رواية موطأ مالك التي فصَِّلت الموضوع:
قال مالك: حَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَضَاعَةِ الْكَبِيرِ؟ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَكَانَ تَبَنَّى سَالِمًا، الَّذِي يُقَالُ لَهُ سَالِمٌ، مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، كَمَا تَبَنَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَأَنْكَحَ أَبُو حُذَيْفَةَ سَالِمًا، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ ابْنُهُ أَنْكَحَهُ بِنْتَ أَخِيهِ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ، وَهِيَ مِنْ أَفْضَلِ أَيَامَى قُرَيْشٍ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَا أَنْزَلَ فَقَالَ {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ، فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ، وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5]، رُدَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أُولَئِكَ إِلَى أَبِيهِ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَبُوهُ رُدَّ إِلَى مَوْلَاهُ، فَجَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ وَهِيَ امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ، وَهِيَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ: كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ، وَأَنَا فُضُلٌ وَلَيْسَ لَنَا إِلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ، فَمَاذَا تَرَى فِي شَأْنِهِ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، فَيَحْرُمُ بِلَبَنِهَا»، وَكَانَتْ تَرَاهُ ابْنًا مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَأَخَذَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَنْ كَانَتْ تُحِبُّ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِنَ الرِّجَالِ، فَكَانَتْ تَأْمُرُ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَبَنَاتِ أَخِيهَا أَنْ يُرْضِعْنَ مَنْ أَحَبَّتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِنَ الرِّجَالِ، وَأَبَى سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَقُلْنَ: «لَا وَاللَّهِ مَا نَرَى الَّذِي أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ إِلَّا رُخْصَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَضَاعَةِ سَالِمٍ وَحْدَهُ، لَا وَاللَّهِ لَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا بِهَذِهِ الرَّضَاعَةِ أَحَدٌ، فَعَلَى هَذَا كَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رَضَاعَةِ الْكَبِيرِ"([1]).
أولاً: حديث رضاع الكبير في أعلى درجات الصحة، فهو حديث متفق عليه عند البخاري ومسلم، ورواه مالك في الموطأ وأبو داود وابن ماجه والنسائي في سننهم، ورواه غيرهم، كما أنه لا يتعارض مع كتاب الله في شيء، من ناحية غض البصر عن غير المحارم _لأن الرضاع لا يلزم منه مباشرة الثدي ومصّه_، كما روى ابن سعد بسنده عن مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "كَانَ يَحْلُبُ فِي مِسْعَطٍ أَوْ إِنَاءٍ قَدْرَ رَضْعَةٍ فَيَشْرَبُهُ سَالِمٌ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَةَ أَيَّامٍ"([2]).
والرضاع في اللغة يطلق على مجرد شرب اللبن:
قال إمام اللغة الفراهيدي:" وأرضعته أمّه، أي: سقته"([3]). وقال ابن سيده: "رَضَعَ الصبيُّ: شَرِبَ اللَّبن"([4]).
وأجمع المسلمون على أن الرضاع يحرم بمجرد الحلب والشرب.
قال ابن عبد البر: "وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى التَّحْرِيمِ بِمَا يَشْرَبُهُ الْغُلَامُ الرَّضِيعُ مِنْ لَبَنِ الْمَرْأَةِ وَإِنْ لَمْ يَمُصَّهُ مِنْ ثَدْيِهَا"([5]).
قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ كَانَتْ لَمْ تُكْمِلْ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فَحُلِبَ لَهَا لَبَنٌ كَثِيرٌ، فَقَطَعَ ذَلِكَ اللَّبَنَ، فَأُوجِرَهُ صَبِيٌّ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا حَتَّى يُتِمَّ خَمْسَ رَضَعَاتٍ لَمْ يَحْرُمْ؛ لِأَنَّهُ لَبَنٌ وَاحِدٌ، وَلَا يَكُونُ إلَّا رَضْعَةً وَاحِدَةً، وَلَيْسَ كَاللَّبَنِ يَحْدُثُ فِي الثَّدْيِ كُلَّمَا خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ حَدَثَ غَيْرُهُ، فَيُفَرَّقُ فِيهِ الرَّضَاعُ حَتَّى يَكُونَ خَمْسًا. (قَالَ الرَّبِيعُ) :وَفِي قَوْلٍ آخَرَ أَنَّهُ إذَا حُلِبَ مِنْهَا لَبَنٌ فَأُرْضِعَ بِهِ الصَّبِيُّ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَكُلُّ مَرَّةٍ تُحْسَبُ رَضْعَةً، إذَا كَانَ بَيْنَ كُلِّ رَضْعَتَيْنِ قَطْعٌ بَيِّنٌ"([6]).
وقال الصنعاني: "وَاسْمُ الرَّضَاعِ لَا يَقِفُ عَلَى الِارْتِضَاعِ مِنْ الثَّدْيِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: يَتِيمٌ رَاضِعٌ وَإِنْ كَانَ يَرْضَعُ بِلَبَنِ الشَّاةِ وَالْبَقَرِ، وَلَا عَلَى فِعْلِ الِارْتِضَاعِ مِنْهَا، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ ارْتَضَعَ الصَّبِيُّ مِنْهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ يُسَمَّى ذَلِكَ رَضَاعًا".([7]).
فظهر من هذا أن رضاع سالم ليس فيه مخالفة لكتاب الله، حيث أنه لا يلزم منه رؤية جسد محرم ولا مسّه.
بل ولم تتفرد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها برواية هذا الحديث، فقد جاء عند مسلم من رواية أم سلمة: "عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ، أَنَّ أُمَّهُ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّهَا أُمَّ سَلَمَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَانَتْ تَقُولُ: " أَبَى سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُدْخِلْنَ عَلَيْهِنَّ أَحَدًا بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ، وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ: وَاللهِ مَا نَرَى هَذَا إِلَّا رُخْصَةً أَرْخَصَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَالِمٍ خَاصَّةً، فَمَا هُوَ بِدَاخِلٍ عَلَيْنَا أَحَدٌ بِهَذِهِ الرَّضَاعَةِ، وَلَا رَائِينَا"([8]).
فهذه رواية أم سلمة تؤيد رواية أم المؤمنين عائشة، وتقَبَّل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حديث رضاع سالم، لكنهن لم يحدثن به لعلّة تأتي معنا في توجيه كلام أم سلمة، قول أزواج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمْ- لعائشة في رواية أم سلمة: "وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ: وَاللهِ مَا نَرَى هَذَا إِلَّا رُخْصَةً أَرْخَصَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِسَالِمٍ خَاصَّةً"([9]).
هذا دليل على أنهن يعتقدن بما روته أم المؤمنين عائشة في قصة سالم، لكنهن رأين أنها واقعة عين لحالة خاصة.
وفيه دليل أن رواية سالم متواترة عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
وجمهور أهل الإسلام على أن هذا خاص بسالم، ولا تَثبُتُ الحُرمةُ برَضاعِ الكَبيرِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ([10]):
وهو قَولُ جُمهورِ التَّابعينَ، وفِقهاءِ الأمصارِ:
قال ابنُ عبدِ البَرِّ: "ممَّن قال إنَّ رَضاعَ الكبيرِ ليس بشَيءٍ: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وابن عمر، وأبو هريرة، وابن عباس، وسائِرُ أمَّهاتِ المؤمنين غيرَ عائشةَ، وجمهورُ التابعين، وجماعةُ فقهاء الأمصار، منهم: الليث، ومالك، وابن أبي ذئب، وابن أبي ليلى، وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد، والطبري"([11]).
وقال ابنُ القيم: "قال الشَّافعيُّ، وأحمَدُ، وأبو يُوسُفَ، ومُحمَّدٍ: هو ما كان في الحولَينِ، ولا يُحَرِّمُ ما كان بعدَهما. وصَحَّ ذلك عن عُمَرَ، وابنِ مَسعودٍ، وأبي هُرَيرةَ، وابنِ عبَّاسٍ، وابنِ عُمَرَ، ورُوِيَ عن سعيدِ بنِ المُسَيِّبِ، والشَّعبيِّ، وابن شُبرُمةَ، وهو قَولُ سُفيانَ، وإسحاقَ، وأبي عُبيدٍ، وابنِ حَزمٍ، وابنِ المُنذِرِ، وداودَ وجُمهورِ أصحابِه) ([12]).
وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك:
قال ابنُ العربي: (اتَّفق الفُقَهاءُ على ألَّا يُحَرِّمَ رَضاعُ الكبيرِ). ([13])
لكنْ ورد خِلافٌ في ذلك؛ قال الجصَّاصُ:" أمَّا القولُ في رَضاعِ الكبيرِ فإنَّه يُروى عن عائِشةَ، وأبي موسى: أنَّ رَضاعَ الكبيرِ يُحَرِّمُ. وهو قَولُ اللَّيثِ بنِ سَعدٍ"([14]).
وقال ابنُ القيم: "يُروى عن عَليٍّ، وعُروةَ بنِ الزُّبَيرِ، وعَطاءِ بنِ أبي رَباحٍ، وهو قَولُ اللَّيثِ بنِ سَعدٍ، وأبي مُحمَّدٍ ابنِ حَزمٍ، قال: ورَضاعُ الكبيرِ - ولو أنَّه شَيخٌ- يُحَرِّمُ، كما يُحَرِّمُ رَضاعُ الصَّغيرِ، ولا فَرْقَ؛ فهذه مذاهِبُ النَّاسِ في هذه المسألةِ"([15]).
وقال ابنُ حزم: "رَضاعُ الكبيرِ مُحَرِّمٌ، ولو أنَّه شَيخٌ يُحَرِّمُ كما يُحَرِّمُ رَضاعُ الصَّغيرِ، ولا فَرْقَ"([16]).
وقال شيخ الإسلام: "وَالْكَبِيرُ إذَا ارْتَضَعَ مِنْ امْرَأَتِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ امْرَأَتِهِ لَمْ تُنْشَرْ بِذَلِكَ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ؛ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ مُخْتَصٌّ عِنْدَهُمْ بِذَلِكَ؛ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ تَبَنَّوْهُ قَبْلَ تَحْرِيمِ التَّبَنِّي"([17]).
والحكمة في إباحة النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لسالم: أن الزمان زمان تشريع، وقد جاء الإسلام لفرض الحجاب، وحرم التبني، ومع ما في هذين الحكمين من مصالح فقد نتج عن ذلك مشقة عظيمة لأسرة إسلامية في بداية التشريع، فكان من رحمة الله بهذه الاسرة أن شرع لهم رضاع الكبير بالصورة التي ذكرناها آنفا في قصة سالم، لعلاج هذه الحالة التي لن تتكرر كون التشريع حرم التبني، فمن تبنى ولدًا بعد ذلك كان مخالفًا لحكم ثابت في الشريعة فلا يستحق التخفيف، ولو فرضنا وجود حالة كهذه فمن أين لنا بالمعجزة التي أخبر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمْ- عنها في الحديث بقوله: "وَيَذْهَبِ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ» فَرَجَعَتْ فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُهُ. فَذَهَبَ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ"([18]).
فكأنها لم تتصور أنه بمجرد أن يشرب سالم ذلك اللبن أن يذهب ما في نفس أبي حذيفة، فلذلك ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تبشره بحصول تلك المعجزة، كل هذا يؤكد أن هذا خاص بسالم مولى أبي حذيفة، على أننا لو قلنا بأنه إذا تحققت نفس حالة سالم في شخص لما بَعُد القول بإرضاعه لمجرد الحرمة حلاً لتلك المشكلة، كأن يُسلم رجل بأسرته وفيهم شاب قد تبنوه قبل دخولهم للإسلام، فإن قلنا بجواز رضاعه لتحقق المحرمية فليس ذلك ببعيد من القياس، ويكون هذا مخصصًا لعمومات التحريم بالرضاع دون الحولين، لكن الأولى هو عدم القول بذلك، وأن حالة سالم واقعة عين لا يقاس عليها، وهو ما سنبينه في النقطة التالية .
ثانيًا: الصحيح من مذهب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أنها لم تفت برضاع الكبير، ولم يثبت ذلك عنها بإسناد صحيح.
والقول الذي يُنسب إلى فقيه لابد أن يُبنى على ما ثبت صريحا من قوله، وبعض الفقهاء قد ينسب القول إلى فقيه، لمجرد حكاية ذلك القول عنه دون تتبع لصحة ذلك عنه، أو لا يكون المجال مجال تحقيق للأقوال، أو قد يظن أن ذلك ثابت عنه، فيتبين عدمه، إلى غير ذلك من الأسباب، حتى إن ابن القيم قال: إن القول بالتحريم برضاع الكبير مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: وَيُرْوَى عَنْ علي، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وأبي محمد بن حزم، قَالَ: وَرَضَاعُ الْكَبِيرِ وَلَوْ أَنَّهُ شَيْخٌ يُحَرِّمُ كَمَا يُحَرِّمُ رَضَاعُ الصَّغِيرِ"([19]).
فإذا حققت قول علي رضي الله عنه في المسألة، وجدت الصواب أنه لم يفت بذلك.
وهكذا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إذا حققت قولها وجدت أنها لم تفتِ برضاع الكبير قط، وإليك الأدلة القاطعة على ذلك.
الدليل الأول: ما رواه عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ نَافِعًا، يُحَدِّثُ، أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَرْسَلَتْ بِهِ إِلَى أُخْتِهَا أُمِّ كُلْثُومٍ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ لِتُرْضِعَهُ عَشْرَ رَضَعَاتٍ لِيَلِجَ عَلَيْهَا إِذَا كَبِرَ، فَأَرْضَعَتْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَرِضَتْ، فَلَمْ يَكُنْ سَالِمٌ يَلِجُ عَلَيْهَا"([20])، وقد صرحت رواية موطأ مالك بصغر سالم.
في (موطأ مَالِكٌ)، عَنْ نَافِعٍ؛ أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ، أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَرْسَلَتْ بِهِ وَهُوَ يَرْضَعُ، إِلَى أُخْتِهَا أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَتْ: أَرْضِعِيهِ عَشْرَ رَضَعَاتٍ، حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيَّ. قَالَ سَالِمٌ: فَأَرْضَعَتْنِي أُمُّ كُلْثُومٍ ثَلاَثَ رَضَعَاتٍ، ثُمَّ مَرِضَتْ، فَلَمْ تُرْضِعْنِي غَيْرَ ثَلاَثِ مِرَارٍ، فَلَمْ أَكُنْ أَدْخُلُ عَلَى عَائِشَةَ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ، لَمْ تُتِمَّ لِي عَشْرَ رَضَعَاتٍ" ([21]). وإسناد عبد الرزاق ومالك كلاهما صحيحان.
وجه الدلالة: أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أرسلت سالمًا وهو صغير في سن الرضاع؛ ليرضع من أختها أم كلثوم ليدخل عليها إذا كبر، فيسهل عليه أخذ العلم عنها، لكنها مرضت فلن تكمل رضاعه، فلم يدخل عليها، فإذا كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ترى جواز رضاع الكبير، فلماذا لم تأمر برضاع سالم وهو كبير ليدخل عليها؟
فهذا من أقوى الأدلة على أن رأي أم المؤمنين، هو عدم جواز رضاع الكبير.
الدليل الثاني: ثبت في صحيحي البخاري ومسلم من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ، فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ"([22]).
قال القرطبي: "إنما الرضاعة من المجاعة، وهذا منه صلى الله عليه وسلم تقعيد قاعدة كلية؛ تصرح بأن الرضاعة المعتبرة في التحريم إنما هي في الزمان الذي تغني فيه عن الطعام، وذلك إنما يكون في الحولين وما قاربهما"([23]).
وجه الدلالة: إذا كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تروي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا يؤصل لقاعدة عامة، في عدم اعتبار التحريم بالرضاعة بعد الحولين، فكيف تخالف هي ما ترويه؟! فهذا دليل قوي على أنها تعتقد بعدم نشر الحرمة بالرضاع بعد الحولين.
الدليل الثالث: في مسند ابن الجعد قال: "حَدَّثَنَا عَلِيٌّ، أنا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ قَالَ: سَمِعْتُ قَيْسَ بْنَ أَبِي حَازِمٍ، وَأَبَا الشَّعْثَاءِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا أَنَبْتَ اللَّحْمَ وَالدَّمَ"([24]).
وجه الدلالة: أن الحديث قرر أن الرضاع الذي تتحقق به المحرمية هو ما أنبت اللحم والدم، وهذا لا يتحقق في الكبير؛ لأن الطفل الصغير هو الذي ينبت لحمه بالرضاع.
الدليل الرابع: أن الإمام مالك بعدما روى حديث سهله ورضاع سالم قال -كما في الموطأ عن-: "حبيب قَالَ مَالِكٌ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ رُخْصَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَعْمَلِ النَّاسُ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ لَعَمِلَ بِهِ النَّاسُ بَعْدَهُ "([25])
وجه الدلالة: أن الإمام مالك وهو إمام دار الهجرة وأعلم الناس في زمانه، خاصة أهل المدينة، وأم المؤمنين عائشة عاشت ودُفنت في المدينة، فلو كان ذلك مذهبا لأم المؤمنين واشتهر ذلك عنها -كما يزعمون- لذكر ذلك واستثناها من عمل الناس.
قد يقول قائل: لكن مالكا قد ذكر قول الزهري المنسوب إلى أم المؤمنين، وأنها أفتت برضاع الكبير؟
فالجواب: أن الإمام مالك يعلم أن الرواية من مرسلات الزهري، فلا يعتمد عليها، ولم يشترط مالك ألا يروي إلا المسند الصحيح، ولذلك قال الحافظ العراقي: " إن مالكا رحمه الله لم يفرد الصحيح، بل أدخل فيه المرسل والمنقطع والبلاغات، ومن بلاغاته أحاديث لا تعرف، كما ذكره ابن عبد البر"([26]).
قلت: فكان تعليق مالك على الرواية دليل قطعي أنه يعلم أنه لم يصح ذلك عن أم المؤمنين عائشة، وأنه لم يقع في ذلك حادثة واحدة، وإلا لاستثناها، لكنه عمم القول فقال: "إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ رُخْصَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَعْمَلِ النَّاسُ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ لَعَمِلَ بِهِ النَّاسُ بَعْدَهُ "([27])
الدليل الخامس: ما رواه مسلم عن: "ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو جَاءَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ سَالِمًا - لِسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ - مَعَنَا فِي بَيْتِنَا. وَقَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ، وَعَلِمَ مَا يَعْلَمُ الرِّجَالُ. قَالَ: «أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ» قَالَ: " فَمَكَثْتُ سَنَةً أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا لَا أُحَدِّثُ بِهِ وَهِبْتُهُ، ثُمَّ لَقِيتُ الْقَاسِمَ فَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ حَدَّثْتَنِي حَدِيثًا مَا حَدَّثْتُهُ بَعْدُ، قَالَ: فَمَا هُوَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ قَالَ فَحَدِّثْهُ عَنِّي، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْنِيهِ"([28]).
وجه الدلالة: أن ابن أبي مليكة وهو شيخ الحرم وقاضي مكة في زمانه، وقد رأى ثمانين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكان من الصالحين والفقهاء في التابعين والحفاظ والمتقنين"([29]).
فقد عاش بين أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمْ- ومع ذلك هاب أن يُحَدِّث بحديث سالم سنة كاملة، فلو كان الحديث معروفا عندهم وعملت به أم المؤمنين لما خفي ذلك على الناس، ولما خاف ابن أبي مليكة من التحديث به، وكتمانه عاماً كاملاً؛ ولذلك علق ابن عبد البر بعدما ذكر قول ابن أبي مليكة فقال: "قال ابن أَبِي مُلَيْكَةَ: فَمَكَثْتُ سَنَةً أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا لَا أُحَدِّثُ بِهِ رَهْبَةً لَهُ، ثُمَّ لَقِيتُ الْقَاسِمَ فَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ حَدَّثْتَنِي حَدِيثًا مَا حَدَّثْتُ بِهِ بَعْدُ! فَقَالَ: مَا هُوَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ حَدِّثْ بِهِ عَنِّي فَإِنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْنِيهِ"
قَالَ ابن عبد البر: "هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَدِيثٌ تُرِكَ قَدِيمًا وَلَمْ يُعْمَلْ بِهِ وَلَا تَلَقَّاهُ الْجُمْهُورُ بِالْقَبُولِ عَلَى عُمُومِهِ، بَلْ تَلَقَّوْهُ بِالْخُصُوصِ([30])".
فدلت رهبة ابن أبي مليكة _والذي هو من سادات التابعين وأكابرهم_، من التحديث بحديث رضاع الكبير، أن أم المؤمنين ما كانت تفتي به ولا اشتهر ذلك عنها، ولا نعلم أحدا ذكر أن أم المؤمنين أمرت بإرضاعه وهو كبير ليدخل عليها، ولا ذكر أحد من أهل العلم - بإسناد صحيح- اسم أحد أرسلت به أم المؤمنين وهو كبير ليرضع...!
كل هذه أدلة على بطلان نسبة تلك الفتوى لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
الدليل السادس: أنه لو وجدت فتوى صريحة لأم المؤمنين عائشة تقول برضاع الكبير، لما اختلف أهل العلم في مذهبها.
فهذا أبو بكر الجصاص ينفي عن عائشة القول بأنها أفتت برضاع الكبير، ويقول أن الذي ثبت عنها هو في الطفل الصغير لا غير ذلك.
قال في أحكام القرآن: "وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثُ عَائِشَةَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي رَضَاعِ الْكَبِيرِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ مَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَأْمُرُ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنْ تُرْضِعَ الصِّبْيَانَ حَتَّى يَدْخُلُوا عَلَيْهَا إذَا صَارُوا رِجَالًا. فَإِذَا ثَبَتَ شُذُوذُ قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ رَضَاعَ الْكَبِيرِ، فَحَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ غَيْرُ مُحَرِّمٍ. ([31])
وهناك قول آخر لعلاء الدين الكاساني يقول بأن أم المؤمنين تراجعت عن فتواها برضاع الكبير.
قال في (بدائع الصنائع): "وَأَمَّا عَمَلُ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- فَقَدْ رُوِيَ عَنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهَا؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَا يُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعِ إلَّا مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَالدَّمَ.
وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِنْتَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنْ تُرْضِعَ الصِّبْيَانَ حَتَّى يَدْخُلُوا عَلَيْهَا إذَا صَارُوا رِجَالًا"([32]).
وهناك قول ثالث ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية فهو يرى أن مذهب أم المؤمنين عائشة أن الرضاع إذا كان بقصد التغذية فلا يحرم إلا للصغير فقط، فإذا ارتضع الكبير بقصد التغذية فلا تحصل الحرمة، وإما إذا حصل رضاع الكبير بغير قصد التغذية، بل لحاجة وضرورة جعل الرجل محرما، كما في حالة سالم، فيجوز.
فقال: "لَكِنَّهَا رَأَتْ الْفَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ رَضَاعَةً أَوْ تَغْذِيَةً. فَمَتَى كَانَ الْمَقْصُودُ الثَّانِي لَمْ يُحَرِّمْ إلَّا مَا كَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ. وَهَذَا هُوَ إرْضَاعُ عَامَّةِ النَّاسِ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيَجُوزُ إنْ اُحْتِيجَ إلَى جَعْلِهِ ذَا مَحْرَمٍ. وَقَدْ يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ مَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهَا. وَهَذَا قَوْلٌ مُتَوَجِّهٌ"([33]).
وهناك قول رابع ينسب القول بالتحريم برضاع الكبير بإطلاق!
والخلاصة:
أن الأقوال في مذهب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها اضطربت، فمن الفقهاء من قرر أنها لم تفت بذلك، ومنهم من قال أنها أفتت به ورجعت، ومنهم من قال لم ترجع، ومنهم من فرّق بين قصد التغذية وغيرها.
فلو كان لأم المؤمنين قول صريح ثابت في المسألة، لما وجدت هذا الاضطراب في تحديد مذهبها، لكن كما رأيت من الأدلة القاطعة السابقة، أن الصواب من مذهب أم المؤمنين عائشة، أنها لم تفت برضاع الكبير قط، وإنما كانت تذكر رواية سالم وترويها من باب عدم كتمان العلم وبلاغ السنة لا أكثر من ذلك.
ثالثًا: بيان بطلان روايات نسبة القول برضاع الكبير إلى أم المؤمنين.
الرواية الأولى: رواية عطاء.
في (مصنف عبد الرزاق) قال:" أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً يَسْأَلُ، قَالَ لَهُ رَجُلٌ: سَقَتْنِي امْرَأَةٌ مِنْ لَبَنِهَا بَعْدَ مَا كُنْتُ رَجُلًا كَبِيرًا أَأَنْكِحُهَا؟ قَالَ: «لَا». قُلْتُ: وَذَلِكَ رَأْيُكَ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ عَطَاءٌ: كَانَتْ عَائِشَةُ: تَأْمُرُ بِذَلِكَ بَنَاتِ أَخِيهَا"([34]).
قلت: عطاء لم يصرح بالسماع من عائشة، وسيأتي بيان سبب الوهم الذي وقع فيه عطاء وغيره.
وروى الأثرم عن أحمد ما يدل على أن -عطاء- كان يدلس فقال في قصة طويلة ورواية عطاء عن عائشة لا يحتج بها الا أن يقول سمعت([35]).
وقال ابن خراش المروزي: "وأحاديث عطاء عن عائشة مراسيل"([36]).
وعليه فالرواية منقطعة مرسلة ضعيفة لا نعلم من الواسطة بين عطاء وعائشة رضي الله عنها، وقد حذر العلماء من مرسلات عطاء:
قال أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ: "لَيْسَ فِي المُرْسَلاَتِ شَيْءٌ أَضْعَفُ مِنْ مُرْسَلاَتِ الحَسَنِ، وَعَطَاءِ بنِ أَبِي رَبَاحٍ، كَانَا يَأْخُذَانِ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ"([37]).
وقال يَحْيَى بنِ سَعِيْدٍ القَطَّانِ:" مُرْسَلاَتُ مُجَاهِدٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مُرْسَلاَتِ عَطَاءٍ بِكَثِيْرٍ، كَانَ عَطَاءٌ يَأْخُذُ عَنْ كُلِّ ضَرْبٍ"([38]).
الرواية الثانية: رواية الزهري.
1- طريق معمر عن الزهري.
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: إِنَّ سَالِمًا كَانَ يُدْعَى لِأَبِي حُذَيْفَةَ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَنْزَلَ فِي كِتَابِهِ: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنَا فَضْلٌ، وَنَحْنُ فِي مَنْزِلٍ ضَيِّقٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْضِعِي سَالِمًا تَحْرُمِي عَلَيْهِ». قَالَ الزُّهْرِي: «قَالَتْ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا نَدْرِي لَعَلَّ هَذِهِ كَانَتْ رُخْصَةً لِسَالِمٍ خَاصَّةً». قَالَ الزُّهْرِي: وَكَانَتْ عَائِشَةُ «تُفْتِي بِأَنَّهُ يَحْرُمُ الرَّضَاعُ بَعْدَ الْفِصَالِ حَتَّى مَاتَتْ"([39]).
فتأمل لترى أن قصة سالم مروية بالإسناد، وأما الفتوى من أم المؤمنين فمن كلام الزهري بلا إسناد فالرواية مرسلة؛ لأن الواسطة بين الزهري وأم المؤمنين غير معروفة.
وأم المؤمنين توفيت سنة 57 أو 58 والزهري ولد 58، وقد حذر العلماء من مرسلات الزهري أشد التحذير.
قَالَ يَحْيَى بنُ سَعِيْدٍ القَطَّانُ: "مُرْسَلُ الزُّهْرِيِّ شَرٌّ مِنْ مُرْسَلِ غَيْرِهِ؛ لأَنَّهُ حَافِظٌ، وَكُلُّ مَا قَدِرَ أَنْ يُسَمِّيَ سَمَّى، وَإِنَّمَا يَتْرُكُ مَنْ لاَ يُحِبُّ أَنْ يُسَمِّيَه"([40]).
وقال الشَّافِعِيَّ: "إِرسَالُ الزُّهْرِيِّ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لأَنَّا نَجِدُه يَرْوِي عَنْ سُلَيْمَانَ بنِ أَرْقَمَ"([41]).
قال علي بن المديني: "مرسلات الزهري رديئة"([42]).
قال الذهبي: "ومِن أوهى المراسيل عندهم: مراسيلُ الحَسَن. وأوهى من ذلك: مراسيلُ الزهري، وقتادة، وحُمَيد الطويل، من صغار التابعين. وغالبُ المحقِّقين يَعُدُّون مراسيلَ هؤلاء مُعْضَلاتٍ ومنقطِعات"([43]).
وقال ابن القيم: "فمرسيل الزُّهْرِيّ عِنْدهم من أَضْعَف الْمَرَاسِيل، لَا تصلح للاحتجاج"([44]).
2- طريق مالك عن الزهري.
عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَكَانَ بَدْرِيًّا، وَكَانَ قَدْ تَبَنَّى سَالِمًا الَّذِي يُقَالُ لَهُ: سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، كَمَا تَبَنَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَيْدًا، وَأَنْكَحَ أَبُو حُذَيْفَةَ سَالِمًا، وَهُوَ يَرَى أِنَّهُ ابْنُهُ ابْنَةَ أَخِيهِ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَهِيَ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَفْضَلِ أَيَامَى قُرَيْشٍ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ مَا أَنْزَلَ: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] الْآيَةَ.
رَدَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أُولَئِكَ إِلَى أَبِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَبُوهُ رَدَّ إِلَى مَوَالِيهِ، فَجَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ وَهِيَ امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ وَهِيَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نَرَى أَنَّ سَالِمًا وُلِدَ، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ، وَأَنَا فَضْلٌ، وَلَيْسَ لَنَا إِلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ فِمَاذَا تَرَى؟ - قَالَ الزُّهْرِي: فَقَالَ لَهَا فِيمَا بَلَغَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: «أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، فَتَحْرُمُ بِلَبَنِهَا».
وَكَانَتْ تَرَاهُ ابْنًا مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَأَخَذَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةُ، فِيمَنْ كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِنَ الرِّجَالِ، فَكَانَتْ تَأْمُرُ أُمَّ كُلْثُومٍ ابْنَةَ أَبِي بَكْرٍ، وَبَنَاتَ أَخِيهَا يُرْضِعْنَ لَهَا مَنْ أَحَبَّتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِنَ الرِّجَالِ، وَأَبَى سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ، قُلْنَ: وَاللَّهِ مَا نَرَى الَّذِي أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهِ سَهْلَةَ إِلَّا رُخْصَةً فِي رَضَاعَةِ سَالِمٍ وَحْدَهُ"([45]).
فانظر إلى قول الزهري: "فَقَالَ لَهَا فِيمَا بَلَغَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ"، فالكلام إذًا من بلاغات الزهري المرسلة المنقطعة الضعيفة.
قال ابن رجب: "فإن الزهريَ كان كثيراً ما يروي الحديث، ثم يدرجُ فيه أشياءَ، بعضها مراسيلُ، وبعضها من رأيه وكلامه"([46]).
3- طريق ابن جريج:
وفي طريق ابن جريج قرينة واضحة على أن الزهري هو الذي أرسل تلك الفتوى، ولم يسندها قط، وذلك لأنها تبين أن كتاب الزهري ليس فيه إلا قصة سالم، وليس فيه فتوى أم المؤمنين، وبيان ذلك كالتالي:
في (مصنف عبد الرزاق) قال: "أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ تَبَنَّى سَالِمًا وَهُوَ مَوْلَى امْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، كَمَا تَبَنَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَيْدًا، وَكَانَ مَنْ تَبَنَّى رَجُلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ دَعَاهُ النَّاسُ ابْنَهُ، وَوَرِثَ مِنْ مِيرَاثِهِ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [الأحزاب: 5] فَرُدُّوا إِلَى آبَائِهِمْ، وَمَنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ أَبٌ، فَمَوْلًى وَأَخٌ فِي الدِّينِ، فَجَاءَتْ سَهْلَةُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا يَأْوِي مَعِي، وَمَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ وَيَرَانِي فَضْلًا، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ مَا عَلِمْتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ»، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ"([47]).
فهنا الفتوى المنسوبة لأم المؤمنين لم تُذكر في الرواية، وهذه الرواية منقولة من كتاب الزهري نفسه؛ لأن ابن جريج كان عنده كتب الزهري ولم يسمع منه. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: "لَمْ أَسْمَعْ مِنَ الزُّهْرِيِّ، إِنَّمَا أَعْطَانِي جُزْءاً كَتَبتُهُ، وَأَجَازَهُ لِي"([48]).
وبه نتيقن أن الفتوى المنسوبة لأم المؤمنين لم يسندها الزهري، وإلا لأثبتها في كتابه، فثبت من ذلك أن كل رواية تأتي عن الزهري، وليس فيها فصل بين الرواية والفتوى، فإنها تكون مدرجة من كلام الزهري.
والمدرج كما عرَّفه الذهبي: "هي ألفاظٌ تقعُ من بعض الرواة متصلةً بالمَتْن، لا يبِينُ للسامع إلا أنها من صُلْبِ الحديث. ويَدلُّ دليلٌ عَلَى أنها مِن لفظِ راوٍ، بأن يأتي الحديثُ مِن بعضِ الطرق بعبارةٍ تَفْصِلُ هذا من هذا"([49]).
ومن طرق معرفة المدرج: أن يصرح بعض الرواة بالفصل، كما هو حاصل هنا في روايتي معمر ومالك عن الزهري، أو أن يقتصر بعض الرواة على الأصل فقط كما هي رواية ابن جريج، وكما سيأتي في رواية أحمد وإسحاق ابن راهويه الآتي ذكرهما.
قال الجزائري: "وَمن ذَلِك - أي من طرق معرفة المدرج- تَصْرِيح بعض الروَاة بِالْفَصْلِ وَذَلِكَ بإضافته لقائله ويتقوى باقتصار بعض الروَاة على الأَصْل"([50]). ولذلك فقد روى الإمام أحمد رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهري _والتي فيها ذكر الفتوى_ لكنه حذفها واكتفى بالأصل.
قال الإمام أحمد: "حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنَّ سَالِمًا كَانَ يُدْعَى لِأَبِي حُذَيْفَةَ، وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَنْزَلَ كِتَابَهُ {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] فَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنَا فُضُلٌ، وَنَحْنُ فِي مَنْزِلٍ ضَيِّقٍ، فَقَالَ: "أَرْضِعِي سَالِمًا تَحْرُمِي عَلَيْهِ"([51]).
فهذه رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهري بدون الفتوى المنسوبة لأم المؤمنين والتي في مصنف عبد الرزاق، وقد كان الإمام أحمد على علم برواية المصنف([52]).
قَال الأثرم أيضًا: سمعت أبا عَبد اللَّهِ يسأل عن حديث النار جبار؟ فقال: هذا باطل ليس من هذا شيء، ثم قال: ومن يحدث به عن عبد الرزاق؟ قلت: حَدَّثَنِي أحمد بن شبويه. قال: هؤلاء سمعوا بعدما عمي، كان يلقن فلقنه، وليس هو في كتبه، وقد أسندوا عنه أحاديث ليست في كتبه كان يلقنها بعدما عمي"، فهذا دليل علم الإمام أحمد برواية عبد الرزاق بالفتوى المدرجة، ولكنه تركها عمدا لعلمه أنها لا تصح.
وهو دليل على أن الإمام أحمد يرى بطلان الفتوى المنسوبة إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ولذلك حذفها. وكذلك حذف إسحاق بن راوية كلام الزهري لما روى رواية معمر:
في مسند إسحاق: "أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ سَالِمًا يُدْعَى لِأَبِي حُذَيْفَةَ، وَيَأْوِي مَعَهُ فَيَدْخُلُ عَلَيَّ فَيَرَانِي فُضُلًا، وَنَحْنُ فِي مَنْزِلٍ ضَيِّقٍ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5] الْآيَةُ. فَقَالَ: أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ"([53]).
فاقتصار إسحاق على ذكر الرواية دون الفتوى، دليل على أنها مدرجة، وأنه لا يرى صحتها.
قال الحافظ: "والطرق إلى معرفة كونه مدرجا: أن تأتي رواية مفصلة للرواية المدرجة وتتقوى الرواية المفصلة، بأن يرويه بعض الرواة مقتصرا على إحدى الجملتين".([54])
فهذا دليل تضعيف من هؤلاء الأعلام لتلك الفتوى المنسوبة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
رابعًا: سبب توهم الزهري وغيره من الفقهاء أن أم المؤمنين عائشة أفتت بتلك الفتوى، أن الزهري وصلته رواية أمر أم المؤمنين بإرضاع سالم ليدخل عليها، وذلك بدون تحديد لعمره ساعتها.
عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ عَائِشَةَ، «أَمَرَتْ أُمَّ كُلْثُومٍ، أَنْ تُرْضِعَ سَالِمًا، فَأَرْضَعَتْهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، ثُمَّ مَرِضَتْ، فَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ سَالِمٌ عَلَى عَائِشَةَ"([55]).
فهذه الرواية مبهمة ليس فيها تحديد سن سالم بن عبد الله بن عمر، فظن الزهري أنه كان كبيرًا.
لكن الصواب: أن سالمًا في هذا الوقت كان في سن الرضاع؛ ولذلك روى في مصنف عبد الرزاق نفسه أنه كان صغيرًا.
في (مصنف عَبْدُ الرَّزَّاقِ) قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ نَافِعًا، يُحَدِّثُ، أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَرْسَلَتْ بِهِ إِلَى أُخْتِهَا أُمِّ كُلْثُومٍ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ لِتُرْضِعَهُ عَشْرَ رَضَعَاتٍ لِيَلِجَ عَلَيْهَا إِذَا كَبِرَ، فَأَرْضَعَتْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَرِضَتْ، فَلَمْ يَكُنْ سَالِمٌ يَلِجُ عَلَيْهَا"([56]).
ويؤيد هذا أيضًا أن رواية موطأ مالك صرحت بصغره:
مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ؛ أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ، أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَرْسَلَتْ بِهِ وَهُوَ يَرْضَعُ، إِلَى أُخْتِهَا أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَتْ: أَرْضِعِيهِ عَشْرَ رَضَعَاتٍ، حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيَّ. قَالَ سَالِمٌ: فَأَرْضَعَتْنِي أُمُّ كُلْثُومٍ ثَلاَثَ رَضَعَاتٍ، ثُمَّ مَرِضَتْ، فَلَمْ تُرْضِعْنِي غَيْرَ ثَلاَثِ مِرَارٍ، فَلَمْ أَكُنْ أَدْخُلُ عَلَى عَائِشَةَ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ، لَمْ تُتِمَّ لِي عَشْرَ رَضَعَاتٍ"([57]).
وإسنادهما صحيح، لكن الزهري ظن أن سالمًا كان كبيرًا بسبب الرواية المبهمة فقال: "فَأَخَذَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةُ، فِيمَنْ كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِنَ الرِّجَالِ، فَكَانَتْ تَأْمُرُ أُمَّ كُلْثُومٍ ابْنَةَ أَبِي بَكْرٍ، وَبَنَاتَ أَخِيهَا يُرْضِعْنَ لَهَا مَنْ أَحَبَّتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا مِنَ الرِّجَالِ"([58]).
وعليه فرواية عبد الرزاق ومالك تؤكدان خطأ الزهري؛ وتبع الزهري في هذا كثير من أهل العلم فنقلوا عبارته كما نقلها ابن عبد البر، فقال بعد ذكر الرواية: "وَالَّذِي عَلَيْهِ جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ رَضَاعَةُ الْكَبِيرِ وَالتَّحْرِيمُ بِهَا وَهُوَ مَذْهَبُ عَائِشَةَ مِنْ بَيْنِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَمَلَتْ عَائِشَةَ حَدِيثَهَا هَذَا فِي سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ عَلَى الْعُمُومِ، فكانت تأمر أختها أُمَّ كُلْثُومٍ وَبَنَاتِ أَخِيهَا أَنْ يُرْضِعْنَ مَنْ أَحَبَّتْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا، وَصَنَعَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ بِسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَمَرَتْ أُمَّ كُلْثُومٍ فَأَرْضَعَتْهُ فَلَمْ تُتِمَّ رَضَاعَهُ، فَلَمْ يدخل عليها"([59]).
فأنت ترى أنه نقل عبارة الزهري بنصها والتي سبق تضعيفها.
وتتابع كثير من الفقهاء على ذلك، حتى اشتهر ذلك، بعد أن لم يكن معروفا في زمان ابن أبي مليكة، كما سبق تقريره.
خامسًا: توجيه الروايات التي فَهم منها بعض العلماء أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أفتت برضاع الكبير.
قلنا قبل ذلك أن قول الفقيه حتى يُنسب إليه، فلابد أن يكون في صريح قوله ما يدل عليه، ولما لم يوجد هذا: اختلف العلماء في حقيقة مذهب أم المؤمنين، لكن هناك عدة روايات قد يُفهم منها أنها كانت تفتي برضاع الكبير، لكن ليس في تلك الروايات تصريح بذلك، فإليك الروايات مع توجيه كل رواية.
الرواية الأولى: عند مسلم قال: "وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ، لِعَائِشَةَ، إِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْكِ الْغُلَامُ الْأَيْفَعُ، الَّذِي مَا أُحِبُّ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيَّ، قَالَ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَا لَكِ فِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُسْوَةٌ؟ قَالَتْ: إِنَّ امْرَأَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ سَالِمًا يَدْخُلُ عَلَيَّ وَهُوَ رَجُلٌ، وَفِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْهُ شَيْءٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَرْضِعِيهِ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْكِ"([60]).
فهذه القصة ما هي إلا حكاية حال وواقعة عين، فنحن لا ندري هل هذا الغلام أرسلت به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ليرضع وهو طفل صغير أم لا؟!
أو أن أم سلمة كانت تكره إدخال أقاربها من الرضاعة عليها؛ فلذلك أنكرت على أم المؤمنين عائشة، فأجابتها عائشة بأكبر مما أنكرته وفَعَلَه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي أن يدخل سالم على سهلة، بمجرد رضاعه وهو كبير، فما الظن لو كان هذا الغلام قد رضع صغيرا في سن الرضاع؟
ولعل الخلاف بين أم سلمة وعائشة _رضي الله عنهما _، أن الأخيرة كانت ترى جواز إرضاع الصغير عمدا لتحصل المحرمية به؛ وأم سلمة كانت لا ترى ذلك إلا اتفاقا بدون ترتيب وقصد إثبات المحرمية، كما في قضية نكاح المحلل، فإنه لو حصل باتفاق مسبق وتعمد كان باطلا، ولو حصل عرضا كان صحيحا، بدون اتفاق ونية مسبقة كان صحيحا، فلعل أم سلمة كانت تنكر حصول المحرمية إلا بالإرضاع عرضا، لا اتفاقا، بخلاف أم المؤمنين عائشة، فهذه كلها احتمالات واردة.
قال في (حاشيتي قليبوبي وعميرة): "قَاعِدَةٍ ذَكَرهَا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.... فِي الْوَقَائِعِ الْفِعْلِيَّةِ _وَهِيَ وَقَائِعُ الْأَحْوَالِ_ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا الِاحْتِمَالُ، كَسَاهَا ثَوْبَ الْإِجْمَالِ وَسَقَطَ بِهَا الِاسْتِدْلَال"([61]).
وقال الكاساني: "فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مَعَ الِاحْتِمَالِ، لِأَنَّ حِكَايَةَ الْحَالِ لَا عُمُومَ لَهُ"([62])،
وقال ابن القيم: "وَإِذَا احْتَمَلَتْ الْقِصَّةُ هَذَا وَهَذَا وَهَذَا: لَمْ يَجْزِمْ بِوُقُوعِ أَحَدِ الِاحْتِمَالَاتِ إلَّا بِدَلِيلٍ"([63]).
وقال أيضا: "فَهِيَ وَاقِعَةُ عَيْنٍ ...وَهَذَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا... وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْجَزْمِ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ عَلَى التَّعْيِينِ...فَلَا سَبِيلَ إِلَى تَرْكِ أَحَادِيثِ النَّهْيِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ بِهَذَا الْمُحْتَمَلِ"([64]).
فكل الاحتمالات التي ذكرناها سابقا واردة وقوية.
وأقوى الاحتمالات عندي في هذه الرواية: أن أم المؤمنين عائشة استفادت من قصة سالم جواز الإرضاع لمجرد إدخال ذلك الطفل بعدما يكون رجلا عليها، لتنقل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى التابعين دون حرج ولا مشقة، فأنكرت ذلك أم سلمة عليها، والدليل مع أم المؤمنين عائشة بلا شك.
فإذا قال البعض: أن الرواية أيضا تحتمل أن يكون هذا الغلام الأيفع قد رضع بعدما جاوز السنتين، فنقول: فضلا عن أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال، فإن ما ثبت من الأدلة الصريحة السابقة يرد هذا الاحتمال.
الرواية الثانية:
قال مسلم: "حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ، أَنَّ أُمَّهُ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّهَا أُمَّ سَلَمَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَتْ تَقُولُ: " أَبَى سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُدْخِلْنَ عَلَيْهِنَّ أَحَدًا بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ، وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ: وَاللهِ مَا نَرَى هَذَا إِلَّا رُخْصَةً أَرْخَصَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَالِمٍ خَاصَّةً، فَمَا هُوَ بِدَاخِلٍ عَلَيْنَا أَحَدٌ بِهَذِهِ الرَّضَاعَةِ، وَلَا رَائِينَا"([65]).
هذه الرواية أيضا ليس فيها تصريح بأن أم المؤمنين عائشة كانت ترى جواز رضاع الكبير أو تفتي به، كل ما في الأمر هو تأكيد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة أنهن يرون عدم العمل بحديث سالم، وأنه خاص بسالم رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأنهن يردن من أم المؤمنين عائشة ألا تحدِّث بهذا الحديث حتى لا يظن الجاهل أنه ليس خاصا، ومن المعلوم أن العالم لا يجوز له أن يحدِّث بكل ما سمع، وقد: "قَالَ عَلِيٌّ: «حَدِّثُوا النَّاسَ، بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ، اللَّهُ وَرَسُولُهُ"([66]).
وذكر الشيعة في كتبهم تبريرات كثيره لكتمان أئمتهم للعلم، ومن ذلك ما ذكره الجزائري قال: "وإما -أي كتمان العلم- لكون الكشف مفسدة للمستمعين وإن كان لا يتعسر عليهم إدراكه، وسببا لافتتانهم، أو لتفويت مصلحة راعاها الشارع الحكيم في التعبير عن بعض المسميات بغير أسمائها، وتصوير بعض المعاني في غير قوالبها المعروفة تمثيلا ورمزا، لكون ذلك أوقع في النفوس وأدخل في حصول الغرض المطلوب، من الترغيب والترهيب والوعد والوعيد، ومن ذلك: بيان حقيقة الكسوف والخسوف على النهج المقرر في الهيئة، وتأويل الملائكة الجاذبة الدافعة بروحانيات الشمس، والبحر المظلم بظل الأرض، ونحو ذلك؛ وهذا النوع عريض جدا ويندرج تحته كثير من متشابهات الكتاب والسنة، إلا أن الخوض فيه مما يختص بأهله.
وكان أكابر الصحابة مع ما هم فيه من تقارب المنازل والتشارك في بركة الصحبة، يستخفى بعضهم من بعض بسره، وفي الحديث: "لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله"؛ ولقد آخى رسول الله بينهما فما ظنك بساير الناس؟
وعن أمير المؤمنين (ع) : "اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة" ؛ وعنه (ع) : "حملت عن النبي صلى الله عليه وآله دعامين من العلم، أما واحدا فبثثته فيكم، وأما الآخر: فلو بثثته قطع مني هذا البلعوم".. وسئله كميل بن زياد النخعي: وقد بلغك جلالة قدره عن الحقيقة؟ فقال (ع): مالك والحقيقة ؟ قال أولست صاحب سرك؟ قال: بلى؛ ولكن يرشح عليك ما يطفح مني الحديث".
ومما نسبه المصنف في كثير من مسفوراته إلى علي بن الحسين صلوات الله عليهما وغيره إلى غيره: "إني لأكتم من علمي جواهره، كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا". وقد تقدم في هذا أبو حسن إلى الحسين ووصى قبله الحسنا يا رب جوهر علم لو أبوح به * لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا - ولاستحل رجال مسلمون دمي * يرون أقبح ما يأتونه حسنا" ([67]).
وقد كتم حذيفة أسماء المنافقين، ومن هذا الباب خاف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من التحديث بقصة سالم، خشية أن يتوهم الناس أن رضاع الكبير مشروع، وتتحقق به المحرمية، فتنقلب المحرمات إلى مباحات والعكس، وفي هذا فساد عظيم، ويدل على هذا الخوف: قصة ابن أبي مليكة لما حدثه القاسم بقصة سالم، فخاف أن يحدث الناس بها لمدة سنة، لأنها قد تُفهم خطئا، ويظن البعض أنها ليست خاصة بسالم فيحصل من ذلك شر كبير.
في رواية مسلم: "أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو جَاءَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ سَالِمًا - لِسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ - مَعَنَا فِي بَيْتِنَا. وَقَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ، وَعَلِمَ مَا يَعْلَمُ الرِّجَالُ. قَالَ: «أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ» قَالَ: " فَمَكَثْتُ سَنَةً أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا لَا أُحَدِّثُ بِهِ وَهِبْتُهُ ثُمَّ لَقِيتُ الْقَاسِمَ فَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ حَدَّثْتَنِي حَدِيثًا مَا حَدَّثْتُهُ بَعْدُ. قَالَ: فَمَا هُوَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ قَالَ فَحَدِّثْهُ عَنِّي، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْنِيهِ".([68])
فالحاصل: أن أمهات المؤمنين خشين أن يحدثن بقصة سالم كحال ابن أبي مليكة، وكانت أم المؤمنين عائشة تحدث به، فسارعت أم سلمة إلى التنبيه هي وأمهات المؤمنين: وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ: وَاللهِ مَا نَرَى هَذَا إِلَّا رُخْصَةً أَرْخَصَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَالِمٍ خَاصَّةً، فَمَا هُوَ بِدَاخِلٍ عَلَيْنَا أَحَدٌ بِهَذِهِ الرَّضَاعَةِ، وَلَا رَائِينَا "([69]).
هذا هو التفسير الذي يتناسب مع ما ثبت عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فضلا عن أن الرواية مجرد حكاية حال وواقعة عين؛ وليس فيها تفصيل قول أم المؤمنين عائشة؛ والاحتمالات تدخلها، فسقط بها الاستدلال.
لجأ الشيعة بعد ذلك إلى بعض أقوال الفقهاء، ونحن نتعرض لها سريعاً.
قالوا جاء في (فتح المنعم):" وكانت عائشة -رضي الله عنها- ترى أن إرضاع الكبير يحرمه، وأرضعت غلاماً فعلاً، وكان يدخل عليها"([70]).
والجواب عن قوله: "وكانت عائشة -رضي الله عنها- ترى أن إرضاع الكبير يحرمه" قد سبق تفصيلا.
وأما قوله: "وأرضعت غلاماً فعلاً، وكان يدخل عليها"، فعلى الرغم من أن هذا يحتاج إلى إسناد، إلا أننا تنزلا نقول: إن من فهم لغة العرب فلا شبهة عنده ألبتة، وذلك لأن الآمر بالفعل يُنسب إليه ذلك الفعل، ولا يشترط أن يكون هو الفاعل بنفسه، وهذا الذي يسمى في البلاغة بالمجاز العقلي، وهو إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير صاحبه لعلاقة، مع قرينة مانعة من إرادة الإسناد الحقيقي، ولا يكون إلا في التركيب.
كقولك:" أنبت الربيع البقل، وشفى الطبيب المريض، وكسا الخليفة الكعبة".([71])
وهو في القرآن كثير؛ كقوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2]. نُسبت الزيادة التي هي فعل الله إلى الآيات لكونها سببا فيها، وكذا قوله تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت: 23]، ومن هذا الضرب قوله: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} [القصص: 4] فإن الفاعل غيره، ونسب الفعل إليه؛ لكونه الآمر به، وكقوله: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} [الأعراف: 27] نُسب النزع الذي هو فعل الله تعالى إلى إبليس؛ لأن سببه أكل الشجرة، وسبب أكلها وسوسته ومقاسمته إياهما إنه لهما لمن الناصحين، وكذا قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28] ، نسب الإحلال الذي هو فعل الله إلى أكابرهم؛ لأن سببه كفرهم، وسبب كفرهم أمر أكابرهم إياهم بالكفر. ([72])
وفي حديث الغامدية التي زنت: "قَالَتْ: إِنَّهَا حُبْلَى مِنَ الزِّنَى، فَقَالَ: «آنْتِ؟» قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهَا: «حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِكِ»، قَالَ: فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ، قَالَ: فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «قَدْ وَضَعَتِ الْغَامِدِيَّةُ»، فَقَالَ: «إِذًا لَا نَرْجُمُهَا وَنَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ»، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: إِلَيَّ رَضَاعُهُ يَا نَبِيَّ الله، قَالَ: فَرَجَمَهَا" ([73]).
فهل لما قال الرجل إِلَيَّ رَضَاعُهُ ،كان هو الذي سيرضعه فعلا؟
وعليه، فالفعل قد نسب إليها لأنها الآمرة بالإرضاع لا أكثر.
وأما الغلام المقصود فلعله هو سالم، أو أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. قال ابن عبد البر: "وَأَرْضَعَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ أَبَا سَلَمَةَ فَكَانَ يَتَوَلَّجُ عَلَى عَائِشَةَ "([74]) فسواء كان أحد هذين أو غيرهم، فإن إرضاع الغلام لا يعني أنه كبير، وإلا فقد جاء في كتب الشيعة:
في (الكافي) عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر أو أبي عبد الله (عليهما السلام) قال: "إذا رضع الغلام من نساء شتى فكان ذلك عدة أو نبت لحمه ودمه عليه حرم عليه بناتهن كلهن"([75]).
وقال ابن البراج: "وإن أرضعت هذه المرأة غلاما، حرمت هي عليه وأولادها المنتسبون إليها"([76]).
فإذا كان المقصود بالغلام هو الذي جاوز الحولين، لزم أن الشيعة تقول برضاع الكبير.
أيضا مما شغَّب به الشيعة في هذا السياق قالوا: وقع في إسناد مسلم "عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ، رَضِيعِ عَائِشَةَ"([77]).
قالوا بحمق: فالمقصود :أنها رضي الله عنها ترضع الرجال!
والجواب: أن العرب يقولون رضيع فلان يعني أخوه من الرضاعة؛ قال الفيروزآبادي: "ورَضِيعُكَ: أخوكَ من الرَّضاعةِ"([78]).
فالمعنى: أخوها من الرضاع؛ وهو عبد الله بن يزيد، تَابِعِيّ بِاتِّفَاق الْأَئِمَّة، وَكَانَت أمه أرضعت عَائِشَة، عاشت بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فولدته فَلذَلِك قيل لَهُ: رَضِيع عَائِشَة"([79]).
فالشبهة إنما جاءتهم من جهلهم بلغة العرب، مع سوء الفهم، وسواد الطوية.
سادسًا: قد جاءت روايات في كتب الشيعة تقول برضاع الكبير:
في (تهذيب الأحكام) بسنده عن: "داود بن الحصين عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الرضاع بعد الحولين قبل أن يفطم يحرم".([80])
لكن الطوسي كالعادة ذبح الرواية بالتقية وبغيرها، فقال:" فهذا خبر شاذ لا يعارض ما قدمناه من الاخبار لكثرتها، ويجوز أن يكون خرج مخرج التقية لأنه مذهب لبعض العامة"([81]).
وفي (الاستبصار) عن: "محمد بن أحمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن العباس بن عامر عن داود ابن الحصين عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال الرضاع بعد حولين قبل أن يُفطَمَ يُحَرِّمُ.
قال الطوسي:" لأن هذا الخبر موافق للعامة وقد خرج مخرج التقية"([82]).
وفي (من لا يحضره الفقيه) قال: "وروى داود بن الحصين عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " الرضاع بعد حولين قبل أن يفطم يحرم "([83]).
فهذه الروايات أسانيدها عندهم صحيحة، ولذلك لجأوا إلى أداة ذبح الحق عندهم وهي التقية!
وجاء ابن الجنيد فقال: إذا أرضعته بعد تمام الحولين، فإنه ينشر الحرمة طالما لم يتخلل فطام، قال الجواهري: "وخلاف ابن الجنيد حيث نشر الحرمة بعد الحولين ما لم يتخلل فطام"([84]).
وفي فتاوى ابن الجنيد: "مسألة ٢ : شرط علماؤنا أجمع إلّا ابن الجنيد أن يكون الرضاع قبل أن يبلغ سنّ المرتضع كمال الحولين ( الى أن قال ) :
وقال ابن الجنيد : إذا كان بعد الحولين ولم يتوسط بين الرضاعين فطام بعد الحولين حرم ( الى أن قال ) :
احتجّ ابن الجنيد : بما رواه ابن الحصين عن الصادق عليهالسلام قال : قال : الرضاع بعد الحولين قبل أن يفطم يحرّم"
اسم الکتاب : مجموعة فتاوى ابن الجنيد المؤلف : التيجاني السماوي، محمد الجزء : 1 صفحة : 246
بل وقد قالوا بأن مجرد شرب الصبي للبن تثبت به الحرمة.
في (من لا يحضره الفقيه) قال: "وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع وَجُورُ الصَّبِيِّ اللَّبَنَ بِمَنْزِلَةِ الرَّضَاعِ" ([85])، وجاء صريحا في إرضاع الرجل الكبير:
قال البحراني: "في الموثق عن أبي عبد الله عليه السلام " قال: إذا رضع الرجل من لبن امرأة حرم عليه كل شيء من ولدها، وإن كان الولد من غير الرجل الذي كان أرضعته بلبنه، وإذا رضع من لبن رجل حرم عليه كل شيء من ولده، وإن كان من غير المرأة التي أرضعت"([86]).
وروى الكليني بسنده عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ لَمَّا وُلِدَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) مَكَثَ أَيَّاماً لَيْسَ لَهُ لَبَنٌ فَأَلْقَاهُ أَبُو طَالِبٍ عَلَى ثَدْيِ نَفْسِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ لَبَناً فَرَضَعَ مِنْهُ أَيَّاماً حَتَّى وَقَعَ أَبُو طَالِبٍ عَلَى حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ فَدَفَعَهُ إِلَيْهَا"([87])
بل وجاء عندهم ما هو أغرب من ذلك، وهو رضاعة الرجل من الرجل!
قال ابن شهر اشوب:" وصار علي ابنه -أي النبي صلى الله عليه وسلم- من وجهين، أولهما أنه رباه حتى قالت فاطمة بنت أسد كنت مريضة فكان محمد يمص عليا لسانه في فيه فيرضع بإذن الله..."([88]).
ويبدو أن نبيهم لم يكتفِ بإرضاع علي من لسانه، فأرضع الحسين من إصبعه، ومن لسانه!
قال الكليني: "مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو الزَّيَّاتِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ إِنَّ جَبْرَئِيلَ (عليه السلام) نَزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) فَقَالَ لَهُ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِمَوْلُودٍ يُولَدُ مِنْ فَاطِمَةَ تَقْتُلُهُ أُمَّتُكَ مِنْ بَعْدِكَ ... وَلَمْ يَرْضَعِ الْحُسَيْنُ مِنْ فَاطِمَةَ (عليها السلام) وَلَا مِنْ أُنْثَى كَانَ يُؤْتَى بِهِ النَّبِيَّ فَيَضَعُ إِبْهَامَهُ فِي فِيهِ فَيَمُصُّ مِنْهَا مَا يَكْفِيهَا الْيَوْمَيْنِ وَ الثَّلَاثَ فَنَبَتَ لَحْمُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) مِنْ لَحْمِ رَسُولِ اللَّهِ وَ دَمِهِ وَلَمْ يُولَدْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ إِلَّا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ (عليه السلام) وَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ (عليه السلام).
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله) كَانَ يُؤْتَى بِهِ الْحُسَيْنُ فَيُلْقِمُهُ لِسَانَهُ فَيَمُصُّهُ فَيَجْتَزِئُ بِهِ وَلمْ يَرْتَضِعْ مِنْ أُنْثَى "([89])
روى الطوسي في الغيبة بسنده عن موسى بن محمد بن جعفر، قال: "حدثتني حكيمة بنت محمد عليه السلام بمثل معنى الحديث الأول إلا أنها قالت: فقال لي: أبو محمد عليه السلام يا عمة إذا كان اليوم السابع فأتينا. فلما أصبحت جئت لأسلم على أبي محمد عليه السلام وكشفت عن الستر لا تفقد سيدي فلم أره، فقلت له: جعلت فداك ما فعل سيدي فقال: يا عمة استودعناه الذي استودعت أم موسى. فلما كان اليوم السابع جئت فسلمت وجلست فقال: هلموا ابني، فجئ بسيدي وهو في خرق صفر ففعل به كفعله الأول، ثم أدلى لسانه في فيه كأنما يغذيه لبنا وعسلا، ثم قال: تكلم يا بني فقال عليه السلام: أشهد أن لا إله إلا الله وثنى بالصلاة على محمد وعلى الأئمة عليهم السلام حتى وقف على أبيه، ثم قرأ (بسم الله الرحمن الرحيم ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين - إلى قوله - ما كانوا يحذرون)". ([90])
وبعد كل هذا فنقول: إن دين الشيعة يقول بإباحة رضاعة كل كبير من أي امرأة غير محارمه بمجرد أن يتفق على الأجرة، وهو ما يسمونه بزواج المتعة، وفيه يجوز للرجل أن يستمتع بالمرأة حسب الاتفاق، فإن أحلت له صدرها جاز أن يرضعه، فإن أحلت له فرجها جاز له كل شيء.
روى الكليني بسنده عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ:" قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا قَدْ رَوى عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ: إِذَا أَحَلَّ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ جَارِيَتَهُ، فَهِيَ لَهُ حَلَالٌ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، يَا فُضَيْلُ. قُلْتُ لَهُ: فَمَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ عِنْدَهُ جَارِيَةٌ لَهُ نَفِيسَةٌ وَهِيَ بِكْرٌ، أَحَلَّ لِأَخِيهِ مَا دُونَ فَرْجِهَا، أَلَهُ أَنْ يَقْتَضَّهَا؟
قَالَ: «لَا، لَيْسَ لَهُ إِلاَّ مَا أَحَلَّ لَهُ مِنْهَا، وَلَوْ أَحَلَّ لَهُ قُبْلَةً مِنْهَا، لَمْ يَحِلَّ لَهُ مَا سِوى ذلِكَ. قُلْتُ: أَرَأَيْت، إِنْ أَحَلَّ لَهُ مَا دُونَ الْفَرْجِ، فَغَلَبَتْهُ الشَّهْوَةُ، فَاقْتَضَّهَا؟ قَالَ: لا يَنْبَغِي لَهُ ذلِكَ. قُلْتُ: فَإِنْ فَعَلَ، أَيَكُونُ زَانِياً؟ قَالَ: لَا، وَلكِنْ يَكُونُ خَائِناً، وَيَغْرَمُ لِصَاحِبِهَا عُشْرَ قِيمَتِهَا إِنْ كَانَتْ بِكْراً، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِكْراً فَنِصْفَ عُشْرِ قِيمَتِهَا. قَالَ الْحَسَنُ بْنُ مَحْبُوبٍ: وَحَدَّثَنِي رِفَاعَةُ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام مِثْلَهُ إِلاَّ أَنَّ رِفَاعَةَ قَالَ: الْجَارِيَةُ النَّفِيسَةُ تَكُونُ عِنْدِي"([91]).
وجوَّزوا أن تتمتع البكر بغير إذن وليها، فإذا جاز للرجل أن ينكح البكر متعة، جاز له أن يرضع منها:
عن سعدان بن مسلم قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): لا بأس بتزويج البكر إذا رضيت من غير إذن أبيها. ([92])
وفي (صراط النجاة): "سؤال 1068: ما هو حكم شرب حليب المرأة سواء كان الشارب زوجها أم شخصا آخر؟ الخوئي: لا بأس بذلك في نفسه"([93]).
وقال بذلك جعفر التبريزي: "سؤال [206] عندما يقوم الرجل بجماع زوجته يقوم بمص الثديين كمداعبة، وهي تقوم في المقابل بهذه الأشياء كالمص في جميع أجزاء الجسم (من قبل الزوجين)، فالرجاء توضيح لنا هذه المسألة، وعن الأشياء المباحة عند الجماع والأشياء المحرمة أيضا عند الجماع؟
باسمه تعالى؛ لا بأس للزوج بالاستمتاع بسائر جسد زوجته إلا الوطء في الدبر، فإن الأحوط تركه مطلقا. كذلك يجوز للزوجة الاستمتاع بجسد زوجها، والله العالم"([94]).
وفي سؤال آخر:" سؤال [210] ما هو حكم الشرب من لبن الزوجة بقصد الاستمتاع؟ وماذا يجب على من فعل ذلك؟
باسمه تعالى؛ لم يقم دليل على حرمته، والله العالم"([95]).
بل وللمرأة أن تمص ذكر الرجل بمجرد الاتفاق على الأجرة، قال التبريزي: "سؤال [204] تنتشر في بعض أوساط المتزوجين ممارسة مص ذكر الزوج من قبل الزوجة بفمها، فهل هذه الممارسة بحد ذاتها جائزة؟
وهل بلع المذي الناتج من هذه الممارسة جائز، كونه قد تبتلعه المرأة قهرا أثناء هذه الممارسة، مع ملاحظة كون المذي طاهر في حد ذاته كما أفاد به علماؤنا الأعلام، رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين؟
باسمه تعالى؛ لا بأس بالفعل المذكور، والمذي طاهر بخلاف المني فهو نجس لا يجوز بلعه، والله العالم"([96]).
فأي شيء أكبر؟! أن يرضع الرجل من امرأة بقصد حصول حرمة، أم أن يرضع من كل امرأة، ومن كل مكان في جسدها، وترضع هي منه بمجرد الاتفاق على ذلك، هذا دين يبيح كل فجور وعهر ثم يشغبون على الطاهرين بما لو صح عنهم لما كان فيه كبير شين فضلا عن كونه لم يصح، فالحمد لله على الإسلام والسنة.
والحمد الله رب العالمين
وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
([1]) موطأ مالك، (2/ 605).
([2]) الطبقات الكبرى، ابن سعد، (8/271).
([3]) كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي (1/270).
([4]) المخصص، ابن سيده، (4/370).
([5]) الاستذكار، ابن عبد البر، (6/255).
([6]) الأم للشافعي، (5/33).
([7]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، الكاساني، (4/8).
([8]) صحيح مسلم، (2/1078).
([9]) صحيح مسلم، (2/1078).
([10]) الحَنَفيَّة: المبسوط للسرخسي (5/121)؛ تبيين الحقائق للزيلعي (2/182)، والمالِكيَّةِ: الشرح الكبير للدردير، (2/503)؛ منح الجليل لعليش (4/374)، والشَّافِعيَّةِ: مغني المحتاج للشربيني (3/416)؛ الغرر البهية لزكريا الأنصاري (4/374)، والحَنابِلةِ: المبدع لبرهان الدين ابن مفلح (8/146)؛ كشاف القناع للبهوتي (5/445).
([11])الاستذكار، ابن عبد البر، (6/256).
([12]) زاد المعاد، ابن القيم، (5/513).
([13]) عارضة الأحوذي، ابن العربي (1/85).
([14]) شرح مختصر الطحاوي، (5/268).
([15]) زاد المعاد، ابن القيم، (5/515).
([16]) المحلى، ابن حزم، (10/202).
([17]) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (34/55).
([18]) صحيح مسلم، (2/1086).
([19])زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن القيم، (5/515).
([20]) مصنف عبد الرزاق الصنعاني، (7/469).
([21]) موطأ مالك، ت الأعظمي، (4/870).
([22]) صحيح البخاري، (7/10).
([23]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، القرطبي، (4/ 188).
([24]) مسند ابن الجعد، (ص46).
([25]) مسند الموطأ للجوهري، (ص172).
([26])التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح (1/ 25).
([27]) مسند الموطأ للجوهري، (ص172).
([28]) صحيح مسلم، (2/1086)؛ مصنف عبد الرزاق الصنعاني، (7/458).
([29]) موطأ مالك، (2/ 605)، مشاهير علماء الأمصار، ابن حبان (ص135).
([30]) الاستذكار، ابن عبد البر، (6/255).
([31]) أحكام القرآن للجصاص، (1/497).
([32]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، الكاساني، (4/6).
([33]) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (34/60).
([34]) مصنف عبد الرزاق الصنعاني، (7/458).
([35]) تهذيب التهذيب، ابن حجر، (7/203).
([36]) تاريخ دمشق لابن عساكر، (40/378).
([37]) سير أعلام النبلاء، الذهبي، (5/86).
([38]) سير أعلام النبلاء، الذهبي، (5/86).
([39]) مصنف عبد الرزاق الصنعاني، (7/459).
([40]) سير أعلام النبلاء، الذهبي، (5/338).
([41]) سير أعلام النبلاء، الذهبي، (5/339).
([42]) تاريخ دمشق لابن عساكر، (55/369).
([43]) الموقظة في علم مصطلح الحديث، الذهبي، (ص40).
([44]) تحفة المودود بأحكام المولود، ابن القيم، (ص170).
([45]) مصنف عبد الرزاق الصنعاني، (7/459).
([46]) فتح الباري لابن رجب، (8/12).
([47]) مصنف عبد الرزاق الصنعاني، (7/460).
([48]) سير أعلام النبلاء، الذهبي، (6/332).
([49]) الموقظة في علم مصطلح الحديث، الذهبي، (ص53).
([50]) توجيه النظر إلى أصول الأثر، طاهر الجزائري، (1/411).
([51]) مسند أحمد، (43/86).
([52]) تهذيب الكمال في أسماء الرجال، (18/ 57).
([53]) مسند إسحاق بن راهويه، (2/200).
([54]) النكت على كتاب ابن الصلاح، ابن حجر، (2/836).
([55]) مصنف عبد الرزاق الصنعاني، (7/469).
([56]) مصنف عبد الرزاق الصنعاني، (7/469).
([57]) موطأ مالك، ت الأعظمي، (4/870).
([58]) مصنف عبد الرزاق الصنعاني، (7/459).
([59]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، (8/256).
([60]) صحيح مسلم، (2/1077).
([61]) حاشيتا قليوبي وعميرة، (3/259).
([62]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، (6/121).
([63]) الطرق الحكمية، (ص196).
([64]) زاد المعاد في هدي خير العباد، (2/351-352).
([65]) صحيح مسلم، (2/1078).
([66]) صحيح البخاري، (1/37).
([67]) التحفة السنية (مخطوط)، السيد عبد الله الجزائري، (ص8).
([68]) صحيح مسلم، (2/1076).
([69]) صحيح مسلم، (2/1078).
([70]) فتح المنعم شرح صحيح مسلم، موسى شاهين لاشين، (5/622).
([71]) بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة، عبد المتعال الصعيدي، (1/57).
([72]) انظر: بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة، عبد المتعال الصعيدي، (1/61).
([73]) صحيح مسلم، (3/1321).
([74]) التمهيد، ابن عبد البر، (7 / 61).
([75]) الكافي، الكليني (5/446)، وصححها النراقي في مستند الشيعة (16/270).
([76]) المهذب، القاضي ابن البراج، (2/190).
([77]) صحيح مسلم، (2/654).
([78]) القاموس المحيط، (ص722).
([79]) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، بدر الدين العيني، (20/97).
([80]) تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، (7 /318).
([81])تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، (7 /318).
([82]) الاستبصار، الشيخ الطوسي، (3 /198).
([83]) من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، (3/476).
([84]) جواهر الكلام، الشيخ الجواهري، (29/300).
([85]) من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، (3/479).
([86]) الحدائق الناظرة، البحراني، (23 /320)؛ وانظر: الاستبصار، الطوسي، (3/201)؛ وسائل الشيعة، الحر العاملي، (20 /403 – 404).
([87]) الكافي، الكليني، (1/448).
([88]) مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، (2/18 ), وبحار الأنوار للمجلسي، (38 /318).
([89]) الكافي، الكليني، (1/464 – 465).
([90]) الغيبة، الطوسي، (ص 237).
([91]) الكافي، (11/60)، وقال المجلسي في (مرآة العقول) (20 /258) الحديث الأول: صحيح، والسند الثاني أيضا صحيح.
([92]) سند هذا الحديث، معتبر حاشية الوافي، الوحيد البهبهاني (1/563( .
([93]) صراط النجاة، الميرزا جواد التبريزي، (1/389).
([94]) شعائر حسيني جعفر تبريزي، (6/80).
([95]) شعائر حسيني جعفر تبريزي، (6/82).
([96]) شعائر حسيني جعفر تبريزي، (6/79-80).