يعتبر الطعن في عائشة وحفصة L زوجتي رسول الله H من الأسس التي يقوم عليها دين الإمامية؛ إذ جعلوه من لوازم التبرؤ من أعداء أهل البيت -بزعمهم-.
قال محمد باقر المجلسي (ت1111هـ): «وعقيدتنا في التبرؤ: أننا نتبرأ من الأصنام الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية، ومن النساء الأربع: عائشة وحفصة وهند وأم الحكم، ومن جميع أتباعهم وأشياعهم، وأنهم شر خلق الله على وجه الأرض، وأنه لا يتم الإيمان بالله ورسوله والأئمة إلا بعد التبرؤ من أعدائهم»([1]).
فلا يتم الإيمان عندهم إلا بالبراءة من أمهات المؤمنين K، وقد قرر المجلسي -وهو عمدة المتأخرين- مثل هذا الكلام في عدة مواطن من كتبه منها قوله: «لا يخفى على الناقد البصير والفطن الخبير ما في تلك الآيات من التعريض، بل التصريح بنفاق عايشة وحفصة وكفرهما»([2]).
ويقول أيضًا: «وبالجملة بغضها لأمير المؤمنين S -أولًا وآخرًا- هو أشهر من كفر إبليس، فلا يؤمن عليها التدليس، وكفى حجة قاطعة عليه قتالها وخروجها عليه، كما أنه كافي الدلالة على كفرها ونفاقها المانعين من قبول روايتها مطلقًا»([3]).
وسبقه والده -محمد تقي المجلسي (ت1070هـ)([4]) - إلى هذا التقرير، فيقول: «وأما إنكار معاوية وعائشة؛ فإنهما خارجان عن الدين، وليسا من المسلمين، وهذا الإنكار أحد أسباب كفرهما"([5]).
بل جعلوا كفر عائشة J -وحاشاها- من أدلة إمامة الاثني عشر:
قال محمد القمي الشيرازي (ت1078هـ)([6]): «مما يدل على إمامة أئمتنا الاثني عشر أن عائشة كافرة مستحقة للنار، وهو مستلزم لحقية مذهبنا وحقية أئمتنا الاثني عشر؛ لأن كل من قال بخلافة الثلاثة اعتقد إيمانها وتعظيمها وتكريمها، وكل من قال بإمامة الاثني عشر قال باستحقاقها اللعن والعذاب"([7]).
وهذا من أغرب الاستدلالات التي ساقها القوم على الإمامة المزعومة.
ويقول علامتهم سليمان بن عبد الله البحراني (ت1121هـ)([8]): «الطبراني في معجمه قال: حدثنا محمد ابن أحمد بن النضر الأزدي -ابن بنت معاوية بن عمرو- ثنا غسان مالك بن اسماعيل النهدي، نا أسباط بن نضر عن السدي عن صبيح -مولى أم سلمة- عن زيد بن أرقم أن النبي G قال لعلي وفاطمة وحسن وحسين: أَنَا حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبْتُمْ، وَسِلْمٌ لِمَنْ سَالَمْتُمْ»..
أقول: هذا الخبر من الأخبار المشهورة المستفيضة، وقد رواه أحمد بن حنبل في مسنده وغيره من فحول علمائهم.
ولا يخفى على المتأمل أنه يدل على إمامتهم وعصمتهم وكمال ولايتهم ووجوب الاقتداء بهم، وأن محاربهم كمحارب الرسول G، ومحارب الرسول كافر قطعًا، فهو يدل دلالة قاطعة على كفر معاوية وابنه يزيد وطلحة والزبير وعائشة وجميع محاربيهم، والعجب من مخالفينا يودعون أصحتهم وكتبهم ومسانيدهم هذه الأخبار الشاهدة بفضائحهم الناطقة بقبائحهم، ويعترفون بصحتها واستفاضتها، ولا يستحون مما يلحقهم من عار إيرادها وعدم التعويل على مفادها»([9]).
وهذا الحديث التي استدل به البحراني (ت1107هـ) على كفر أم المؤمنين عائشة J ومن معها، مردود من وجهين:
الأول: أن الحديث ضعيف لا يثبت، فقد رواه الإمام أحمد (ت241هـ) قال: حدثنا تليد بن سليمان قال: حدثنا أبو الحجّاف، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: نظر النبيّ H إلى عليّ والحسن والحسين وفاطمة، فقال: «أنا حرب لمن حاربكم، وسلم لمن سالمكم»([10]).
وهذا الحديث موضوع، تليد بن سليمان كذاب رافضي، قال الجوزجاني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ثنا تليد بن سليمان: «هو عندي كان يكذب». وقال ابن معين: «كان ببغداد وقد سمعت منه، وليس بشـيء». وقال في موضع آخر: «كذاب كان يشتم عثمان»([11]).
ورواه أيضًا الترمذي([12])، وابن حبان([13])، وابن ماجة([14]) من طريق أسباط بن نصـر الهمداني، عن السُّدِّي، عن صبيح -مولى أم سلمة- عن زيد بن أرقم به مرفوعًا.
وهذا السند ضعيف أيضًا، فصبيح مجهول، قال الترمذي بعد إيراده للحديث: «صبيح مولى أم سلمة ليس بمعروف"([15]).
وبالجملة، فالحديث لا يصح، وقد ضعفه الشيخ الألباني في «الضعيفة»([16]).
الثاني: على فرض صحته، لا يجوز حمله على ما شجر بين الصحابة M يوم الجمل وصفين؛ فإن الذي وقع بينهم كان عن اجتهاد وتأويل، والخلاف السياسي لا يلزم بالضرورة وجود الكره والبغض لآل النبيّ H.
ولو راجعنا مصادر القوم نجدهم قد رووا عن عليّ Iما يدحض مقالتهم بكفر كل من حاربه وقاتله واختلف معه.
روى الحميري (تنحو310هـ)([17]) عن جعفر، عن أبيه: أن عليًّا S كان يقول لأهل حربه: «إنَّا لم نقاتلهم على التكفير لهم، ولم نقاتلهم على التكفير لنا، ولكنَّا رأينا أنَّا على حق، ورأوا أنهم على حق»([18]).
وروى أيضًا: عن جعفر، عن أبيه S: أن عليًّا S لم يكن ينسب أحدًا من أهل حربه إلى الشرك ولا إلى النفاق، ولكنه كان يقول: «هم إخواننا بَغَوْا علينا»([19]).
فكيف بعد هذا التصريح، يقال بتكفير من حارب عليًّا Iبإطلاق؟
(([1] «حق اليقين» محمد باقر المجلسي (ص519).
([2]) «بحار الأنوار» (22/233).
([3]) السابق (28/150 - 151).
([4]) محمّد تقي بن علي العاملي النطنزي الإصفهاني، الشهير بالمجلسي، والمجلسي الأوّل، أحد أبرز علماء الشيعة الإمامية، ولد بإصفهان سنة 1003 هـ.
له كتب منها: «شرح الصحيفة»، و«حديقة المتقين فارسية»، و«شرح من لا يحضره الفقيه فارسي»، و«شرح آخر عربي»، توفي سنة: 1070هـ، قال عنه الحرّ العاملي (ت 1104 هـ) في «أمل الآمل»: «كان فاضلًا عالمًا محقّقًا متبحرًا زاهدًا عابدًا ثقة متكلّمًا فقيهًا».
انظر: «أمل الآمل» الحر العاملي. تحقيق: مؤسسة آل البيت Q لإحياء التراث. قم: مؤسسة آل البيت Q لإحياء التراث (2/252).
([5]) «روضة المتقين(محمد تقي المجلسي (2/218).
([6]) محمد طاهر بن محمد حسين القمي الشيرازي، أحد علماء الشيعة في إيران، ويعتبر من مشايخ المجلـسي.
له مؤلفات عديدة، منها: «الأربعون حديثًا ودليلًا في إمامة الأئمة الطاهرين»، «الحق اليقين في معرفة أصول الدين»، وغيرها، توفي سنة 1098هـ.انظر: «الذريعة إلى تصانيف الشيعة» (2/204).
([7]) «كتاب الأربعين» (ص615).
([8]) سليمان بن عبد الله بن علي بن الحسن بن أحمد، الفقيه الإمامي المجتهد، الرجاليّ، المحقّق، شمس الدين أبو الحسن البحراني الستراوي الأصل الماحوزي، سكن في قرية البلاد القديم، وتصدى بها للتدريس والبحث والتصنيف، واشتهرت آراؤه، وانتهت إليه رئاسة البحرين ومرجعيتها الدّينية بعد وفاة السيد هاشم الكتكاني، وصنّف رسائل جمّة وكتبًا، زادت على مائة مؤلّف. انظر: «موسوعة طبقات الفقهاء» جعفر السبحاني. الناشر: اللجنة العلمية في مؤسسة الإمام الصادق S (12/135).
([9]) «الأربعون حديثا في إثبات إمامة أمير المؤمنين» سليمان بن عبد الله الماحوزي البحراني (ص109)، تحقيق: مهدي الرجائي، مطبعة أمير، قم، الطبعة الأولى، 1417هـ.
([10]) «مسند أحمد(أحمد بن محمد بن حنبل (ت 241هـ). تحقيق: شعيب الأرناؤوط، وآخرون. الطبعة الأولى. بيروت: مؤسسة الرسالة، 1421هـ/2001م (15/436). رقم (9698).
([11]) انظر: «تهذيب التهذيب» (1/509).
([12]) «سنن الترمذي» أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي (ت 279هـ). تحقيق: بشار عواد معروف. الطبعة الأولى. بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1998م (6/182)، رقم (3870).
([13]) «صحيح ابن حبان» أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد التميمي البُستي (ت 354هـ). تحقيق: شعيب الأرناؤوط. الطبعة الثانية. بيروت: مؤسسة الرسالة، 1414هـ/1993م (15/433)، رقم (6977).
([14]) «سنن ابن ماجه» أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة القزويني (ت 273هـ). تحقيق: شعيب الأرناؤوط، وآخرين. الطبعة الأولى. دمشق: دار الرسالة العالمية، 1430هـ/2009م (1/102) رقم (145).
([15]) «سنن الترمذي» (6/182).
([16]) «سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة» محمد ناصر الدين الألباني (ت 1420هـ). الطبعة الأولى. الرياض: دار المعارف، 1412هـ/1992م (13/57).
([17]) أبو العباس، عبد الله بن جعفر بن الحسين الحميري القمّي، من أعلام الشيعة في القرن الثالث، قال عنه الطوسي: «قمي ثقة»، له مصنفات منها: الإمامة، الدلائل، قرب الإسناد، وغيرها، توفي حوالي سنة 310هـ.انظر: «رجال الطوسي» الطبعة الأولى. قم: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين،1415هـ (ص400).
([18]) «قرب الإسناد» (ص93).