اتهمَ الشيعةُ أهلَ السنة بأنهم يعتقدون العصمة في أبي بكر؛ كونه له سنة كالنبي كما ورد في حديث: «عَلَيْكُمْ بسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ..» وغيره مما استدلوا به، قالوا: فهذا دليل على أن للخلفاء عندكم سنةً تشريعيةً متبعةً، وهذا يلزم منه العصمة([1]).
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولاً: الرواياتُ التي استدلوا بها صحيحة، ومنها ما رواه الإمام أحمد بسنده أن الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ أنَّ النَّبيَّ قَالَ: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ»([2]).
وفي سنن ابن ماجه عنه قال: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ ذَاتَ يَوْمٍ ... «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْأُمُورَ الْمُحْدَثَاتِ، فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»([3]).
وعليه فالرواية صحيحة الإسناد، أما من ناحية المتن فلا تدل على ما زعمه الشيعة من أن لأبي بكر أو للخلفاء سنةً تشريعيةً؛ إذ ليس فيها إلا الأمر باتباع طريقةِ الخلفاء الراشدين في نقل الكتابِ والسنةِ وفي فهمِهم لهما، وقد أمرَنا اللهُ في القرآن باتباع المهاجرين والأنصار فقال: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ {التوبة:100}.
فهذا الأمر بالاتباع لم يوجب لهم العصمة ولا السنة التشريعية كما زعم الشيعة.
قال علَّامتهم الطباطبائي: «وإذ ذكر الله سبحانه ثالث الأصناف الثلاثة بقوله: ﴿وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ﴾ ولم يقيده بتابعي عصر دون عصر، ولا وصفهم بتقدم وأولية ونحوهما، وكان شاملًا لجميع من يتبع السابقين الأولين، كان لازم ذلك أن يصنَّف المؤمنون غير المنافقين من يوم البعثة إلى يوم البعث في الآية ثلاثة أصناف: السابقون الأولون من المهاجرين، والسابقون الأولون من الأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، والصنفان الأولان فاقدان لوصف التبعية، وإنما هما إمامان متبوعان لغيرهما، والصنف الثالث ليس متبوعًا إلا بالقياس»([4]).
فالصحابة على وجه العموم يجب اتباعهم في نقل القرآن والسنة وفهمِهما، لكن اختص هذا الحديث بذكر الخلفاء الراشدين؛ لاختصاصهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بطول الصحبة والقرب منه، فسنتهم هي نفس سنته لا غير، قال الشاطبي: «فَقَرَنَ كَمَا تَرَى سُنَّةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِسُنَّتِهِ، وَإِنَّ مِنِ اتِّبَاعِ سُنَّتِهِ اتِّبَاعَ سُنَّتِهِمُ، وَإِنَّ الْمُحْدَثَاتِ خِلَافُ ذَلِكَ، لَيْسَتْ مِنْهَا فِي شَيْءٍ، لِأَنَّهُمْ ي فِيمَا سَنُّوهُ: إِمَّا مُتَّبِعُونَ لِسُّنَّةِ نَبِيِّهِمْ نَفْسِهَا، وَإِمَّا مُتَّبِعُونَ لِمَا فَهِمُوا مِنْ سُنَّتِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ عَلَى وَجْهٍ يَخْفَى عَلَى غَيْرِهِمْ مِثْلُهُ، لَا زَائِدَ عَلَى ذَلِكَ»([5]).
فليس للخلفاء سنة مستقلة عن رسول الله ، وإنما هم تبع له، فلا تخرج سنتهم من أن تكون نقلًا عنه بالنص، أو فهمًا واستنباطًا من النصوص كما قال الإمام الشاطبي، ولهذا قال النبي ق: «تمسَّكُوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجِذِ» ولم يقل تمسكوا بهما، وعضوا عليهما بالنواجذ؛ لأن السنة واحدة وهي سنة رسول الله، والواو في قوله عليه الصلاة والسلام: «بسُنتي وسنة الخلفاءِ الراشدين» تفيد اشتراك المعطوف والمعطوف عليه، ولا تفيد الترتيب ولا التعقيب، ونظيرها في القرآن قوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ {البقرة:238}، فمن المعلوم أن الصلاة الوسطى هي من جنس الصلوات ولم تكن زائدة عليها، ففي لغة العرب عطفُ الشيء على نفسه من باب التأكيد؛ ولذلك نقول: كما أن الصلاة الوسطى من جنس الصلوات، ولا تقتضي الواو التغاير، فكذلك هي سنة الخلفاء الراشدين بالنسبة لسنة رسول الله لا تقتضي المغايرة؛ لأنها من نفس الجنس، والقرينة الدالة على ما قلناه أن لفظ الحديث: «فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء» فكلاهما معرف بالإضافة، فاذا كانا كلاهما معرفًا فالغالب أن الثاني هو الأول.
قال السيوطي: «فَإِنْ كَانَا مَعْرِفَتَيْنِ فَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ غَالِبًا دَلَالَةً عَلَى الْمَعْهُودِ الَّذِي هُوَ فِي الْأَصْلِ فِي اللَّامِ أَوِ الْإِضَافَةِ نَحْوَ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ {الفاتحة:6-7}»([6]).
والقرينةُ الأخرى قوله ق: «تمسَّكُوا بها، وعَضُّوا عليها» بالمفرد لا المثنى؛ وذلك لأن المؤدى واحد، وهذا نظير قوله تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ﴾ {التوبة:62}؛ وذلك لأن إرضاء الله تعالى لا ينفك عن إرضاء الرسول، ولهذا قال الله تعالى: ﴿مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ {النساء:80}، فلما كان التلازمُ متحققًا للطاعة والرضى أفرد الضمير، ولهذا قال الإمام السيوطي: «مِثَالُ إِطْلَاقِ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُثَنَّى: ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ {التوبة:62} أَيْ: يُرْضُوهُمَا، فَأُفْرِدَ لِتَلَازُمِ الرِّضَاءَيْنِ»([7]).
وقال أبو عبيدة: «﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا﴾ {التوبة:34} صار الخبر عن أحدهما، ولم يقل (ولا ينفقونهمَا) والعرب تفعل ذلك، إذا أشركوا بين اثنين قصروا فخبّروا عن أحدهما استغناء بذلك وتخفيفًا؛ لمعرفة السامع بأن الآخر قد شاركه ودخل معه في ذلك الخبر»([8]).
ومن يعترض على عَوْدِ الضمير للأقرب فيقول: التمسك بالسنة والعض عليها بالنواجذ يكون لسنة الخلفاء لأنها الأقرب، فهذا مخطئ؛ لأن الله تعالى قال: ﴿لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ {الفتح:9} فالضمير في قوله تعالى: ﴿وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ لو عاد للأقربِ وهو الرسول لفسَد المعنى، فيعود التسبيح لله تعالى قطعًا.
ولهذا نقول: إن قوله: «تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ» يفيد بأنه لا يحصل التمسك بأحدهما إلا والآخر معه، فتبين من هذا معنى الحديث، وأن المراد منه هو الحث والتمسك بسيرة الخلفاء الراشدين ي بما نقلوه عن رسول الله ق، وبما استنبطوه وفهموه من نصوص القرآن والسنة.
قال الملا علي القاري: «(فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي): اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى الْزَمُوا، أَيْ: بِطَرِيقَتِي الثَّابِتَةِ عَنِّي وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا (وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ): فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا إِلَّا بِسُنَّتِي، فَالْإِضَافَةُ إِلَيْهِمْ إِمَّا لِعَمَلِهِمْ بِهَا، أَوْ لِاسْتِنْبَاطِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ إِيَّاهَا (الْمَهْدِيِّينَ)، أَيِ: الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ إِلَى الْحَقِّ. قِيلَ: هُمُ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ ي؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً». وَقَدِ انْتَهَتْ بِخِلَافَةِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ.
قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَوَصْفُ الرَّاشِدِينَ بِالْمَهْدِيِّينَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُهْتَدِيًا فِي نَفْسِهِ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ هَادِيًا لِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يُوقِعُ الْخَلْقَ فِي الضَّلَالَةِ مِنْ حَيْثُ لَا يُشْعِرُهُمْ، الصِّدِّيقُ، وَالْفَارُوقُ، وَذُو النُّورَيْنِ، وَأَبُو تُرَابٍ عَلِيٌّ الْمُرْتَضَى أَجْمَعِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا أَفْضَلَ الصَّحَابَةِ، وَوَاظَبُوا عَلَى اسْتِمْطَارِ الرَّحْمَةِ مِنَ السَّحَابَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَخَصَّهُمُ اللهُ بِالْمَرَاتِبِ الْعَلِيَّةِ وَالْمَنَاقِبِ السَّنِيَّةِ، وَوَطَّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى مَشَاقِّ الْأَسْفَارِ وَمُجَاهَدَةِ الْقِتَالِ مَعَ الْكُفَّارِ، أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِمَنْصِبِ الْخِلَافَةِ الْعُظْمَى وَالتَّصَدِّي إِلَى الرِّئَاسَةِ الْكُبْرَى لِإِشَاعَةِ أَحْكَامِ الدِّينِ وَإِعْلَاءِ أَعْلَامِ الشَّرْعِ الْمَتِينِ رَفْعًا لِدَرَجَاتِهِمْ وَازْدِيَادًا لِمَثُوبَاتِهِمْ([9]).
قال ابن القيم: «وَهَذَا يَتَنَاوَلُ مَا أَفْتَوْا بِهِ وَسَنُّوهُ لِلْأُمَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْ نَبِيِّهِمْ فِيهِ شَيْءٌ، وَإِلَّا كَانَ ذَلِكَ سُنَّتَهُ، وَيَتَنَاوَلُ مَا أَفْتَى بِهِ جَمِيعُهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ ذَلِكَ بِمَا سَنَّهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَسُنُّوا ذَلِكَ [وَهُمْ خُلَفَاءُ] فِي آنٍ وَاحِدٍ، فَعُلِمَ أَنَّ مَا سَنَّهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي وَقْتِهِ فَهُوَ مِنْ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ»([10]).
وقال ابن تيمية: «وَالَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنَّهُ حُجَّةٌ مَا كَانَ مِنْ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الَّذِي سَنُّوهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِن الصَّحَابَةِ خَالَفَهُمْ فِيهِ فَهَذَا لَا رَيْبَ أَنَّهُ حُجَّةٌ بَلْ إجْمَاعٌ. وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاء»»([11]).
ثانيًا: ورد في كتب الرافضة أن علي بن أبي طالب له سنة كالنبي!
ففي الكافي بسنده عن: «حَنَانِ بْنِ سَدِيرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبِي وَجَدِّي وَعَمِّي حَمَّامًا بِالْمَدِينَةِ؛ فَإِذَا رَجُلٌ فِي بَيْتِ الْمَسْلَخِ فَقَالَ لَنَا: مِمَّنِ الْقَوْمُ؟ فَقُلْنَا: مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَقَالَ: وَأَيُّ الْعِرَاقِ؟ قُلْنَا: كُوفِيُّونَ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِكُمْ يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ، أَنْتُمُ الشِّعَارُ دُونَ الدِّثَارِ، ثُمَّ قَالَ: مَا يَمْنَعُكُمْ مِنَ الْأُزُرِ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله قَالَ: «عَوْرَةُ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَرَامٌ»، قَالَ: فَبَعَثَ إِلَى أَبِي كِرْبَاسَةً فَشَقَّهَا بِأَرْبَعَةٍ، ثُمَّ أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا وَاحِدًا، ثُمَّ دَخَلْنَا فِيهَا، فَلَمَّا كُنَّا فِي الْبَيْتِ الْحَارِّ صَمَدَ لِجَدِّي، فَقَالَ: يَا كَهْلُ، مَا يَمْنَعُكَ مِنَ الْخِضَابِ، فَقَالَ لَهُ جَدِّي: أَدْرَكْتُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي وَمِنْكَ لَا يَخْتَضِبُ، قَالَ: فَغَضِبَ لِذَلِكَ حَتَّى عَرَفْنَا غَضَبَهُ فِي الْحَمَّامِ، قَالَ: وَمَنْ ذَلِكَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، فَقَالَ: أَدْرَكْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ لَا يَخْتَضِبُ، قَالَ: فَنَكَسَ رَأْسَهُ وَتَصَابَّ عَرَقًا، فَقَالَ: صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ، ثُمَّ قَالَ: يَا كَهْلُ، إِنْ تَخْتَضِبْ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله قَدْ خَضَبَ، وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ ، وَإِنْ تَتْرُكْ فَلَكَ بِعَلِيٍّ سُنَّةٌ، قَالَ: فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنَ الْحَمَّامِ سَأَلْنَا عَنِ الرَّجُلِ، فَإِذَا هُوَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ ، وَمَعَهُ ابْنُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ »([12]).
فهل يقول الرافضة بأن سنة عليٍّ مختلفة عن سنة رسول الله؟!
ثالثًا: أقر الشيعة أن لأئمتهم سنةً تشريعيةً.
يقول محمد علي صالح المعلم: «فلهم حق التشريع، وبعبارة أخرى: أنه تعالى فوّض لهم جعل الأحكام بحسب ما يرونه من المصالح، وبناء عليه فلهم التحليل والتحريم والأمر والنهي، لا أنهم مبلّغون عن الله، وبين المعنيين فرق كبير كما لا يخفى....
وأما عن الجهة الثانية، فنقول: إنَّ هذا المنصب ثابت للنبي صلى الله عليه وآله والأئمة بالأدلة الأربعة بلا خلاف، وإنما وقع الخلاف في مصاديق أولي الأمر، فعند الإمامية هم الأئمة من ذريته الذين عيّنهم من بعده، ونصّ عليهم بأسمائهم، وجعلهم أوصياءه وخلفاءه على الأمة»([13]).
ويقول محمد رضا المظفر: «إن الأئمة من آل البيت ليسوا هم من قبيل الرواة عن النبي والمحدثين عنه؛ ليكون قولهم حجة من جهة أنهم ثقات في الرواية، بل لأنهم هم الْمُنَصَّبُون من الله تعالى على لسان النبي لتبليغ الأحكام الواقعية، فلا يحكون إلا عن الأحكام الواقعية عند الله تعالى كما هي، وذلك من طريق الإلهام كالنبي من طريق الوحي، أو من طريق التلقي من المعصوم قبله، كما قال مولانا أمير المؤمنين : «علمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألف باب من العلم، ينفتح لي من كل باب ألف باب».
وعليه، فليس بيانهم للأحكام من نوع رواية السنة وحكايتها، ولا من نوع الاجتهاد في الرأي والاستنباط من مصادر التشريع، بل هم أنفسهم مصدر للتشريع، فقولهم سنة لا حكاية السنة»([14]).
ويقول الطهراني: «وكان مصدر التشريع عند الشيعة آنذاك الكتاب والسنة، ويعنون بالسنة: قول النبي صلى الله عليه وآله أو الإمام (ع)، أو فعلهما، أو تقريرهما»([15]).
بل والأئمة لهم حق التشريع بعد النبي، كما يقول السيستاني في «الرافد في علم الأصول»:
«النسخ: وتحدثنا فيه عن إمكان صدور النسخ من قبل أهل البيت للآية القرآنية والحديث النبوي والحديث المعصومي السابق، وأقسام النسخ من النسخ التبليغي الذي يعني كون الناسخ مودعًا عندهم من قبل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لكنهم يقومون بتبليغه في وقته.
والنسخ التشريعي، وهو عبارة عن صدور النسخ منهم ابتداءً، وهذا يبتني على ثبوت حق التشريع لهم كما كان ثابتًا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم»([16]).
ولذلك جاء في (الكافي) أن الإمام يُحِلُّ ما يشاء ويُحَرِّم ما يشاء، فقد رووا عن محمد بن سنان قال: «كنت عند أبي جعفر الثاني فأجريت اختلاف الشيعة، فقال: يا محمد، إن الله تبارك وتعالى لم يزل متفردًا بوحدانيته، ثم خلق محمدًا وعليًّا وفاطمة، فمكثوا ألف دهر، ثم خلق جميع الأشياء، فأشهدهم خلقها وأجرى طاعتهم عليها وفوض أمورها إليهم، فهم يحلون ما يشاؤون ويحرمون ما يشاؤون، ولن يشاؤوا إلا أن يشاء الله تبارك وتعالى، ثم قال: يا محمد، هذه الديانة التي من تدينها مرق، ومن تخلف عنها محق، ومن لزمها لحق، خذها إليك يا محمد»([17]).
فهذه سنة تشريعية صريحة بعد النبي قد أقر بها الشيعة قاطبة لأئمتهم، وهذا عين القول بالنبوة بعد النبي؛ ليعلم الشيعي الخدعة التي جاء بها من صنع دينه؛ ليبطل به تشريع خاتم النبيين باسم الأئمة وأهل البيت!!
وأختم الجواب عن هذه الشبهة بنقل كلام لأحد مراجعهم المعاصرين، وهو من يسمونه بآية الله العظمى صادق الحسيني الشيرازي، قال: «من لوازم مقام السيدة فاطمة الزهراء مسألة الولاية التشريعية والولاية التكوينية؛ فإذا ما قالت السيدة الزهراء شيئًا يصبح من الواجب على جميع الأنبياء والأولياء والملائكة وسائر الخلق من الإنس والجان، الامتثال له، كما أكّده حديث الإمام الباقر ، فهي حجة على النساء والرجال»([18]).
فهل من متعقل متدبر؟ أم هو الإرجاف المجرد عن الإنصاف؟ وصدق القائل: «رمتني بدائها وانسلت».
اقرأ أيضا| استدلالهم بحديث (مدينة العلم) على أن الصديق لم يكن أعلم الصحابة
([1]) وركبت السفينة، مروان خليفات (1/318).
([2]) «حديث صحيح بطرقه وشواهده، وهذا إسناد حسن» مسند الإمام أحمد، تحقيق شعيب الأرناؤوط (28/367)، وسنن أبي داود (4/201)، وصحيح ابن حبان (1/178)، وسنن الدارمي (1/229)، والمعجم الكبير (18/245)
([3]) صحيح الإرواء برقم (2455)، المشكاة (ص165)، الظلال (ص26 - 34)، صحيح وضعيف سنن ابن ماجه (1/114).
([4]) الميزان في تفسير القرآن، الطباطبائي (9/373).
([5]) الاعتصام، الشاطب (1/118).
([6]) الإتقان، السيوطي (2/351).
([7]) الإتقان السيوطي (3/129).
([8]) مجاز القرآن، أبو عبيدة معمر بن المثنى (1/257).
([9]) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 252).
([10]) إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/107) ط العلمية.
([11]) مجموع الفتاوى (20/573).
([12]) الكافي (6/497 – 498)، وقال المجلسي في مرآة العقول: «موثق» (22/398).
([13]) التقية في فقه أهل البيت، محمد علي صالح المعلم (2/347).
([14]) أصول الفقه محمد رضا المظفر (3/64)، وذكر هذا أيضًا إبراهيم إسماعيل شهركاني في كتابه «المفيد في شرح أصول الفقه» (2/85).
([15]) حصر الاجتهاد لآقا بزرگ الطهراني (ص34).
([16]) «الرافد في علم الأصول، تقرير بحث السيستاني»، السيد منير (ص26).
([17]) الكافي (1/648)، بحار الأنوار (15/19)، حلية الأبرار (1/17).
([18]) نيل رضا المعصوم S (ص٢٥ - ٢٦)، محاضرة لمرجعهم الديني صادق الشيرازي ألقاها في 15 شعبان 1423هـ.
لتحميل الملف pdf