جعل علي بن أبي طالب الموقف في قضية مقتل عثمان -على حد زعم كتب الشيعة- إحدى ثلاث، فقال كما في نهج البلاغة: «وَوَاللهِ مَا صَنَعَ فِي أَمْرِ عُثْمانَ وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاث: لَئِنْ كَانَ ابْنُ عَفَّانَ ظَالِمًا -كَمَا كَانَ يَزْعُمُ- لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُوَازِرَ قَاتِلِيهِ وَأَنْ يُنَابِذَ نَاصِرِيهِ، وَلَئِنْ كَانَ مَظْلُومًا لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المُنَهْنِهِينَ عَنْهُ وَالْمُعَذِّرِينَ فِيهِ، وَلَئِنْ كَانَ فِي شَك مِنَ الْخَصْلَتَيْنِ، لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْتَزِلَهُ وَيَرْكُدَ جَانِبًا، وَيَدَعَ النَّاسَ مَعَهُ»([1]).
فأي خصلة فعلها علي بن أبي طالب في الثلاث يُهدَمُ بها الدين الشيعي، فإن اختاروا أنه دافع عن عثمان فلا بد أن يقروا بأن عثمان قُتل مظلومًا وقد دافع عنه المعصوم، وبه يصححون خلافته، وإن قالوا: بل قُتل ظالِمًا فأين اشتراك علي مع القتلة؟ وأين مؤازرته لهم؟ بل الثابت عنه تبرؤوه منهم([2])، فلا يبق لهم آنذاك إلا الثالثة، وهي شك علي في أمر عثمان؛ فتسقط عصمته وإمامته بذلك.
ويبدو أن الشيعة لا خيار لهم إلا الثالثة؛ وذلك أنهم قد نسبوا إلى علي في معنى قتل عثمان قوله: «لَوْ أَمَرْتُ بِهِ لَكُنْتُ قَاتِلًا، أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ لَكُنْتُ نَاصِرًا، غَيْرَ أَنَّ مَنْ نَصَرَهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ: خَذَلَهُ مَنْ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، وَمَنْ خَذَلَهُ لَا يستَطِيع أن يقولَ: نَصَرَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي»([3]).
فيلزمهم -بناء على هذا- أن يكون علي شاكًّا في أمر عثمان، وبه تسقط عقيدة إمامة علي.
الرواية التي أوردها الشيعة في كتبهم وفيها قول علي: «من كان سائلًا عن دم عثمان فإن الله قتله وأنا معه»([4]).
فنقول: إن هذا الكلام خرج على سبيل المعاريض، فإن التصريح بالبراءة من قتل عثمان في ذلك الحال قد يثبط همة من يقاتلون في صف علي بن أبي طالب؛ لأن قتلةَ عثمان كانوا في فريقه، وفريق معاوية يطالبون بالقصاص من قتلة عثمان.
فلو تبرأ علي في هذه الحال صراحة، فإنه بذلك يسلم لهم أنهم على الحق، وأن من معه على الباطل، فاستخدم علي بن أبي طالب هذه الكلمة التي هي من المعاريض، ونحن نعرض تلك الرواية من كتب أهل السنة وكلام أهل العلم عليها:
* روى ابن أبي شيبة بسنده عن محمد بن سيرين قَالَ: خَطَبَ عَلِيٌّ بِالْبَصْرَةِ فَقَالَ: «وَاللهِ مَا قَتَلْتُهُ وَلَا مَالَأْتُ عَلَى قَتْلِهِ، فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: أَيَّ شَيْءٍ صَنَعْتَ الْآنَ يَتَفَرَّقُ عَنْكَ أَصْحَابُكَ، فَلَمَّا عَادَ إِلَى الْمِنْبَرِ قَالَ: مَنْ كَانَ سَائِلًا عَنْ دَمِ عُثْمَانَ فَإِنَّ اللهَ قَتَلَهُ وَأَنَا مَعَهُ»، قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذِهِ كَلِمَةٌ قُرَشِيَّةٌ ذَاتُ وَجْهٍ([5]).
إسناده فيه انقطاع؛ فابن سيرين لم يسمع من علي بن أبي طالب([6])، والذي يعنينا أن ابن سيرين كان فهمه أن هذه الكلمة تحتمل وجهين، قال الطبراني في معنى قول ابن سيرين: «كَلِمَةٌ قُرَشِيَّةٌ لَهَا وَجْهَانِ» قال: «كَأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَتَلَهُ وَأَنَا مَعَهُ مَقْتُولٌ ب»([7]).
ويقول السرخسي: «قَالَ ابْنُ سِيرِينَ V: (هَذِهِ كَلِمَةٌ قُرَشِيَّةٌ ذَاتُ وُجُوهٍ)، أَمَّا قَوْلُهُ: مَا قَتَلْتُ عُثْمَانَ ا فَهُوَ صِدْقٌ حَقِيقَةً، (وَلَا كَرِهْت قَتْلَهُ) أَيْ كَانَ قَتْلُهُ بِقَضَاءِ اللهِ تَعَالَى وَنَالَ دَرَجَةَ الشَّهَادَةِ، فَمَا كَرِهْتُ لَهُ هَذِهِ الدَّرَجَةَ، وَمَا كَرِهْتُ قَضَاءَ اللهِ وَقَدَرَهُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: (فَاللهُ قَتَلَهُ وَأَنَا مَعَهُ) مَقْتُولٌ أُقْتَلُ كَمَا قُتِلَ عُثْمَانُ ا، فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ق أَخْبَرَ بِأَنَّهُ يُسْتَشْهَدُ بِقَوْلِهِ: «وَإِنَّ أَشْقَى الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مَنْ خَضَّبَ بِدَمِك هَذِهِ مِنْ هَذِهِ وَأَشَارَ إلَى عُنُقِهِ وَلِحْيَتِه» وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ ا ابْتُلِيَ بِصُحْبَةِ قَوْمٍ عَلَى هِمَمٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَقَدْ كَانَ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ الْمُوَجَّه»([8]).
وعليه فإن عليًّا ا ما تكلم بهذا الكلام –إن صح عنه- إلا بعد بيان أنه بريء من قتل عثمان ا، فلما خشي وقوع الفتنة في جيشه تكلم بكلام فيه مداراة؛ لئلا ينقلب الذين كانوا في جيشه –من قتلة عثمان- عليه فتفسد عليه الأمور، وسيأتيك دفاع علي عن عثمان وبراءته صراحة من دم عثمان من كتب السنة والشيعة، وبأوضح عبارة وأبين بيان.
-
- هل خذل عليُّ بن أبي طالب أمير المؤمنين عثمان بن عفان؟!
أما القول بأن عليًّا خذل عثمان، أو كان سلبيًّا، فترده روايات السنة والشيعة على السواء، وذلك من عدة أوجه:
* الوجه الأول:
ردُّ علي على الثوار ومناظرته لهم، وقد أطبقت كتب التواريخ والسير على نقل الآتي:
جاء في تاريخ الطبري بسندٍ ضعيف ما نصه: «وصلَّى عثمان بالناس أيامًا؛ ولزم الناس بيوتهم، ولم يمنعوا أحدًا من كلام، فأتاهم الناس فكلّموهم، وفيهم عليّ، فقال: ما ردّكم بعد ذهابكم ورجوعكم عن رأيكم؟ قالوا: أخذنا مع بريد كتابًا بقتلنا؛ وأتاهم طلحة فقال البصريون مثل ذلك، وأتاهم الزبير فقال الكوفيون مثل ذلك، وقال الكوفيون والبصريون: فنحن ننصر إخواننا ونمنعهم جميعًا؛ كأنما كانوا على ميعاد، فقال لهم عليّ: كيف علمتم يا أهلَ الكوفة ويا أهل البصرة بما لقيَ أهل مصر، وقد سرتم مراحل ثم طويتم نحونا؟ هذا والله أمرٌ أبرِم بالمدينة! قالوا: فضعوه على ما شئتم، لا حاجة لنا في هذا الرّجل، ليعتزلْنا، وهو في ذلك يصلي بهم، وهم يصلّون خلفه، ويغشى من شاء عثمان وهم في عينه أدق من التراب، وكانوا لا يمنعون أحدًا من الكلام، وكانوا زُمَرًا بالمدينة، يمنعون الناس من الاجتماع»([9]).
فهذا عليٌّ يناظر الخوارج ويعنِّفهم ويكشف خططهم، لكنهم لا يعبؤون به ويتركونه، ويُغلَب علي على أمره كما ورد عند ابن أبي شيبة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: «مَا قَتَلْتُ -يَعْنِي عُثْمَانَ- وَلَا أَمَرْتُ ثَلَاثًا، وَلَكِنِّي غُلِبْتُ»([10]).
وسبب غلبة علي أنه ا عرض على عثمان أن ينصره -كما سيأتي- في الوجه الثاني لكن عثمان رفض، وقد كان عليٌّ مطيعًا لأمر إمامه، كيف وقد صح عنه أنه قال: «لَوْ سَيَّرَنِي عُثْمَانُ إِلَى صِرَارٍ لَسَمِعْتُ لَهُ وَأَطَعْتُ»([11]).
وسيأتي أسباب رفض عثمان لنصرة الصحابة له([12])، وقد حاول علي مرة أخرى أن يرجعهم لما أرسله عثمان ليعرض عليهم التحاكم لكتاب الله وزعموا أنهم قبِلوه.
فَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَ الْقَوْمُ بِابْنِ عَفَّانَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: صَحِبْتُ رَسُولَ اللهِ ق فَلا أَعْلَمُهُ ظَلَّ يَوْمًا وَلا بَاتَ لَيْلَةً إِلا وَهُوَ عَنِّي رَاضٍ، ثُمَّ صَحِبْتُ أَبَا بَكْرٍ فَكَانَ كَذَلِكَ، ثُمَّ صَحِبْتُ عُمَرَ فَرَأَيْتُ لَهُ حَقَّيْنِ حَقَّ الأُبُوَّةِ وَحَقَّ الإِمَامَةِ فَكَانَ كَذَلِكَ، ثُمَّ صَحِبْتُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنيِنَ فَرَأَيْتُ لَكَ مِثْلَ الَّذِي رَأَيْتُ لِمَنْ مَضَى، أَوْ كَمَا قَالَ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَان: جَزَاكُمُ اللهُ خَيْرًا يَا آلَ عُمَرَ، وَسَأَلَهُ عَنِ الْقَوْمِ فَقَالَ: اعْرِضْ عَلَيْهِمْ كِتَابَ اللهِ، فَإِنَّ أَبَوْهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ وَشَرٌّ لَهُمْ، وَإِنْ قَبِلُوهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُمْ (وَخَيْرٌ لَكَ).
فَأَرْسَلَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَعَرَضَ عَلَيْهِمْ كِتَابَ اللهِ فَقَبِلُوهُ، وَاشْتَرَطُوا جَمِيعًا: أَنَّ الْمَنْفِيَّ يُقْلَبُ وَالْمَحْرُومَ يُعْطَى وَيُوَفَّرُ الْفَيْءَ وَيُعْدَلُ فِي الْقَسْمِ وَيُسْتَعْمَلُ ذَوُو الْقُوَّةِ وَالأَمَانَةِ، وَقَالَ: لَقَدْ قُتِلَ عُثْمَانُ وَإِنَّ فِي الدَّارِ لسبعمائة مِنْهُم الْحَسَنُ وَابْنُ الزُّبَيْرِ، فَلَوْ أَذِنَ لَهُمْ لأخرجوهم من أقطار المدينة»([13]).
وقد جاء دفاع علي عن عثمان في كتب الشيعة؛ حيث قال: «وَاللهِ لَقَدْ دَفَعْتُ عَنْهُ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ آثِمًا»([14]).
* الوجه الثاني:
عرْضُ علي بن أبي طالب على أمير المؤمنين عثمان النصرة، فعن جابر ابن عبد الله الأنصاري: «أن عليًّا أرسل إليه -يعني إلى عثمان-: إن معي خمسمائة دارع فأْذن لي فأمنعك من القوم؛ فإنك لم تحدث شيئًا يُسْتَحَلُ به دمُك، قال: جُزيت خيرًا، ما أحب أن يهراق دم في سببي»([15]).
* الوجه الثالث:
براءة علي بن أبي طالب من قتل عثمان أو التأليب عليه، بعدما أراد نصرته ومُنع من أهل داره، فقد أخرج أبو عرب بسنده عن محمد بن علي قال: «لما جَاءَ الركب اللَّذين قَتَلُوا عُثْمَانَ أَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى عَلِيٍّ أَنْ رُدَّ هَؤُلاءِ، فَانْطَلَقَ وَأَنَا مَعَهُ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَيَّ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الدَّارِ، فَأَلْحَمَ الْقِتَالُ فِيهَا وَلم يسْتَطع أَن يدْخل، قَالَ: فَنزع عِمَامَته سَوْدَاءَ عَلَى رَأْسِهِ فَأَلْقَاهَا إِلَيْهِ أَمَانًا لَهُ، ثُمَّ قَالَ: اللهُمَّ اشْهَدْ أَنِّي لَمْ أَقْتُلْ وَلَمْ أُمَالِئْ»([16]).
وفي طبقات ابن سعد بسنده عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: «بَعَثَ عُثْمَانُ إِلَى عَلِيٍّ يَدْعُوهُ وَهُوَ مَحْصُورٌ فِي الدَّارِ فَأَرَادَ أَنْ يَأْتِيَهُ، فتَعَلَّقُوا بِهِ وَمَنَعُوهُ. قَالَ: فَحَلَّ عِمَامَةً سَوْدَاءَ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ هَذَا، أَوْ قَالَ: اللهُمَّ لا أَرْضَى قَتْلَهُ وَلا آمُرُ بِهِ، واللهِ لا أَرْضَى قَتْلَهُ وَلا آمُرُ بِهِ»([17]).
وأخرج ابن سعد عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى قال: «رأيت عليًّا عند أحجار الزيت رافعًا ضَبْعَيْه يقول: اللهم إني أبرَأُ إليكَ من أمْر عثمان»([18]).
وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: «دَخَلْتُ مَعَ الْمِصْرِيِّينَ عَلَى عُثْمَانَ، فَلَمَّا ضَرَبُوهُ خَرَجتُ أَشْتَدّ قَدْ مُلِئَتْ فُرُوجِي عَدْوًا حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ فِي نَحْوٍ مِنْ عَشَرَةٍ عَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ مَا وَرَاكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: قَدْ وَاللهِ فُرِغَ مِنَ الرَّجُلِ، قَالَ: فَقَالَ: تَبًّا لَكُمْ آخِرَ الدَّهْرِ، قَالَ: فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ عَلِيٌّ»([19]).
وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن محمد بن حاطب قال: «ذكر عثمان فقال الحسن بن علي: هذا أمير المؤمنين يأتيكم الآن فيخبركم، قال: فجاء علي فقال: كان عثمان من الذين آمنوا: [ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ] {المائدة:93}، حتى أتم الآية»([20]).
وفي المستدرك عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ: «سَمِعْتُ عَلِيًّا ا يَوْمَ الْجَمَلِ يَقُولُ: اللهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ دَمِ عُثْمَانَ، وَلَقَدْ طَاشَ عَقْلِي يَوْمَ قُتِلَ عُثْمَانُ، وَأَنْكَرتُ نَفْسِي وجَاءُونِي لِلْبَيْعَةِ، فَقُلْتُ: وَاللهِ إِنِّي لَأَسْتَحْيِي مِنَ اللهِ أَنْ أُبَايِعَ قَوْمًا قَتَلُوا رَجُلًا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ق: «أَلَا أَسْتَحْيِي مِمَّنْ تَسْتَحْيِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ»، وَإِنِّي لَأَسْتَحْيِي مِنَ اللهِ أَنْ أُبَايَعَ وَعُثْمَانُ قَتِيلٌ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يُدْفَنْ بَعْدُ، فَانْصَرَفُوا، فَلَمَّا دُفِنَ رَجَعَ النَّاسُ فَسَأَلُونِي الْبَيْعَةَ، فَقُلْتُ: اللهُمَّ إِنِّي مُشْفِقٌ مِمَّا أُقْدِمُ عَلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَتْ عَزِيمَةٌ فَبَايَعْتُ، فَلَقَدْ قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَأَنَّمَا صُدِعَ قَلْبِي، وَقُلْتُ: اللهُمَّ خُذْ مِنِّي لِعُثْمَانَ حَتَّى تَرْضَى»([21]).
قال الحاكم: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ» ووافقه الذهبي في التلخيص.
والروايات في ذلك كثيرة، يقول الحافظ ابن كثير: «وَلَزِمَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ بُيُوتَهُمْ، وَسَارَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحَابَةِ عَنْ أَمْرِ آبَائِهِمْ؛ مِنْهُمُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ -وَكَانَ أَمِيرَ الدَّارِ- وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وَصَارُوا يُجَاحِفُونَ عَنْهُ، وَيُنَاضِلُونَ دُونَهُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَأَسْلَمَهُ بَعْضُ النَّاسِ رَجَاءَ أَنْ يُجِيبَ أُولَئِكَ إِلَى وَاحِدَةٍ مِمَّا سَأَلُوا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ طَلَبُوا مِنْهُ إِمَّا أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ أَوْ يُسْلِمَ إِلَيْهِمْ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، وَلَمْ يَقَعْ فِي خَلَدِ أَحَدٍ أَنَّهُ يُقْتَلُ، إِلَّا مَا كَانَ فِي نَفْسِ أُولَئِكَ الْخَارِجِينَ عَلَيْهِ، وانْقَطَعَ عُثْمَانُ عَنِ الْمَسْجِدِ، فَكَانِ لَا يَخْرُجُ إِلَيْهِ إِلَّا قَلِيلًا فِي أَوَائِلِ الْأَمْرِ، ثُمَّ انْقَطَعَ بِالْكُلِّيَّةِ فِي آخِرِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْغَافِقِيُّ بْنُ حَرْبٍ، وقَدِ اسْتَمَرَّ الْحَصْرُ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ، وقِيلَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا، حَتَّى كَانَ آخِرَ ذَلِكَ أَنْ قُتِلَ شَهِيدًا ا»([22]).
أما في كتب الشيعة فقد جاء صريحًا في عدة روايات ورسائل، فقد تبرأ عليٌّ صراحة من دم عثمان ا:
ففي النهج: «وَكَانَ بَدْءُ أَمْرِنَا أَنَّا الْتَقَيْنَا وَالْقَوْمُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ رَبَّنَا وَاحِدٌ، وَنَبِيَّنَا وَاحِدٌ، وَدَعْوَتَنَا فِي الإسْلَامِ وَاحِدَةٌ، لَا نَسْتَزِيدُهُمْ فِي الإيمَانِ باللهِ وَالتَّصْدِيقِ بِرَسُولِهِ صلى الله عليه وآله، وَلَا يَسْتَزِيدُونَنَا، الأمْرُ وَاحِدٌ، إِلَّا مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ دَمِ عُثْمانَ، وَنَحْنُ مِنْهُ بَرَاءٌ»([23]).
وقد استَشْهَد عليٌّ على براءته من دم عثمان بأهل المدينة:
ففي كلامه لطلحة والزبير في زعم الشيعة أن عليًّا قال لهما: «وَقَدْ زَعَمْتُما أَنِّي قَتَلْتُ عُثْمانَ، فَبَيْنِي وَبَيْنَكُمَا مَنْ تَخَلَّفَ عَنِّي وَعَنْكُمَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ يُلْزَمُ كُلُّ امْرِئ بَقَدْرِ مَا احْتَمَلَ»([24]).
فهنا علي لا يكتفي بالتبرؤ من دم عثمان، بل ويبحث عن الشهود لتلك البراءة، ويؤكد أنه أبعد الناس عن هذا الذنب العظيم فيقول: «وَلَعَمْرِي يَا مُعَاوِيَةُ، لَئِنْ نَظَرْتَ بِعَقْلِكَ دُونَ هَوَاكَ لَتَجِدَنِّي أَبْرَأَ النَّاسِ مِنْ دَمِ عُثْمانَ، وَلَتَعْلَمَنَّ أَنِّي كُنْتُ فِي عُزْلَة عَنْهُ»([25]).
بل وأراد علي أن يعاقب وينتقم من قتلة عثمان، لكنه ما استطاع ذلك؛ نظرًا لتغلغلهم في جيشه، وعدم اجتماع الناس عليه، فيقول مبينًا عذره في ذلك: «كَيْفَ لي بِقُوَّةٍ وَالْقَوْمُ الْمُجْلبُونَ عَلَى حَدِّ شَوْكَتِهِمْ، يَمْلِكُونَنَا وَلَا نَمْلِكُهُمْ! وهَا هُمْ هؤُلَاءِ قَدْ ثَارَتْ مَعَهُمْ عِبْدَانِكُمْ، وَالْتَفَّتْ إلَيْهِمْ أَعْرَابُكُمْ، وَهُمْ خِلَالَكُمْ يَسُومُونَكُمْ مَا شَاءُوا؛ وَهَلْ تَرَوْنَ مَوْضِعًا لِقُدْرَةٍ عَلَى شَيءٍ تُرِيدُونَهُ؟! إنَّ هذَا الأَمْرُ جَاهِلِيَّة، وَإِنَّ لِهؤُلَاءِ الْقَوْمِ مَادَّةً، إنَّ النَّاسَ مِنْ هذَا الأمر -إذَا حُرِّكَ- عَلَى أُمُور: فِرْقَةٌ تَرَى مَا تَرَوْنَ، وَفِرقْةٌ تَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَفِرْقَةٌ لَا تَرَى لا هذَا وَلَا هذَا، فَاصْبِرُوا حَتَّى يَهْدَأَ النَّاسُ، وَتَقَعَ الْقُلُوبُ مَوَاقِعَهَا، وَتُؤْخَذَ الْحُقُوقُ مُسْمَحَةً؛ فَاهْدَؤُوا عَنِّي، وَانْظُرُوا مَاذَا يَأْتِيكُمْ بِهِ أَمْرِي، وَلَا تَفْعَلُوا فَعْلَةً تُضَعْضِعُ قُوَّةً، وَتُسْقِطُ مُنَّةً وَتُورِثُ وَهْنًا وَذِلَّةً، وَسَأُمْسِكُ الاْمْرَ مَا اسْتَمْسَكَ، وَإذَا لَمْ أَجِدْ بُدًّا فَآخِرُ الدَّواءِ الْكَيُّ»([26]).
ولما أراد علي ا إفحام خصومه واتهامهم بأشنع ما يكون -على زعم الشيعة- ذكر أنهم هم من قتلوا عثمان: «ومن كلام له S [في طلحة والزبير] وَاللهِ مَا أَنْكَرُوا [عَلَيَّ] مُنْكَرًا، وَلَا جَعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ نِصْفًا، وَإِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقًّا [هُمْ] تَرَكُوهُ، وَدَمًا هُمْ سَفَكُوهُ»([27]).
ونحن نُبَرّئ عليًّا أن يقول في طلحة والزبير ذلك، بل كان عليٌّ مجِلًّا لهما عارفًا قدرهما، وقد ثبت أنه ترحَّم عليهما ي، لكن الشاهد أنه ا تبرَّأ أشد البراءة من دم عثمان، بل ودافع عنه بكل ما أوتي من قوة، ولولا نهي عثمان الناس عن القتال دونه لقاتل عليٌّ حمايةً ودفاعًا عنه، لكنه السمع والطاعة الذي يراه عليٌّ واجبًا عليه لعثمان ي جميعًا، والحمد لله رب العالمين.
([1]) نهج البلاغة، الشريف الرضي (1/385) ت الحسون.
([2]) جاء في نهج البلاغة من قول علي بن أبي طالب: «وَكَانَ بَدْءُ أَمْرِنَا أَنَّا الْتَقَيْنَا وَالْقَوْمُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ رَبَّنَا وَاحِدٌ، وَنَبِيُّنَا وَاحِدٌ، وَدَعْوَتَنَا فِي الإسْلَامِ وَاحِدَةٌ، وَلَا نَسْتَزِيدُهُمْ فِي الإيمَانِ بِاللهِ وَالتَّصْدِيقِ بِرَسُولِهِ وَلَا يَسْتَزِيدُونَنَا: الأمْرُ وَاحِدٌ إِلَّا مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ دَمِ عُثْمانَ، وَنَحْنُ مِنْهُ بَرَاءٌ!». نهج البلاغة (ص305) دشتي.
([3]) نهج البلاغة، الشريف الرضي (1/85) ت الحسون.
([4]) بحار الأنوار، المجلسي (٣١/308).
([5]) مصنف ابن أبي شيبة (7/518) ت الحوت.
وعند ابن شبة في تاريخ عن خَلَّادِ بْنِ أَبِي عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ يَقُولُ: «إِنَّ أُنَاسًا مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ ا قَالُوا لَهُ: إِنَّكَ تَبْرَأُ مِنْ قَتْلِ عُثْمَانَ وَنَحْنُ نُقَاتِلُ، فَقَامَ فِيهِمْ قَائِمًا فَقَالَ: إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنِّي أَبْرَأُ مِنْ قَتْلِ عُثْمَانَ، وَإِنَّ اللهَ قَتَلَ عُثْمَانَ وَأَنَا مَعَهُ» فَقَالَ مُحَمَّدٌ بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا: «عَلَى الْوَجْهَيْنِ». المدينة، ابن شبة (4/125).
([6]) قال ابن حزم: «ابْن سِيرِينَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَلِيٍّ». المحلى بالآثار (9/400).
([7]) المعجم الكبير، الطبراني (1/80).
([8]) المبسوط، السرخسي (30/212).
([9]) صحيح وضعيف تاريخ الطبري (3/336)، تاريخ دمشق، ابن عساكر (39/319)، الفتنة ووقعة الجمل (ص61)، التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان (ص111).
([10]) مصنف ابن أبي شيبة (7/517) ت الحوت، وهو صحيح بمجموع طرقه كما قال الشيخ طارق الطيار في كتابه «مرويات الخلافة الراشدة في مصنف ابن أبي شيبة» (ص287).
([11]) مصنف ابن أبي شيبة (7/523) ت الحوت.
([12]) قال الشيخ محب الدين الخطيب: «الذي يدل عليه مجموع الأخبار عن موقف عثمان من أمر الدفاع عن أو الاستسلام للأقدار، هو أنه كان يكره الفتنة، ويتقي الله في دماء المسلمين. إلا أنه صار في آخر الأمر يود لو كانت لديه قوة راجحة يهابها البغاة، فيرتدعون عن بغيهم، بلا حاجة إلى استعمال السلاح للوصول إلى هذه النتيجة، وقبل أن تبلغ الأمور مبلغها عرض عليه معاوية أن يرسل إليه قوة من جند الشام تكون رهن إشارته، فأبى أن يضيق على أهل دار الهجرة بجند يساكنهم، وأن لا يظن أن الجرأة تبلغ بفريق من إخوانه المسلمين إلى أن يتكالبوا على دم أول مهاجر إلى الله في سبيل دينه. فلما تذاءب عليه البغاة، واعتقد أن الدفاع عنه تسفك فيه الدماء جزافًا، عزم على كل من له عليهم سمع وطاعة أن يكفوا أيديهم وأسلحتهم عن مزالق العنف، والأخبار بذلك مستفيضة». العواصم من القواصم (ص13) ط دار الجيل.
([13]) أنساب الأشراف، البلاذري (5/586).
([14]) نهج البلاغة، الشريف الرضي (1/578).
([15]) تاريخ دمشق لابن عساكر (39/ ٣٩٨).
([16]) المِحَن، أبو العرب محمد بن أحمد بن تميم التميمي (ص٨٣.(
([17]) الطبقات الكبرى، ابن سعد (3/50) ط العلمية.
عن راشد بن كَيْسان العبْسيِّ: «أنّ عثمان بعث إلى عليٍّ وهو محصور في الدار أن ائْتِني، فقام عليٌّ ليأتِيَه، فقام بعض أهل عليّ حتَّى حبسه وقال: ألا ترى إلى ما بين يديك من الكتائب؟ لا تَخْلُصُ إليه، وعلى عليّ عمامةٌ سوداءُ فنَقَضَها على رأسه ثمّ رمى بها إلى رسول عثمان وقال: أخْبِرْهُ بالذي قد رأيت. ثمّ خرج عليّ من المسجد حتى انتهى إلى أحجار الزيت في سوق المدينة فأتاه قتله فقال: اللهمّ إنّي أبرأ إليك من دَمِه أن أكون قتلتُ أو مالأتُ على قتله». الطبقات الكبرى، ابن سعد (3/65) ط الخانجي.
وأخرج ابن عساكر عن أبي جعفر محمد بن علي قال: «بعث عثمان إلى علي يدعوه وهو محصور في الدار، فأراد أن يأتيه فتعلقوا به ومنعوه، قال: فحسر عمامته عن رأسه وقال هذا، وقال: اللهم لا أرضى قتله ولا آمر به، والله لا أرضى قتله ولا آمر به». تاريخ دمشق، ابن عساكر (39/370)
يقول الدكتور الغبان: «ويتقوى بمجموع الروايات السابقة ما يلي:
- أن عثمان ا بعث -وهو محصور في الدار- إلى علي ا أن ائتني.
- أن عليًّا ا استجاب لهذا الطلب، وانطلق إلى دار عثمان، فلما رأى أهل علي من حول الدار حبسوه عن دخولها خشية عليه من القتل، فحل عمامته السوداء التي كان يرتديها، ورمى بها إلى رسول عثمان، ثم خرج حتى انتهى إلى أحجار الزيت، فأتاه خبر قتل عثمان ا، فقال قولة تبرأ بها من قتل عثمان، ومن الممالأة عليه». فتنة مقتل عثمان بن عفان ا وأرضاه (ص٣٦٦).
([18]) الطبقات الكبرى (3/78) ط الخانجي.
([19]) مصنف ابن أبي شيبة (7/517) ت. الحوت.
([20]) الفتن، نعيم بن حماد (1/83)، مصنف ابن أبي شيبة (6/364) ت الحوت، أنساب الأشراف، البلاذري (5/491).
([21]) «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاه»، المستدرك، الحاكم (3/101) - ط العلمية.
([22]) البداية والنهاية (10/286) ت التركي.
([23]) نهج البلاغة، الشريف الرضي(ص735).
([24]) نهج البلاغة، الشريف الرضي (ص731).
([25]) نهج البلاغة، الشريف الرضي (ص587).
([26]) نهج البلاغة، الشريف الرضي (ص375).
([27]) نهج البلاغة، الشريف الرضي (ص300).