أمر النبي ق أبا ذر أن يخرج من المدينة إذا بلغ البناء سَلْعًا، ولأجل ذلك فقد طلب من عثمان أن يأذن له في الخروج إلى الربذة([1]) فأذن له، وأراد إكرامه بالمال لكن أبا ذر رفض زهدًا في الدنيا.
فقد أخرج الحاكم في المستدرك بسند صحيح عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَتْ أُمُّ ذَرٍّ: «وَاللهِ مَا سَيَّرَ عُثْمَانُ أَبَا ذَرٍّ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللهِ ق قَالَ: «إِذَا بَلَغَ الْبُنْيَانُ سَلْعًا فَاخْرُجْ مِنْهَا» قَالَ أَبُو ذَرٍّ: فَلَمَّا بَلَغَ الْبُنْيَانُ سلعًا وَجَاوَزَ خَرَجَ أَبُو ذَرٍّ إِلَى الشَّامِ»، وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ بِطُولِهِ.
قال الحاكم: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ»([2]) ووافقه الذهبي في التلخيص.
وهناك سبب آخر، وهو أنا أبا ذر كان له مذهب في المال قد انفرد به([3])، ففي صحيح البخاري عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: «مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ، فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍ ا، فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنْزَلَكَ مَنْزِلَكَ هَذَا؟ قَالَ: كُنْتُ بِالشَّأْمِ، فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي: [ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ] {التوبة:34} قَالَ مُعَاوِيَةُ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقُلْتُ: نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ، فَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِي ذَاكَ، وَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ ا يَشْكُونِي، فَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَانُ أَنِ اقْدَمِ الْمَدِينَةَ، فَقَدِمْتُهَا، فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ ذَاكَ لِعُثْمَانَ، فَقَالَ لِي: إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ، فَكُنْتَ قَرِيبًا، فذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا الْمَنْزِلَ، وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًا لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ»([4]).
فهذا الخبر فيه بيان إكثار الناس على أبي ذر بسبب مذهبه في المال، فلما شكا أبو ذر لعثمان مضايقات الناس له، اقترح عليه عثمان وخيَّره في أن يتنحى، فلما استقر رأي أبي ذر على التنحي والاعتزال في الربذة أذن له عثمان.
وقد كان أبو ذر يرى أن لعثمان السمع والطاعة كخليفة شرعي على عكس ما يعتقد الروافض؛ ولذلك استأذنه في الخروج من المدينة، فقد أخرج ابن حبان في صحيحه؛ من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ الصَّامِتِ أنه قال: «قَدِمَ أَبُو ذَرٍّ عَلَى عُثْمَانَ مِنَ الشَّامِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، افْتَحِ الْبَابَ حَتَّى يَدْخُلَ النَّاسُ، أَتَحْسِبُنِي مِنْ قَوْمٍ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ؟ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ عَلَى فُوقِهِ؟ هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَمَرْتَنِي أَنْ أَقْعُدَ لَمَا قُمْتُ، وَلَوْ أَمَرْتَنِي أَنْ أَكُونَ قَائِمًا لَقُمْتُ مَا أَمْكَنَتْنِي رِجْلَايَ، وَلَوْ رَبَطْتَنِي عَلَى بَعِيرٍ لَمْ أُطْلِقْ نَفْسِي حَتَّى تَكُونَ أَنْتَ الَّذِي تُطْلِقُنِي، ثُمَّ اسْتَأْذَنَهُ أَنْ يَأْتِيَ الرَّبَذَةَ، فَأَذِنَ لَهُ فَأَتَاهَا، فَإِذَا عَبْدٌ يَؤُمُّهُمْ، فَقَالُوا: أَبُو ذَرٍّ فَنَكَصَ الْعَبْدُ، فَقِيلَ لَهُ: تَقَدَّمْ، فَقَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي ق بِثَلَاثٍ: «أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ، وَلَوْ لِعَبْدٍ حَبَشِيٍّ مُجَدَّعِ الْأَطْرَافِ، وَإِذَا صَنَعْتُ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، ثُمَّ انْظُرْ جِيرَانَكَ فَأَنِلْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ، وَصَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، فَإِنْ أَتَيْتَ الْإِمَامَ وَقَدْ صَلَّى كُنْتَ قَدْ أَحْرَزْتَ صَلَاتَكَ، وَإِلَّا فَهِيَ لَكَ نَافِلَةٌ»»([5]).
يقول الدكتور الغبّان: «وكل ما روي في أن عثمان نفاه إلى الربذة فإنه ضعيف الإسناد لا يخلو من علة قادحة، مع ما في متنه من نكارة؛ لمخالفته الروايات الصحيحة والحسنة التي تبين أن أبا ذر استأذن للخروج إلى الربذة، وأن عثمان أذن له»([6]).
ومنها ما أخرج ابن سعد في الطبقات عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «لَمَّا نَفَى عُثْمَانُ أَبَا ذَرٍ إِلَى الرَّبَذَةِ وَأَصَابَهُ بِهَا قَدرُهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتُهُ وَغُلامُهُ فَأَوْصَاهُمَا أَنِ اغْسِلانِي وَكَفِّنَانِي وَضَعَانِي عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَأَوَّلُ رَكْبٍ يَمُرُّ بِكُمْ فَقُولُوا هَذَا أَبُو ذَرٍ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ ق فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ...»([7]).
منكر.
بريدة بن سفيان الأسلمي المدني رافضي متروك، وكان يتكلم في عثمان([8])، وهذه من رواياته التي يؤيد بها بدعته في كلامه في عثمان ا.
-
- إلزام:
إلزامًا للشيعة نقول: إذا كان أبو ذر لم يكن هو الذي طلب الخروج إلى الربذة ورضي بجوار عثمان وجماعته من المرتدين، فقد رضي أن يجلس في مجالس الظالمين وأن يخالط أهل الفسق والردة، وقد قال الله تعالى: [ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ] {الأنعام:68}.
فإما أن يقولوا: إن أبا ذر هو الذي طلب من عثمان الخروج، أو يقولوا بأنه رضي أن يخالط الخائضين في كتاب الله ويرضى بجوار الظالمين، وحاشاهم.
ثم لماذا ينفي عثمان أبا ذر ولا ينفي عليًّا؟
إذا كانت العلة هي أن أبا ذر يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فيلزم أن عليًّا لم يكن كذلك، وكفى به طعنًا في علي!
وإن كان علي يفعل ذلك ومعه الحسن والحسين وعمار وغيرهم من الصالحين، فلماذا لم ينْفِهم عثمان إذًا؟
فليتأمل المنصف ذلك؛ ليعلم أنها لم تكن إلا فرية سبئية مجوسية
([1]) الربذة: «من قرى المدينة، على ثلاثة أميال قريبة من ذات عرق على طريق الحجاز إذا رحلت من فَيْدٍ تريد مكة» مُعْجَمِ الْبُلْدَانِ (2/749) ط. فَلَوْجَلَ.
([2]) المستدرك على الصحيحين، الحاكم (3/387).
وروى ابن الأعرابي عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجَرْمِيِّ قَالَ: «كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عُثْمَانَ؛ إِذْ أَتَاهُ شَيْخٌ، فَلَمَّا رَآهُ الْقَوْمُ قَالُوا: أَبُو ذَرٍّ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا بِأَخِي، فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا يَا أَخِي، لَقَدْ أَغْلَظْتَ عَلَيْنَا فِي الْعَزِيمَةِ، وَأَيْمُ اللهِ لَوْ عَزَمْتَ عَلَيَّ أُخْبِرُهُ الْخُبُورَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَنِّي خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ ق ذَاتَ لَيْلَةٍ مُتَوَجِّهًا نَحْوَ حَائِطِ بَنِي فُلَانٍ فَلَمَّا جَاءَ جَعَلَ يُصَعِّدُ بَصَرَهُ وَيُصَوِّبُهُ ثُمَّ قَالَ لِي: «وَيْحَكَ بَعْدِي» فَبَكَيْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَإِنِّي لَبَاقٍ بَعْدَكَ قَالَ: «نَعَمْ فَإِذَا رَأَيْتَ الْبِنَاءَ عَلَا سَلْعٍ فَالْحَقْ بِالْمَغْرِبِ أَرْضَ قُضَاعَةَ فَإِنَّهُ سَيَأْتِي يَوْمٌ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ» يَعْنِي خَيْرٌ مِنْ كَذَا وَكَذَا قَالَ عُثْمَانُ: أَحْبَبْتُ أَنْ أَجْعَلَكَ مَعَ أَصْحَابِكَ وَخِفْتُ عَلَيْكَ جُهَّالَ النَّاسِ». معجم ابن الأعرابي (1/75).
([3]) يقول ابن عبد البر: «فَأَمَّا أَبُو ذَرٍ فَرُوِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ فِي بَعْضِهَا شِدَّةٌ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَالٍ مَجْمُوعٍ يَفْضُلُ عَنِ الْقُوتِ وَسَدَادِ الْعَيْشِ، فَهُوَ كَنْزٌ وَأَنَّ آيَةَ الْوَعِيدِ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، وَرُوِيَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ وَكَانَ يَقُولُ: الْأَكْثَرُونَ هُمُ الْأَخْسَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيْلٌ لِأَصْحَابِ الْمِئِينَ، وَقْدَ رُوِيَ هَذَا عَنْهُ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ ق وَهِيَ أَحَادِيثُ مَشْهُورَةٌ تَرَكْتُ ذِكْرَهَا لِذَلِكَ، وَلِأَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِ تَأْوِيلِ أَبِي ذَرٍ لَهَا». الاستذكار (3/173).
وتأويل أبي ذر للآية لا يصح لا عند السنة ولا عند الشيعة، يقول الحافظ: «وَيَتَلَخَّصُ أَنْ يُقَالَ مَا لَمْ تَجِبْ فِيهِ الصَّدَقَةُ لَا يُسَمَّى كَنْزًا؛ لِأَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، فَلْيَكُنْ مَا أُخْرِجَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عُفِيَ عَنْهُ بِإِخْرَاجِ مَا وَجَبَ مَنْهُ فَلَا يُسَمَّى كَنْزًا». فتح الباري، ابن حجر (3/272).
وأما عند الشيعة فيقول ناصر مكارم الشيرازي: «وما ورد في الكثير من الروايات عن الشيعة وأهل السنّة، واتّفقت عليه آراء الكثير من المفسّرين هو: أنَّ المال الذي تؤدّى زكاته لا يُعتبر كنزًا؛ إذ أيُّ مال أدّيَتْ زكاته ليس بكنز». نفحات القرآن، ناصر مكارم الشيرازي (6/277).
وعليه فالسنة والشيعة في مذهب أبي ذر سواء، فكان إلزام الناس به مما لا يصلح معه مخالطتهم، يقول القاضي ابن العربي: «ومن كان على طريقة أبي ذر فحاله يقتضي أن ينفرد بنفسه، أو يخالط ويسلم لكل أحد حاله مما ليس بحرام في الشريعة، فخرج إلى الربذة زاهدًا فاضلًا، وترك جلة فضلاء، وكل على خير وبركة وفضل، وحال أبي ذر أفضل، ولا تمكن لجميع الخلق، فلو كانوا عليها لهلكوا، فسبحان مرتب المنازل». العواصم من القواصم (ص٨٦) ط دار الجيل.
([4]) صحيح البخاري (2/107) ط السلطانية.
([5]) صحيح ابن حبان (13/301)، وصححه الألباني في التعليقات الحسان 8/369).
([6]) فتنة مقتل عثمان بن عفان ا، الدكتور محمد بن عبد الله الغبان (ص١١٠).
([7]) الطبقات الكبرى (4/177) ط العلمية.
([8]) قال البخاري: «فيه نظر». وقال أبو داود: «لم يكن بذاك كان يتكلم في عثمان». تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال (2/14).
وقال الحافظ: «ليس بالقوي وفيه رفض». تقريب التهذيب (ص121).
وفي التحرير: «ضعيفٌ، ضعَّفه البخاري، والنسائي، والجوزجاني، وأبو حاتمٍ الرازي. وقال الدارقطني: متروكٌ، وقال العُقَيلي: سُئِلَ أحمدُ عن حديثه، فقال: بَليَّة». تحرير تقريب التهذيب (1/168).