتْ: مِنْ أَيِّ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ؟ قُلْتُ: مِنْ بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَتْ: أَمِنْ أَهْلِ فُلَانٍ؟ فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، فِيمَ قُتِلَ عُثْمَانُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ا؟ قَالَتْ: «قُتِلَ وَاللهِ مَظْلُومًا، لَعَنَ اللهُ قَتَلَتَهُ، أَقَادَ اللهُ ابْنَ أَبِي بَكْرٍ بِهِ، وَسَاقَ اللهُ إِلَى أَعْيُنِ بَنِي تَمِيمٍ هَوَانًا فِي بَيْتِهِ، وَأَهْرَاقَ اللهُ دِمَاءَ بَنِي بُدَيْلٍ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَسَاقَ اللهُ إِلَى الْأَشْتَرِ سَهْمًا مِنْ سِهَامِهِ»، فَوَاللهِ مَا مِنَ الْقَوْمِ رَجُلٌ إِلَّا أَصَابَتْهُ دَعْوَتُهَا».
([16]) تقريب التهذيب (ص157).
([17]) المعجم الكبير، الطبراني (1/88).
([18]) تاريخ دمشق، ابن عساكر (56/382).
([19]) تاريخ الطبري (4/393).