وصف عيسى عليه السلام بأنه اليد السفلى

قال الحسن بن سليمان الحلي (ت806هـ): «أجمعوا أن عيسى ابن مريم ينزل ويصلي خلفه ويأتم به، والإمام أفضل من الْمؤتم به؛ لأنه تابع له ومشايع، ويد المتبوع العليا ويد التابع السفلى، قال الصادق S: اليد العليا خير من اليد السفلى»([1]).

وهذا مناف للأدب في حق الأنبياء، خصوصًا أحد أولي العزم عليهم الصلاة والسلام، فكيف يوصف بأنه يد سفلى لا لشـيء إلا من أجل الاستدلال على أفضيلة إمامهم المهدي عليه؟ وصلاة عيسى O خلف المهدي لا يدل على كونه أفضل منه؛ لأن هذا الائتمام ليظهر أنه نزل تابعًا لنبينا H حاكمًا بشرعه.

قال ابن الجوزي: «لو تقدم عيسى إمامًا لوقع في النفس إشكال، ولقيل: أتراه تقدم نائبًا أو مبتدئًا شرعًا؟ فيصلي مأمومًا لئلا يتدنس بغبار الشبهة وجه قوله: «لَا نَبِيَّ بَعْدِي» ([2])، فلا دلالة حينئذ على أفضلية المهدي على عيسى O.

وقد ذكَرَ ابن القيم: «أنه رجل من أهل بيت النبي H من ولد الحسن بن علي، يخرج في آخر الزمان وقد امتلأت الأرض جورًا وظلمًا فيملأها قسطًا وعدلًا، وأكثر الأحاديث على هذا تدل... »([3]).

واضطرب أمر الشِّيعة وتفرَّق جمعهم؛ لأنَّهم أصبحوا بلا إمام، ولا دين عندهم بدون إمام؛ لأنَّه هو الحجَّة على أهل الأرض([4]).

ولكن الإمام مات بلا عقب، وبقيت الأرض بلا إمام، ولم يحدث شيء من هذه الكوارث.. فتحيرت الشيعة واختلفوا في أعظم أمر عندها وهو تعيين الإمام، وافترقوا إلى أربع عشرة فرقة كما يقول النّوبختي([5])، أو خمس عشرة فرقة كما ينقل القمّي (ت329هـ) ([6])، وهما من الاثني عشـريَّة، وممَّن عاصر أحداث الاختلاف؛ إذ هما من القرن الثَّالث، فمعلوماتهما مُهِمَّة في تصوير ما آل إليه أمر الشيعة بعد الحسن العسكري، ومن بعدهما زادت الفرقة واتَّسع الاختلاف؛ حيث يذكر المسعودي الشّيعي (ت346هـ) ما بلغه اختلاف شيعة الحسن بعد وفاته، وأنَّه وصل إلى عشرين فرقة، فما بالك بما بعده([7])؟!

وقد ذهبت هذه الفرق مذاهب شتَّى في أمر الإمامة:

فمنهم من قال: «إنَّ الحسن بن علي حيٌّ لم يمت، وإنّما غاب وهو القائم، ولا يجوز أن يموت ولا ولد له ظاهر؛ لأنّ الأرض لا تخلو من إمام»، فوقفت هذه الفِرقة على الحسن العسكري وقالت بمهديته وانتظاره كما هي العادة عند الشيعة بعد وفاة كلِّ إمام تدَّعي إمامته.

ومنهم من ذهب إلى الإقرار بموته، ولكنَّها زعمت أنَّه حيٌّ بعد موته، ولكنَّه غائب وسيظهر، ومنهم من حاول أن يمضي بالإمامة من الحسن إلى أخيه جعفر، ومنهم من أبطل إمامة الحسن بموته عقيمًا.

أما الاثنا عشريَّة: فقد ذهبت إلى الزَّعم بأن للحسن العسكري ولدًا، كان قد أخفى -أي الحسن- مولده وستر أمره؛ لصعوبة الوقت وشدَّة طلب السلطان له، فلم يظهر ولده في حياته، ولا عرفه الجمهور بعد وفاته.

ويقابل ذلك اتجاه آخر يقول: «إن الحسن بن علي قد صحت وفاته كما صحت وفاة آبائه بتواطؤ الأخبار التي لا يجوز تكذيب مثلها، وكثرة المشاهدين لموته، وتواتر ذلك عن الولي له والعدو، وهذا ما لا يجب الارتياب فيه، وصح بمثل هذه الأسباب أنه لا ولد له، فلما صح عندنا الوجهان ثبت أنه لا إمام بعد الحسن ابن علي، وأن الإمامة انقطعت، كما جاز أن تنقطع النبوة بعد محمد، فكذلك جائز أن تنقطع الإمامة؛ لأن الرسالة والنبوة أعظم خطرًا وأجل، والخلق إليها أحوج، والحجة بها ألزم، والعذر بها أقطع؛ لأن معها البراهين الظاهرة والأعلام الباهرة فقد انقطعت، فكذلك يجوز أن تنقطع الإمامة».

وقطعت كذلك فرقة أخرى بموت الحسن بن علي وأنه لا خلف له، وقالت: «إن الله سيبعث قائمًا من آل محمد ممن قد مضى، إن شاء بعث الحسن بن علي، وإن شاء بعث غيره، ونحن الآن في زمن فترة انقطعت فيه الإمامة».

وهكذا تضاربت أقوالهم، واختلفت اتجاهاتهم، وتفرقوا شيعًا وأحزابًا كل حزب بما لديهم فرحون.. وبلغت الحَيْرة في تلك الفترة أن اختار بعضهم التوقف وقال: «نحن لا ندري ما نقول في ذلك وقد اشتبه علينا الأمر... » ([8]).

على أن الشيعة يعتقدون ضرورة وجود إمام في الأرض عنده جميع علمهم، يرجع الناس إليه في أحكام الدين، ثم ضرورة أن يكون هذا معصوما، ثم ضرورة أن يكون من أولاد الحسين بن علي، ثم ضرورة الإيمان بوفاة الحسن العسكري، ثم ضرورة القول بالوراثة العمودية، يعني من نسل الحسن يأتي مباشرة، ثم ضرورة أنه لا معصوم إلا محمد بن الحسن العسكري، وهو الإمام المهدي المنتظر؛ ولذلك يقول المرتضـى (ت436هـ): «إن العقل يقتضـي بوجوب الرئاسة في كل زمان، وأن الرئيس لا بد أن يكون معصومًا»([9]).

وقال المفيد: «إن هذا أصل لا يحتاج معه لرواية النصوص؛ لقيامه بنفسه في قضية العقول» ([10]).

 

([1]) «تفضيل الأئمة على الأنبياء والملائكة» (ص229).

([2]) «فتح الباري» أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852هـ). تحقيق: محب الدين الخطيب. بيروت: دار المعرفة، 1379هـ (6/494).

([3]) «المنار المنيف في الصحيح والضعيف» أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب، ابن القيم (ت 751هـ). تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة. الطبعة الأولى. حلب: مكتبة المطبوعات الإسلامية، 1390هـ/1970م (ص151).

([4]) «أصول الكافي» (1/188).

([5]) «فرق الشيعة» الحسن بن موسى النوبختي، وسعد بن عبد الله القمي. تحقيق: عبد المنعم الحفني. الطبعة الأولى. القاهرة: دار الرشد، 1412هـ/1992م (ص96)، «الفصول المختارة(المفيد (ص258).

([6]) «المقالات والفِرَق» (ص102).

([7]) «مروج الذهب» أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي (ت 346هـ) تحقيق: كمال حسن مرعي. الطبعة الأولى. بيروت: المكتبة العصرية، 1425هـ/2005م (4/190)، وانظر: «الصّواعق المحرقة» (ص168).

([8]) «المقالات والفرق» (ص95 - 108)، «فرق الشيعة» (ص96 - 105)، نقلًا من كتاب «أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية - عرض ونقد -» (2/829 - 830).

([9]) «رسائل المرتضى» (2/294).

([10]) «الإرشاد» للمفيد (2/342 -343).