ومن أقبح الطعون الموجودة في كتب القوم اتهامهم لبعض أزواج النبي H بالوقوع في فاحشة الزنا -عياذًا بالله-، وإن حاول البعض منهم تغطية هذه الحقيقة، ولكن هيهات، فكتب القوم ومصادرهم تفضحهم.
قال محمد الشيرازي (ت1391هـ)([1]) الملقب بسلطان الواعظين: «قولك بأن الشيعة يقذفون عائشة وينسبونها إلى الفحشاء... فهو كذب على الشيعة وافتراء، وأقسم بالله حتى عوام الشيعة لا يقولون ذلك ولا يعتقدون به، وإنَّ النواصب والخوارج افتروا علينا هذا ليحرِّكوا عوام أهل السنَّة وجُهَّالهُم على شيعة آل محمَّد G وسلم، ومع الأسف فإنَّ بعض علماء العامة صدَّقوهم بغير دليل ولا تحقيق»([2]).
لكن بمراجعة تراث الشيعة ومصادرهم، يتبين لنا أن الطعن في أم المؤمنين عائشة J واتهامها بالفاحشة ليس كذبا على الشيعة، بل حقيقة مسطَّرة في دواوينهم، ومن أوائل من صرح بمثل هذه المقالة الآثمة، كبيرهم عليُّ بن إبراهيم القمي (ت329هـ)([3]) صاحب التفسير المشهور؛ إذ قال: «والله ما عنى بقوله: إلا الفاحشة- وليقيمن الحد على فلانة فيما أتت في طريق -وكان فلان يحبها- فلما أرادت أن تخرج إليَّ... قال لها فلان: لا يحل لك أن تخرجي من غير محرم، فزوجت نفسها
من فلان»([4]).
والمقصود بفلانة: أي أم المؤمنين عائشة J، وفلان: أي طلحة I كما سيأتي.
قال محمد جميل العاملي([5]) مدافعًا عن هذه الرواية، مؤكدًا صحتها: «وهذا الخبر متصل بالسند الذي ذكره القمي في مطلع سورة التحريم، فلا يشكل عليه أحد بأنه بلا سند، هذا مضافًا إلى أن القمي لم يفسّـر الآيات برأيه كيف؟ وهو الثقة الأمين باتفاق علماء الإمامية، وتفسيره الروائي القيم مختصـر عن الروايات المبسوطة المسندة المروية عن الإمام الصادق S، وقد شهد المحدث علي بن إبراهيم في مقدمة تفسيره بثبوت وصحة أحاديث تفسيره، وأنها مروية عن الثقات عن الأئمة.
ووثاقته مجمع عليها في الطائفة المحقة بلا نزاع، وهو من أجلاء الرواة وقد عاصر عهد الإمام الحسن العسكري S، وقد أكثر الشيخ الكليني (ت328هـ) عنه في «الكافي»، وذكر أصحابنا أن أباه لقي الإمام الرضا S، فهو وابنه ثقتان جليلان، وهما عندنا من الثقات المأمونين على الدنيا والدين، وكلُّ ما رواه عليُّ بن إبراهيم القمي في كتابه صحيح سوى ما قامت القرينة القطعية على بطلانه وهو نادر جدّا، والنادر بحكم المعدوم»([6]).
ويقول شارحًا لمتنها: «الخبر واضح الدلالة على صدور الفاحشة من عائشة وحفصة على وجه الخصوص؛ لأن المثل الذي ضربه الله تعالى في سورة التحريم إنما هو لعائشة وحفصة فيه من التعريض بل التصريح بنفاق عائشة وحفصة وكفرهما -على حدِّ تعبير المحدث المجلسي (ت1111هـ) في «البحار»([7])، باب أحوال عائشة وحفصة- بل التعريض بالفاحشة أولى مما ذكره المجلسي؛ لأن التمثيل بمريم بنت عمران وأنها أحصنت فرجها بقوله: [التحريم:12]، لا يتناسب مع الخيانة في الدين، بل الأولى أن يكون مثلًا لهما للردع عن الفاحشة اقتداء بمريم التي أحصنت فرجها عن الحرام، فضـرب المثل بمريم إنما هو تعريض بزوجتي النبي H اللتين لم تحصنا فرجيهما عن الحرام قبل وبعد شهادة
رسول الله H»([8]).
وسبق العاملي إلى قبول هذه الرواية، والدفاع عنها نعمة الله الجزائري (ت1112هـ)([9])؛ إذ يقول: « [التحريم:12]، قال: والله ما عنى بقوله: إلا الفاحشة، وليقيمنَّ الحدّ على فلانة فيما أتت في طريق البصرة، وكان طلحة يحبُّها فلمَّا أرادت أن تخرج إلى البصرة قال لها طلحة: لا يحلُّ لك أن تخرجي من غير محرم، فزوَّجت نفسها من طلحة.
أقول: روي هذا الحديث في «الكافي» عن أبي جعفر S، وكثير من أصحابنا أعرض عن قبوله واستنكف عن سماعه، وهو مجرد استبعاد لا دليل عليه»([10]).
ولم يقف الأمر عند هذا الحدِّ؛ بل اتهموا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بأنها -وحاشاها- جمعت أربعين دينارًا من الخيانة، وفرقتها على مبغضي عليّ Iبعد وفاته.
قال رجب البرسي (ت813هـ)([11]): «فمن ذلك: أنه لما قدم من الكوفة جاءت النسوة يعزينه في أمير المؤمنين S، ودخلت عليه أزواج النبي G، فقالت عائشة: يا أبا محمد، ما مثل فَقْدِ جدّك إلَّا يوم فُقِدَ أبوك، فقال لها الحسن: نسيت نبشك في بيتك ليلًا بغير قبس بحديدة، حتى ضربت الحديدة كفّك فصارت جرحًا إلى الآن، فأخرجت جردًا أخضر فيه ما جمعته من خيانة حتى أخذت منه أربعين دينارًا عددًا لا تعلمين لها وزنًا ففرقتيها في مبغضي علي صلوات الله عليه من تيم وعدي، وقد تشفيت بقتله، فقالت: قد كان ذلك»([12]).
نعوذ بالله من هذا الطعن القبيح، والقذف الشنيع في عرض النبيّ الأطهر H.
وإن تعجب فاعجب لقول محمد الشيرازي وهو يقول عمَّن طعن في عائشة وحفصة L واتهمها بالفاحشة: «أما نحن الشيعة فنعتقد أنَّ كل من يقذف أيَّ واحدة من زوجات رسول الله G وسلم لا سيما حفصة وعائشة، فهو ملحد كافر ملعون مهدور الدم؛ لأنَّ ذلك مخالف لصريح القرآن وإهانة لرسول الله G وسلم»([13]).
فليت شعري، هل يتنزل هذا الكلام على القمي والجزائري والعاملي وغيرهم؟!
والعجيب أن التُسْتَري نفسه في ترجمة بشر بن طرخان النخاس([14]) أورد رواية عن الصادق ودعائه له فقال: «أنمى الله ولدك وكثَّر مالك. قال بشر: فرزقت من ذلك ببركة دعائه، وقنيت من الأولاد ما قصرت عنه الأمنيّة»([15]).
ولم يعلق عليها بشيء، فهل يمكن أن يقال هنا أيضا: إن جعفرًا الصادق كان يدعو على بشر النخاس وليس يدعو له، أم أن هذه القاعدة تسري على أحاديث الصحابة دون الرواة المرضيين عند الإمامية الاثني عشرية؟!
بل استفاد المازندراني (ت1216هـ)([16]) من الرواية نوع مدح في حقه، ورد على من قال: إن الدعاء بكثرة الولد وسعة المال يشعر بالذم فقال: «وقول المصنف: ربما أفاد نوع ذم، خلاف الظاهر، كيف والدعاء جزاء لخدمته ونصيحة لنصيحته؟ مع ورود الحثِّ في الدعاء في طلب الولد وسعة الرزق والمال»([17]).
فانظر إلى الكيل بمكيالين، فإذا تعلق الأمر بالصحابة M كان الدعاء بكثرة المال والولد ذمًّا في حقهم، ولكن في حق أصحاب الإمام يكون الأمر بالعكس تمامًا، وتكون دلالته على المدح والثناء.
الثاني: ما ورد عن عليّ بن أبي طالب I لما طُعن عمر بن الخطاب Iوغُسِّل وسُجِّي ثوبًا، فدخل عليه فترحَّم عليه، وقال: «ما على الأرض اليوم أحدًا أحب إليَّ أن ألقى الله D على ما صحيفته من هذا المسجَّى»([18]).
وهذا الكلام خرج مخرج الثناء والمدح كما هو ظاهر وجليٌّ؛ حيث تمنى عليٌّ Iأن يلقى الله بصحيفة أعمال كصحيفة عمر I، لكن القوم لم يسلموا بهذا، وذهبوا يحملون هذا الكلام الواضح على معان غريبة، يأباها سياق الأثر:
قال الشريف المرتضى (ت436هـ): «على أن قوله: (وددت أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجى) أو (ما على الأرض أحد أحب إلي من أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى) لا يجوز أن يكون محمولًا على ظاهره؛ لأن الصحيفة إنما يشار بها إلى صحيفة الأعمال، وأعمال زيد لا يجوز أن يكون بعينها لعمرو، وتمني ذلك مما لا يصح على مثله S، فلا بد من أن يقال: إنه أراد بمثل صحيفته، وبنظير أعماله، وإذا جاز أن يضمروا شيئًا في صريح اللفظ جاز لخصومهم أن يضمروا خلافه، ويجعلوا بدلًا من إضمار المثل الخلاف، وإذا تكافأت الدعويان لم يكن في ظاهر الخبر حجة لهم، على أن في متقدمي أصحابنا من قال: إنما تمنى أن يلقى الله بصحيفته ليخاصمه بما فيها، ويحاكمه بما تضمنته، وقالوا أيضًا في ذلك وجهًا غير هذا معروفًا، وكل ذلك يسقط تعلقهم بالخبر»([19]).
فانظر -رحمك الله- كيف حملهم حقدهم على الخليفة الثاني عمر بن الخطاب I على الإتيان بسخف من القول تضحك منه الثكالى.
([1]) محمد بن علي أكبر (أشرف الواعظين) بن قاسم بن الحسن بن إسماعيل الموسوي، الشيرازي، الطهراني، العالم الإمامي، المتكلّم، المناظر، الشهير بسلطان الواعظين، ولد في طهران سنة 1314ه، وتوفي سنة 1391هـ.
وترك عدة مؤلفات منها: «ليالي بيشاور»، «إكمال البينة في إثبات وجود الإمام المهدي».
انظر: «معجم طبقات المتكلمين» (5/368).
([2]) «ليالي بيشاور» محمد الشيرازي. تحقيق: السيّد حسين الموسوي. كربلاء مؤسسة الثقلين الثقافية (ص818).
([3]) علي بن ابراهيم بن هاشم أبو الحسن القمي، من أشهر رواة الشيعة الإمامية وعلمائهم المتقدمين، قال عنه الشاهرودي: «علي بن إبراهيم من مشايخ الكليني، ثقة جليل عين ثبت فاضل نبيل، لا غمز فيه من أحد، صاحب التفسير المعروف»، توفي سنة 324هـ.
انظر: «مستدركات علم رجال الحديث» علي النمازي الشاهرودي (1/224).
([4]) «تفسير القمي» (2/377).
([5]) محمّد بن جميل بن عبد الحسين بن يوسف حمُّود، وُلِد في عام 1380هـ الموافق للعام1959م في المنطقة الغربية من بيروت العاصمة، له عدة مؤلفات منها، ولاية الفقيه العامة في الميزان، إفحام الفحول في شبهة تزويج عمر بأُمّ كلثوم P، الفوائد البهية في شرح عقائد الإمامية. نقلًا عن: موقع محمَّد جميل حمُّود العاملي على الشبكة:
http://www.aletra.org/subject.php?id=202.
([6]) «خيانة عائشة بين الاستحالة والواقع» محمد جميل حمود العاملي. الطبعة الأولى. بيروت: مؤسسة قمر بني هاشم، 1431هـ/2010م (ص92).
([7]) «بحار الأنوار» (22/233).
([8]) «خيانة عائشة بين الاستحالة والواقع» (ص91 - 92).
([9]) نعمة الله بن محمد بن عبد الله الموسوي الجزائري التستري، ولد سنة 1050 هـ، فقيه ومُحدّث ومُفسّر شيعي، وقد كان أحد كبار علماء الشيعة الاثني عشرية في العراق وإيران في زمان الدولة الصفوية.
له مصنفات عديدة منها: «الأنوار النعمانية»، «ربيع الأبرار»، «قصص الأنبياء»، وغيرها كثير، توفي سنة 1112هـ.
انظر: «تكملة أمل الآمل» السيد حسن الصدر. تحقيق: حسين علي محفوظ. بيروت: دار المؤرخ العربي (6/163).
([10]) «عقود المرجان في تفسير القرآن« نعمة الله الجزائري. الطبعة الأولى. قم: إحياء الكتب الإسلامية، 1388هـ (5/165).
([11]) رضي الدين رجب بن محمد بن رجب البرسي الحلي، محدث شيعي، وشاعر أديب، صاحب كتاب مشارق الأنوار في حقائق أسرار أمير المؤمنين S وغيره، توفي سنة 813هـ.انظر: «الكنى والألقاب» عباس القمي (2/166).
([12]) «مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين (ع)» (ص134).
([13]) «ليالي بيشاور» (ص818).
([14]) بشر بن طرخان النخّاس، وقيل: النحّاس، الكوفي، محدّث إمامي حسن الحديث، ممدوح، دعا له الإمام S بكثرة المال والولد فرزقهما، حدّث عنه الحسن الوشاء، ومحمد بن عيسى. انظر: «الفائق في رواة وأصحاب الإمام الصادق (ع)» عبد الحسين الشبستري. قم: «جماعة المدرسين» (1/232).
([15]) «قاموس الرجال» (2/331).
([16]) محمّد بن إسماعيل بن عبد الجبّار بن سعد الدين المازندراني الحائري، المعروف بأبي عليّ، ولد سنة 1159هـ، من علماء الشيعة الإمامية المبرزين في علم الرجال.
له عدة كتب منها: «عقد اللآلئ البهيّة في الردّ على الطائفة الغبيّة»، وهي «رسالة في الردّ على الأخباريين»، «منتهى المقال في أحوال الرجال»، توفي سنة 1216هـ.
انظر: مقدمة تحقيق «منتهى المقال في أحوال الرّجال» (ص37).
([17]) «منتهى المقال في أحوال الرّجال» المازندراني. تحقيق: مؤسسة آل البيت Q لإحياء التراث. الطبعة الأولى. قم: مؤسسة آل البيت Q لإحياء التراث، 1416هـ (2/154).
([18]) «فضائل الصحابة» أحمد بن محمد بن حنبل (ت 241هـ). تحقيق: وصي الله محمد عباس. الطبعة الأولى. بيروت: مؤسسة الرسالة، 1403هـ/1983م (1/265).
([19]) «الشافي في الإمامة» (3/117).