قالت الشيعة: إن علي بن أبي طالب أعلم الصحابة، ولم يجهل مسألة قط، وهو الأعلم بعد رسول الله على الإطلاق بدلالة حديث مدينة العلم([1]).
الرد التفصيلي على الشبهة:
أولاً: حديث مدينة العلم ساقط إسنادًا ومتنًا.
أما من ناحية الإسناد: فقد جمعَ طرقه الشيخ الألباني في «السلسلة الضعيفة» ثم قال: «وجملة القول: أن حديث الترجمة ليس في أسانيده ما تقوم به الحجة، بل كلها ضعيفة، وبعضها أشدُّ ضعفًا من بعض، ومَن حسَّنه أو صحَّحه لم ينتبِهْ لعنعنة الأعمش في الإسناد الأول»([2]).
وأما من ناحية المتن: فقد رد على ذلك شيخ الإسلام ابن تيميَّة في (منهاج السنة) فقال: «وَحَدِيثُ: «أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا» أَضْعَفُ وَأَوْهَى؛ وَلِهَذَا إِنَّمَا يُعَدُّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ، وَإِنْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَبَيَّنَ أَنَّ سَائِرَ طُرُقِهِ مَوْضُوعَةٌ، وَالْكَذِبُ يُعْرَفُ مِنْ نَفْسِ مَتْنِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ إِذَا كَانَ مَدِينَةَ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا إِلَّا بَابٌ وَاحِدٌ، وَلَمْ يُبَلِّغْ عَنْهُ الْعِلْمَ إِلَّا وَاحِدٌ، فَسَدَ أَمْرُ الْإِسْلَامِ؛ وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُبَلِّغُ عَنْهُ الْعِلْمَ وَاحِدًا، بل يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُبَلِّغُونَ أَهْلَ التَّوَاتُرِ الَّذِينَ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ لِلْغَائِبِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ إِلَّا بِقَرَائِنَ، وَتِلْكَ قَدْ تَكُونُ مُنْتَفِيَةً، أَوْ خَفِيَّةً عَنْ أَكْثَرِ النَّاسِ، فَلَا يَحْصُلُ لَهُمُ الْعِلْمُ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَإِذَا قَالُوا ذَلِكَ الْوَاحِدُ الْمَعْصُومُ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِ.
قِيلَ لَهُمْ: فَلَا بُدَّ مِنَ الْعِلْمِ بِعِصْمَتِهِ أَوَّلًا، وَعِصْمَتُهُ لَا تَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ خَبَرِهِ قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ عِصْمَتُهُ، فَإِنَّهُ دَوْرٌ، وَلَا تَثْبُتُ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّهُ لَا إِجْمَاعَ فِيهَا، وَعِنْدَ الْإِمَامِيَّةِ إِنَّمَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً ; لِأَنَّ فِيهِمُ الْإِمَامَ الْمَعْصُومَ، فَيَعُودُ الْأَمْرُ إِلَى إِثْبَاتِ عِصْمَتِهِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، فَعُلِمَ أَنَّ عِصْمَتَهُ لَوْ كَانَتْ حَقًّا لَا بُدَّ أَنْ تُعْلَمَ بِطَرِيقٍ آخَرَ غَيْرِ خَبَرِهِ.
فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِمَدِينَةِ الْعِلْمِ بَابٌ إِلَّا هُوَ، لَمْ يَثْبُتْ لَا عِصْمَتُهُ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إِنَّمَا افْتَرَاهُ زِنْدِيقٌ جَاهِلٌ ظَنَّهُ مَدْحًا، وَهُوَ مَطْرَقُ الزَّنَادِقَةِ إِلَى الْقَدْحِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ إِذْ لَمْ يُبَلِّغْهُ إِلَّا وَاحِدٌ.
ثُمَّ إِنَّ هَذَا خِلَافُ الْمَعْلُومِ بِالتَّوَاتُرِ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ مَدَائِنِ الْإِسْلَامِ بَلَغَهُمُ الْعِلْمُ عَنِ الرَّسُولِ مِنْ غَيْرِ عَلِيٍّ، أَمَّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ فَالْأَمْرُ فِيهِمَا ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ الشَّامُ وَالْبَصْرَةُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا يَرْوُونَ عَنْ عَلِيٍّ إِلَّا شَيْئًا قَلِيلًا، وَإِنَّمَا كَانَ غَالِبُ عِلْمِهِ فِي الْكُوفَةِ، وَمَعَ هَذَا فَأَهْلُ الْكُوفَةِ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَلَّى عُثْمَانُ فَضْلًا عَنْ عَلِيٍّ وَفُقَهَاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ تَعَلَّمُوا الدِّينَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، وَتَعْلِيمُ مُعَاذٍ لِأَهْلِ الْيَمَنِ وَمُقَامُهُ فِيهِمْ أَكْثَرُ مِنْ عَلِيٍّ، وَلِهَذَا رَوَى أَهْلُ الْيَمَنِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَكْثَرَ مِمَّا رَوَوْا عَنْ عَلِيٍّ، وَشُرَيْحٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ إِنَّمَا تَفَقَّهُوا عَلَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَلَمَّا قَدِمَ عَلِيٌّ الْكُوفَةَ كَانَ شُرَيْحٌ فِيهَا قَاضِيًا، وَهُوَ وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ تَفَقَّهَا عَلَى غَيْرِهِ، فَانْتَشَرَ عِلْمُ الْإِسْلَامِ فِي الْمَدَائِنِ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ عَلِيٌّ الْكُوفَةَ»([3]).
ثانيًا: جاءت أحاديث كثيرة تدل على أسبقية أبي بكر ا في العلم على سائر الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ومنها:
ما رواه الحاكم في (المستدرك): «عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ كَانَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ كَسَرَ سَيْفَ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ قَامَ أَبُو بَكْرٍ فَخَطَبَ النَّاسَ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ: وَاللهِ مَا كُنْتُ حَرِيصًا عَلَى الْإِمَارَةِ يَوْمًا وَلَا لَيْلَةً قَطُّ، وَلَا كُنْتُ فِيهَا رَاغِبًا، وَلَا سَأَلْتُهَا اللهَ فِي سِرٍّ وَلَا عَلَانِيَةٍ، وَلَكِنِّي أَشْفَقْتُ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَمَا لِي فِي الْإِمَارَةِ مِنْ رَاحَةٍ، وَلَكِنْ قُلِّدْتُ أَمْرًا عَظِيمًا مَا لِي بِهِ مِنْ طَاقَةٍ وَلَا يَدَ إِلَّا بِتَقْوِيَةِ اللهِ، وَلَوَدِدْتُ أَنَّ أَقْوَى النَّاسِ عَلَيْهَا مَكَانِي الْيَوْمَ، فَقَبِلَ الْمُهَاجِرُونَ مِنْهُ مَا قَالَ وَمَا اعْتَذَرَ بِهِ، قَالَ عَلِيٌّ ا وَالزُّبَيْرُ: مَا غَضِبْنَا إِلَّا لِأَنَّا قَدْ أُخِّرْنَا عَنِ الْمُشَاوَرَةِ، وَإِنَّا نَرَى أَبَا بَكْرٍ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا بَعْدَ رَسُولِ اللهِ ، إِنَّهُ لِصَاحِبُ الْغَارِ، وَثَانِيَ اثْنَيْنِ، وَإِنَّا لَنَعْلَمُ بِشَرَفِهِ وَكِبَرِهِ، «وَلَقَدْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ ق بِالنَّاسِ وَهُوَ حَيٌّ». وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ»([4]).
وقد كان مرض النبي على الراجح ثلاثة عشر يومًا، كما قال الحافظ ابن حجر([5])، فلم يكن للمسلمين إمام في فترة مرضه إلا الصديق، وقد صح عن النبي أنه قال: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً، فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً...»([6]).
وعن صدوقهم: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «إمام القوم وافدهم، فقدِّموا أفضلكم»، وقال: «إنْ سَرَّكُمْ أنْ تزكو صلاتُكم فقدموا خياركم»، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: «من صلى بقوم وفيهم من هو أعلم منه؛ لم يزل أمرهم إلى سفال إلى يوم القيامة»([7]).
وقال البحراني: «والمستفاد من عموم الآيات وكثير من الروايات، بل والدليل العقلي أيضًا هو تقديم الأعلم، كما اخترناه، وإليه مال جمع من (متأخري المتأخرين) منهم: (المحدث الكاشاني، والفاضل المحقق ملا محمَّد باقر الخراساني صاحب الكفاية والذخيرة، والمحدث الشيخ محمَّد الحرّ العاملي (قدس سرهم).
ومن الآيات:
قوله سبحانه: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ {الزمر:9}.
وقوله : ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ ۖ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ {يونس:35}.
ومن الأخبار:
ما رواه في (الفقيه) عنه صلى الله عليه وآله قال: (إمام القوم وافدهم، فقدِّموا أفضلكم)، قال: قال عليٌّ: (إن سَرَّكم أن تزكو صلاتكم فقدِّموا خياركم).
وروي في (الفقيه) ومثله (الشيخ في كتابي الأخبار مرسلًا) في الأول (ومسندًا) في الثاني قالا: قال النبي صلى الله عليه وآله: «من أمَّ قومًا وفيهم من هو أعلم؛ لم يزل أمرهم إلى سفال إلى القيامة».
وفي رواية الصدوق: هذه الأخبار في (الفقيه)، وعدم نقله لخبر (أبي عبيدة) دليل على أن عمله على هذه الأخبار كما هو معلوم من قاعدته.
وروي في (كتاب قرب الإسناد في الموثق عن جعفر بن محمّد) عن آبائه أن النبي صلى الله عليه وآله قال: (إن أئمتكم وفدكم إلى الله، فانظروا من توفدون في دينكم وصلاتكم).
ويؤيده أيضًا: ما في (حسنة زرارة) قال: قلت: أصلي خلف الأعمى؟ قال: «نعم إذا كان له من يسدده، وكان أفضلهم»، ويعضده ما دل عليه العقل والنقل من قبح تقديم المفضول على الفاضل (ثم الأقرأ)»([8]).
فثبت من ذلك أن الصِّدِّيق هو الأعلم والأفضل في الصحابة على الإطلاق.
ثالثًا: أنكر بعضُ الشيعة صلاة أبي بكر بالناس في مرض رسول الله ق حقدًا على الصديق، ونحن نقول: إنه قد ثبت عند السنة والشيعة مرض رسول الله ، ولا بد من إمام للناس في فترة مرضه، وقد عُلم بالتواتر ذلك عن أبي بكر، فإن أبيتم إلا إنكار ذلك، فأتونا برواية صحيحة على مبانيكم تقول بأن النبي أمر عليًّا أن يصلي بالناس في مرضه الأخير، ودون ذلك خرط القتاد فضلًا عن إثبات التواتر.
بل لقد اعترف مشايخ الشيعة بذلك، ومنهم محمد رضا المظفر في كتابه (السقيفة) الذي قال: «أما قضية تقديمه للصلاة فإن صحت، وهي صحيحة بمعنى أنه صلى بالمسلمين»([9]).
ونقل هاشم البحراني عن ابن أبي الحديد «شارح نهج البلاغة» قال: «وقال علِي والزبير: ما غضبنا إلا في المشورة، وإنا لنرى أن أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار وثاني اثنين، وإنا لنعرف له سِنه، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وآله بالصلاة وهو حي»([10]).
رابعًا: لا شك أن أعرف الناس بالرجل أصحابه، وقد اتفق أصحاب الصديق على تقديمه على علِي، وأنه كان أعلم الناس برسول الله، ففي الصحيحين عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللهِ»، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ؟ إِنْ يَكُنِ اللهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللهِ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ هُوَ العَبْدَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا، قَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ لَا تَبْكِ، إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ، لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ، إِلَّا بَابُ أَبِي بَكْرٍ»([11]).
فهذا أبو سعيد الخدري يقول: (وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا).
ولما اختلفوا في موضع دفنِه ما وجدوا عند أحد علمًا بذلك إلا الصديق، فقد روى الترمذي بسنده عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ اخْتَلَفُوا فِي دَفْنِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ شَيْئًا مَا نَسِيتُهُ، قَالَ: «مَا قَبَضَ اللهُ نَبِيًّا إِلَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ»، ادْفِنُوهُ فِي مَوْضِعِ فِرَاشِهِ: «هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُلَيْكِيُّ يُضَعَّفُ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الوَجْهِ، فَرَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، عَنِ النَّبِيِّ أَيْضًا»([12]).
بل لقد اعترف عليٌّ أنه تعلَّم من أبي بكر، فقد روى الإمام أحمد بسند صحيح: «عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ حَدِيثًا نَفَعَنِي اللهُ بِمَا شَاءَ مِنْهُ، وَإِذَا حَدَّثَنِي عَنْهُ غَيْرِي اسْتَحْلَفْتُهُ، فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ ا حَدَّثَنِي -وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ، -قَالَ مِسْعَرٌ: وَيُصَلِّي، وَقَالَ سُفْيَانُ: ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ-، فَيَسْتَغْفِرُ اللهَ إِلَّا غُفَرَ لَهُ»([13]).
قال العلامة المباركْفُوري: «(وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ) أَيْ عَلِمْتُ صِدْقَهُ فِي ذلك على وجه الكلام بلا حلف، وقال ابن حَجَرٍ: بَيَّنَ بِهَا عَلِيٌّ ا جَلَالَةَ أَبِي بَكْرٍ وَمُبَالَغَتَهُ فِي الصِّدْقِ حَتَّى سَمَّاهُ رَسُولُ اللهِ صديقًا»([14]).
وقال ابو العباس ابن تيمية: «وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ عَلِيًّا أَخَذَ الْعِلْمَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِنَ النَّبِيِّ ق حَدِيثًا نَفَعَنِي اللهُ بِهِ مَا شَاءَ أَنْ يَنْفَعَنِي، وَإِذَا حَدَّثَنِي غَيْرُهُ حَدِيثًا اسْتَحْلَفْتُهُ، فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ، وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيُحْسِنَ الطُّهُورَ، ثُمَّ يَقُومَ فَيُصَلِّي، ثُمَّ يَسْتَغْفِرَ اللهَ إِلَّا غَفَرَ اللهُ لَهُ»»([15])
خامسًا: طريق معرفة تقديم الصديق على سائر الصحابة في العلم لخصه ابن حزم بكلام نفيس أنقله بنصه لنفاسته؛ حيث قال: «وَإِنَّمَا يعرف علم الصَّحَابِيّ لأحد وَجْهَيْن لَا ثَالِث لَهما، أَحدهمَا: كَثْرَة رِوَايَته وفتاويه، وَالثَّانِي: كَثْرَة اسْتِعْمَال النَّبِي لَهُ، فَمن الْمحَال الْبَاطِل أَن يسْتَعْمل النَّبِيُّ مَن لَا علم لَهُ، وَهَذِه أكبرُ شَهَادَات على الْعلم وسعته، فَنَظَرْنَا فِي ذَلِك فَوَجَدنَا النَّبِي قد ولى أَبَا بكر الصَّلَاة بِحَضْرَتِهِ طولَ علتِه وَجَمِيع أكَابِر الصَّحَابَة حُضُور كعلي وَعمر وَابْن مَسْعُود وَأبي وَغَيرهم، فآثره بذلك على جَمِيعهم، وَهَذَا خلاف استخْلَافه إِذا غزا؛ لِأَن الْمُسْتَخْلَف فِي الْغَزْوَة لم يستخلَف إِلَّا على النِّسَاء وَذَوي الْأَعْذَار فَقَط، فَوَجَبَ ضَرُورَة أَن نعلم أَن أَبَا بكر أعلم النَّاس بِالصَّلَاةِ وشرائعهما، وَأعلم الْمَذْكُورين بهَا، وَهِي عَمُود الدِّين، ووجدناه ق قد اسْتَعْملهُ على الصَّدقَات، فَوَجَبَ ضَرُورَة أَن عِنْده من علم الصَّدقَات كَالَّذي عِنْد غَيره من عُلَمَاء الصَّحَابَة لَا أقل، وَرُبمَا كَانَ أَكثر؛ إِذْ قدِ اسْتعْمل أَيْضا عَلَيْهَا غَيره، وَهُوَ لَا يسْتَعْمل إِلَّا عَالمًا بِمَا اسْتَعْملهُ عَلَيْهِ، وَالزَّكَاةُ ركن من أَرْكَان الدّين بعد الصَّلَاة، وبرهان مَا قُلْنَا من تَمام علم أبي بكر بالصدقات: أَن الْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي الزَّكَاة أَصَحهَا، وَالَّذِي يلْزم الْعلم بِهِ وَلَا يجوز خِلَافه، فَهُوَ حَدِيث أبي بكر ثمَّ الَّذِي من طَرِيق عمر، وَأما من طَرِيق عَليّ فمضطرب، وَفِيه مَا قد تَركه الْفُقَهَاء جملَة، وَهُوَ أَن فِي خمس وَعشْرين من الْإِبِل خمس شِيَاه، وَوجدنَا قد اسْتعْمل أَبَا بكر على الْحَج، فصح ضَرُورَة أَنه أعلم من جَمِيع الصَّحَابَة بِالْحَجِّ، وَهَذِه دعائم الْإِسْلَام، ثمَّ وَجَدْنَاهُ قد اسْتَعْملهُ على الْبعُوث، فصح أَن عِنْده من أَحْكَام الْجِهَاد مثل مَا عِنْد سَائِر من اسْتَعْملهُ رَسُول الله على الْبعُوث فِي الْجِهَاد؛ إِذْ لَا يسْتَعْمِلُ على الْعَمَل إِلَّا عَالِمًا بِهِ، فَعِنْدَ أبي بكر من الْجِهَاد من الْعلم بِهِ كَالَّذي عِنْد عَليّ وَسَائِر أُمَرَاء الْبعُوث لَا أَكثر وَلَا أقل؛ فَإذْ قد صَحَّ التَّقَدُّم لأبي بكر على عَليّ وَغَيره فِي علم الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالْحج وساواه فِي علم الْجِهَاد فَهَذِهِ عُمْدَة الْعلم، ثمَّ وَجَدْنَاهُ قد ألزم نَفسه فِي جُلُوسه ومرآته وظعنه وإقامته أَبَا بكر مشَاهد أَحْكَامه وفتاويه أَكثر من مُشَاهدَة عَليّ لَهَا، فصح ضَرُورَة أَنه أعلم بهَا، فَهَل بقيت من الْعلم بَقِيَّة إِلَّا وَأَبُو بكر الْمُتَقَدّم فِيهَا الَّذِي لَا يلْحق أَو المشارك الَّذِي لَا يسْبق، فبطلت دَعوَاهُم فِي الْعلم، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين.
وَأما الرِّوَايَة وَالْفَتْوَى: فَإِن أَبَا بكر ا لم يَعش بعد رَسُول الله إِلَّا سنتَيْن وَسِتَّة أشهر، وَلم يُفَارق الْمَدِينَة إِلَّا حَاجًا أَو مُعْتَمِرًا، وَلم يحْتَج النَّاس إِلَى مَا عِنْده من الرِّوَايَة عَن رَسُول الله؛ لِأَن كل من حواليه أدركوا النَّبِي، وعَلى ذَلِك كُله فقد رُوِيَ عَن النَّبِي مائَة حَدِيث وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا مستندة، وَلم يرو عَن عَليّ إِلَّا خمسمائَة وست وَثَمَانُونَ حَدِيثا مُسندَة يَصح مِنْهَا نَحْو خمسين، وَقد عَاشَ بعد رَسُول الله أكثر من ثَلَاثِينَ سنة، وَكثر لِقَاء النَّاس إِيَّاه وحاجتهم إِلَى مَا عِنْده لذهاب جُمْهُور الصَّحَابَة، وَكثر سَماع أهل الآفاق مِنْهُ مرّة بصفين وأعوامًا بِالْكُوفَةِ وَمرَّة بِالْبَصْرَةِ وَالْمَدينَة، فَإِذا نسبنا مُدَّة أبي بكر من حَيَاته، وأضفنا تطواف علي بالْبِلَاد بَلَدًا بَلَدًا وَكَثْرَة سَماع النَّاس مِنْهُ، إِلَى لُزُوم أبي بكرٍ موطنه، وَأَنه لم تكْثر حَاجَة من حواليه إِلَى الرِّوَايَة عَنهُ، ثمَّ نسبنا عدد حَدِيث من عدد حَدِيث وفتاوى من فتاوى علم كل ذِي حَظّ من الْعلم أَن الَّذِي كَانَ عِنْد أبي بكر منَ الْعلم أَضْعَاف مَا كَانَ عِنْد عَليّ مِنْهُ، وبرهان على ذَلِك: أَن من عُمِّرَ من أَصْحَاب رَسُول الله عُمرًا قَلِيلًا قل النَّقْل عَنْهُم، وَمن طَال عمره مِنْهُم كثر النَّقْل عَنْهُم، إِلَّا الْيَسِيرَ ممن اكتفى بنيابةِ غَيره عَنهُ فِي تَعْلِيم النَّاس، وَقد عَاشَ عَليّ بعد عُمر بن الْخطاب سَبْعَة عشر عَاما غير أشهر، ومسند عمر خَمْسمِائَة حَدِيث وَسَبْعَة وَثَلَاثُونَ حَدِيثًا، يَصح مِنْهَا نَحْو خمسين كَالَّذي عَن عَليّ سَوَاء بِسَوَاء، فَكل مَا زَاد حَدِيث عَليّ على حَدِيث عمر تِسْعَة وَأَرْبَعين حَدِيثًا فِي هَذِه الْمدَّة الطَّوِيلَة، وَلم يزدْ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيح إِلَّا حَدِيثا أَو حديثين، وفتاوي عمر موازنة لفتاوي عَليّ فِي أَبْوَاب الْفِقْه، فَإِذا نسبنا مُدَّة من مُدَّة، وضربنا فِي الْبِلَاد من ضرب فِيهَا، وأضفنا حَدِيثًا إِلَى حَدِيث وفتاوى إِلَى فتاوى؛ علِم كل ذِي حسٍّ علمًا ضَرُورِيًّا أَن الَّذِي كَانَ عِنْد عمر من الْعلم أَضْعَاف مَا كَانَ عِنْد عَليّ من الْعلم.
ثمَّ وجدنَا الْأَمر كل مَا أَطَالَ كثرت الْحَاجة إِلَى الصَّحَابَة فِيمَا عِنْدهم من الْعلم، فَوَجَدنَا حَدِيث عَائِشَة ل ألفَي مُسْند ومائتي مُسْند وَعشرَة مسانيد، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة خَمْسَة آلَاف مُسْند وثلاثمائة مُسْند وَأَرْبع وَسبعين مُسْندًا، وَوجدنَا مُسْند ابْن عمر وَأنس قَرِيبًا من مُسْند عَائِشَة لكل وَاحِد مِنْهُمَا، وَوجدنَا مُسْند جَابر بْن عبد الله وَعبد الله بن عَبَّاس لكل وَاحِد مِنْهُمَا أَزِيد من ألف وَخَمْسمِائة، وَوجدنَا لِابْنِ مَسْعُود ثَمَانمائة مُسْند ونيفًا، وَلكُل من ذكرنَا حاشا أَبَا هُرَيْرَة وَأنس بن مَالك من الفتاوي أَكثر من فتاوي عَليّ أَو نَحْوهَا، فَبَطل قَول هَذِه الطَّائِفَة الوقاح الْجُهَّال»([16]).
اقرأ أيضا| طعنهم في نسب الصديق.. رد مفصل على شبهات الشيعة
([1]) يُنظر: منهاج الكرامة، الحلي (ص١٦١)، ثم اهتديت، محمد التيجاني (ص١٧٣).
([2]) يُنظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، الألباني (6/518 – 530).
([3]) منهاج السنة النبوية (7/515 -517).
([4]) المستدرك على الصحيحين، الحاكم، مع تعليقات الإمام الذهبي (3/70) حديث رقم (4422).
([5]) فتح الباري، ابن حجر (8/129).
([6]) صحيح مسلم (1/465).
([7]) من لا يحضره الفقيه، الصدوق (1/377 – 378).
([8]) شرح الرسالة الصلاتية، يوسف البحراني (1/159).
([9]) السقيفة (ص50).
([10]) غاية المرام وحجة الخصام في تعيين الإمام، هاشم البحراني (5/340).
([11]) صحيح البخاري (1/100)، وصحيح مسلم (4/1854).
([12]) مختصر الشمائل (326)، صحيح وضعيف سنن الترمذي، الألباني (3/18).
([13]) «مسند أحمد» (1/179) ط الرسالة.
([14]) تحفة الأحوذي، المباركفوري (2/367).
([15]) منهاج السنة، ابن تيمية (5/513).
([16]) الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم (4/ 107 - 109).
لتحميل الملف pdf